سعيد سونا :طالب باحث استهلال: في بداية الأمر لابد أن أشير إلى أن بحثي المتواضع هذا يحاول النبش في الدلالات العلمية لما يسمى الأن" بالربيع العربي" مستخدما أمهات الكتب محاولتا متواضعة مني لمراوغة هذا الإرتباك في التصدي علميا لما يجري حاليا في أقطارنا العربية أو مايسمى إعلاميا بي "الثورات العربية" أو" الربيع العربي" أو" الصحوة العربية ".... فهل ستصمد هاته المسميات أمام التأصيل الشرعي والعلمي والنظر إلى الأمر من زوايا متعددة . وقد أرتأيت أن أقسم دراستي المتواضعة هاته لأربعة أجزاء : فأما الجزء الأول :فمحاولة تأصيل علمي" للربيع العربي" مفهوم الفتنة نموذجا": -"ويل للعرب من شر قد اقترب" مهلا أخي القارئ! ليست هذه العبارة من إنشائي، بل هي مقطع من حديث نبوي ورد في صحيح البخاري ومسلم وفي كتب الحديث الأخرى وذكره المفسرون وغيرهم. والحديث روي عن زينب بنت جحش إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، وأنها قالت: «إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم دَخل عليها فزعاً يقول: لا إلهَ إلا الله، ويلٌ للعرَبِ من شرٍ قد اقترَب: فُتِحَ اليومَ من رَدم (سد) يأجوجَ ومأجوج مثلُ هذا". وحلَّقَ بإصبعهِ وبالتي تليها (جمع بين السبابة والإبهام). فقالت زينبُ: فقلتُ يا رسولَ اللهِ أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثرَ الخَبَث». (ياجوج وماجوج في الموروث الديني اليهودي المسيحي الإسلامي "هم نيف وعشرون أُمة في الشرق الأقصى لا يجتازون بحي ولا ميت من إِنسان إِلا أَكلوه ولا ماءٍ إِلا شربوه"، وخروجهم من السد المقام ضدهم من وقائع قيام القيامة). أورد البخاري هذا الحديث في "كتاب الفتن" من صحيحه، وكذلك فعل آخرون من المؤلفين في الحديث. هناك اختلافات في العبارة، وفي عدد الأحاديث، علاوة على تعدد السند. جميع هذه المسائل التي هي من اختصاص جامعي الحديث وشراحه ونقاد سنده الخ، ليست من اهتمامنا هنا. إن ما يهمنا هو إبراز كون جامعي الحديث، الذين صنفوا ما جمعوا في أقسام (سموها كتبا) تضم أبواب الفقه في الغالب، قد خصصوا قسما ل "الفتن". ومنها "كتاب الفتن" الذي يشتمل في صحيح البخاري على الحديث المذكور أعلاه، تحت عنوان "باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب". موضوع هذا المقال إذن هو "مفهوم الفتنة"، وهو مفهوم إسلامي أصيل ورد في القرآن الكريم عشرات المرات بصيغة الاسم (فتنة، الفتنة) وبصيغة الفعل (فتَن ...)، وقد اخترنا هذا المفهوم لأنه على صلة وثيقة بالمفهومين السابقين اللذين دار الكلام فيهما حول "أخلاقيات التصدي للظلم في الإسلام" وإذا كان مضمون أخلاقيات الثورة في الإسلام يجد اليوم ما يبرره في مايجري من" حراك شعبي" ، فإن مفهوم "الفتنة" يجد تبرير الحديث عنه اليوم هو الآخر في كون تلك" الثورات" بنوعيها قد جعلت جميع أقطار العالمين العربي والإسلامي تعيش حال "الفتنة". والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ذو شقين: ما معنى "الفتنة" وما هي سمات ما عبرنا عنه ب "حال الفتنة" أولا، ثم كيف نفسر هذا الحشد من "الأحاديث" المنسوبة إلى النبي عليه السلام حول موضوع "الفتن". يمكن التمييز في معاني "الفتنة" كما أوردها لسان العرب بين معنيين، أحدهما يخص الفرد من الناس، والثاني يخص الجماعة: 1- الفتنة عندما تربط بالفرد من الناس تعني : الاختبار، والمِحْنة، "يقال: فلان مَفْتُونٌ بطلب الدنيا : قد غَلا في طلبها. والفِتْنةُ: إِعجابُك بالشيء : فَتَنَه جعل فيه فِتْنةً، وأَفْتَنَه أَوصَلَ الفِتْنة إِليه ... ومعنى المَفْتُون الذي فُتِنَ بالجنون ... وافْتَتَنَ في الشيء: فُتِنَ فيه. وفَتَنَ إِلى النساءِ فُتُوناً وفُتِنَ إِليهن: أَراد الفُجُور بهنَّ. والفِتْنة: الضلال والإِثم. وقولهم فتَنَتْ فلانة فُلاناً، قال بعضهم: معناه أَمالته عن القصد، والفِتْنة في كلامهم معناه المُمِيلَةُ عن الحق... والفِتْنةُ: الفَضِيحة. وقوله عز وجل: "ومن يرد الله فِتنْتَه" قيل: معناه فضيحته، وقيل: كفره، قال أَبو إِسحق: ويجوز أَن يكون اختِبارَه بما يَظْهَرُ به أَمرُه". 2- والفِتْنةُ عندما توصف بها الجماعة أو العلاقة بين أعضائها، معناها: "اختلافُ الناس بالآراء، وما يقع بين الناس من القتال". وإذا نحن ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام فإننا سنجد أن "الفتنة" بين المسلمين (بمعنى اختلاف الآراء الذي قد يؤدي إلى الاقتتال) قد ظهرت واضحة بعد وفاة النبي مباشرة، وذلك من خلال اختلاف آرائهم حول من سيخلفه عليه السلام كرئيس للمسلمين. كان الأنصار (من أهل المدينة) قد بادروا إلى عقد اجتماع بسقيفة بني ساعدة لمبايعة زعيمهم، وبمجرد ما علم المهاجرون بذلك التحقوا بالسقيفة وطالبوا بأن يكون الخليفة منهم، وبعد نقاش حاد خرج الاجتماع بمبايعة أبي بكر الصديق عميد المهاجرين. لقد وُضع جد للخلاف فلم يتطور إلى فتنة كما تمكن "أصحاب الشورى" الذين أسند إليهم عمر بن الخطاب اختيار الخليفة بعد وفاته، من التغلب على "أزمة الاختيار" بين المرشحَيْن للخلافة آنذاك علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وذلك بتنصيب هذا الأخير. وقد بقي "شيء" في نفوس أنصار علي وحلفائه، كما في نفوس خصومه والمتحالفين ضده، سرعان ما كشف عن "عمق الأزمة" بين الطرفين بمجرد مقتل عثمان وتنصيب علي خليفة. كان مقتل عثمان امتحانا واختبارا وفتنة لغالبية المسلمين، خاصة وعامة، فكانت "حرب الجمل" التي كانت نوعا من "الثورة/الفتنة على علي قادها الصحابيان الجليلان: طلحة والزبير، وانضمت إليهما السيدة عائشة زوج النبي التي كانت على جمل تتقدم "الثائرين"، فسميت تلك الحرب ب"حرب الجمل"، وكانت أولَ حرب بين المسلمين اهتز لها ضمير أغلبية المسلمين خاصة وعامة. كانت "فتنة" الفتن، وفي نفس الوقت "سابقة" خطيرة جاءت بعدها "الفتنة الكبرى" بين علي ومعاوية التي تعرف ب"حرب صفين"، وهي الحرب التي خلفت نحوًا من تسعين ألف قتيل من المسلمين. وعندما طرح معاوية شعار "التحكيم" : إسناد حل الخلاف بينه وبين علي إلى حكمَين، يقضيان بينهما : أيهما له الحق في الخلافة... حدثت فتنة جديدة: لقد أثيرت مصداقية الحكمين وحقيقة ما انتهيا إليه، ثم أثيرت مسألة "شرعية التحكيم" من طرف جماعات من جنود علي وأصحابه، وجلهم أعراب فرفعوا شعار "لا حكم إلى لله"، إنهم "الخوارج" الذين خاضوا حربا مستمرة ضد علي ومعاوية ثم ضد الأمويين، ولم تنته فتنتهم (أو ثورتهم المستمرة) إلا بعد قيام الدولة العباسية، التي خاضت طوال عصورها حروبا ضد "فتن" الخارجين عليها انطلاقا، ممن بقي من الأمويين الذي اجتثهم اجتثاثا، ما عدا أمير منهم حالفه الحظ فهاجر إلى الأندلس ليؤسس هناك دولة الأمويين ... عانى صدر الإسلام أعني القرن الأول الهجري "حال الفتنة"، متعددة المظاهر والشعارات والأبعاد، كما عرف جماعةً من الصحابة والتابعين اعتزلوا هذه الفتن، وتجندوا لمحاربتها وصد الناس عنها بوسائل سلمية، وسائل "الترهيب والترغيب". وكانت أحاديث ذم الفتن والتحذير منها، واستنكار الخروج على الإمام، والدعوة إلى طاعته الخ...يتبع في الجزء الثاني.