الإحتفاء بأنوال الجريدة احتفاء بالجميل والنظيف الذي يختفي، وهو احتفاء أيضا بتلك الطفولة المقيمة بين أحلام الثورة وعنفوان العقلانية. تجربة تقول كم كانت الصحافة حرة فعلا في أن تكون مستقلة عن شرطها المادي وغير مستقلة أبدا عن شرطها الإنساني والفكري، والإلتزام بالنبل البشري. ففي ذلك اليوم من سنة 1979 حصل عبد اللطيف عواد (النقابة الوطنية للتعليم العالي) وطالع سعود الأطلسي (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب) على إشهاد من النيابة العامة يعلن ميلاد تجربة أنوال، تيمنا بالثورة المظفرة والشامخة لأهلنا بالريف. والمهم، كما يشهد بذلك عواد اليوم، «انطلقت تجربة جريدة «أنوال» بميزانية 5000 درهم سلمت إلينا من طرف المنظمة. ولم يكن لدينا في هذه المرحلة مقر، فكانت محفظتانا، أنا والأطلسي، هي مقر الجريدة». كم تجربة إعلامية يمكنها أن تدعي فعلا كل هذه الروعة في البساطة والقوة في التواضع النضالي؟ ثم كم من مياه جرت تحت هذا الجسر؟ وكم من الحبر النظيف كتب به عواد وعبد السلام المودن وأيت يدر وطالع والأزهر .. وغيرهم كثير من جيل فاره القامة النضالية؟ نحتفي بأنوال كما نحتفي بتراث مشترك بين كل المناضلين والإعلاميين والديمقراطيين، ونترك الكلمة لجزء، جزء من أصواتها يرويها، لا من باب الحصر، بل من باب المتابعة الإعلامية.. وتبقى أنوال أرضنا المشتركة لكل من يريد أن يقيم بنزاهة فوق ترابنا..! في ذكرى تأسيس جريدة « أنوال» تلك الصحيفة / المدرسة... التي كانت يوم 15 نوفمبر 1979 صدر العدد الأول من الجريدة المأسوف على غيابها....«أنوال». الآن، وقد قطعت « أنوال» مسافة جيل بعيدا عن لحظة نشأتها....الآن و نحن نطل على تلك اللحظة من أعالي سنين العمر....الآن و قد «مضى كل إلى غايته»... الآن شلال حنين يتدفق في الذاكرة و منها في الدواخل، حنين إلى ذلك «التعب الجميل»، ذلك العرق الدافئ، الحماس المتزن، ذلك الاندفاع الهادئ، الإيمان العاقل، حنين إلى صخب الفرح، تفاؤل الفكر و صرامة السياسة، صدق الطوية، نشوة النجاحات و حسرة الأخطاء، متعة الارتقاء و أنات العثرات. الحنين إلى تلك الحياة التي أسميت جريدة «أنوال»، والتي ما كان لها أن توجد بالمواصفات المدرسية الصحيحة لتأسيس مؤسسة إعلامية. هي وجدت «بشوية» ألف درهم، محفظة يدوية، مكتب صغير في غرفة نوم صغيرة في شقة عائلية صغيرة... و لكن بصحو الليالي وكد النهارات، بطموح قوي للفعل في التيار المتدفق للقوات الشعبية و باستغراق في المشروع الفكري - السياسي حد التصوف، والتجرد من كوابح الأنانيات المرضية منها و السليمة، الفردية منها و الجماعية، الانصهار في الجهد الجماعي المنافح عن أحلام «ثورية» بقي معظمها حتى الآن... مجرد أحلام، ولكن إيمان بها إلى درجة «الاعتدال»، وهو الأصعب من التطرف، في مواجهة « الوعي المتأخر»... و النهوض بأسس الكتلة الشعبية التاريخية... و هلم طموحات وطنية ، ديمقراطية و قومية. اليوم في حياة الآلاف من شباب الأمس، شيء من «أنوال» لأنها لم تكن محض جريدة. ولعلها في منطلقها لم تكن أصلا جريدة... كانت فكرة سعت إلى التطور إلى جريدة، مع كل تحول في دوريتها من شهرية إلى نصف شهرية إلى أسبوعية و أخيرا إلى يومية من 1992 إلى أن أسلمت الروح 1996 حين هبت عليها تلك «العاصفة». من النزق السياسي الذي دمر حتى أصحابه. ولذلك حافظت على جذوة الفكر فيها حتى و إن تبادل المضمون والشكل أو المهنية فيها مواقع الأهمية ما بين الانطلاق و النهاية. بها أو فيها مارس العديد من أطر نخبة المغرب اليوم تعلم الفكر و السياسة و الإنشداد إلى الشأن العام بحس الفاعل و المتفاعل... يكفي أنها أسهمت بوافر الفعل في تأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الاسم العلني أو التحول الشرعي لمنظمة 23 مارس السرية ( الماركسية- اللينينية)... بل مارسنا الحضور السياسي إلى جانب أحزاب الكتلة الديمقراطية الحالية تحت مسمى «مجموعة أنوال» لسنوات أربع قبل تأسيس المنظمة بكل ما شمله ذلك الحضور من أنشطة مشتركة عامة و محاصصة في المنظمات الجماهيرية... و صاحب فعلها ذاك و ما ارتبط به من كونها حرصت على أن تكون مدرسة فكرية مفتوحة، رصينة و متعددة التخصصات... تقريبا في كل عدد ... مدرسة أنتجت أسماء بارزة اليوم في العطاء الثقافي المغربي العام بما يجعلها متواصلة الحضور حتى وقد امتصها الغياب. غياب وقد كان تحصيل سوء تدبير شعبوي لمنعرج تاريخي في وطننا، لن ينسنا من رحلوا إلى ذاكرتنا وذاكرة الوطن من رفاق لنا حضروا في التجربة بكل ما أتوا من حيوية وكفاءة وإبداع...تبادلنا معهم حرارة صدق الآمال وتٍآزر التدافع في الأعمال... أكلنا معا نفس «ربع كفتة» و شربنا معهم كل ماهو متاح، تقاسمنا نفس الأسرة و تبادلنا ما نملك من أسرار وفتحنا أسرنا على بعضنا البعض بلا حدود و لا صدود... رنات ضحكاتهم ترددها جدران الذاكرة حتى اليوم كلماتهم في هذا المجلس أو ذاك محفورة في سفر حياتنا ،كتاباتهم أو منجزاتهم محفوظة في القلوب...تحاببنا دائما و غضبنا من بعضنا البعض أو حتى اختلفنا مع بعضهم لوجيز زمن وعدنا إلى ماكنا عليه من محبة هي أقوى أبدا في حياتهم و مماتهم... لكل منهم قصة و مسار في كمياء أنوال وفي النسيج الحياتي الخاص لكل واحد من أسرة « أنوال» هم... الرفاق محمد برني، عبد السلام الموذن، حسين كوار، محمد سفير. لأنوال حكايات و أبعاد و نحن اليوم لا نرثيها كما «لا نصنمها»... نقولها اليوم في بعض ما كانت عليه، علها في استحضار ما كانت عليه من التزام بمسؤولية الصحافة اتجاه المجتمع... صحافة المعرفة ببعديها الثقافي و الإعلامي، و صحافة الأخلاق الوطنية و العامة و صحافة التحريض على إعمال العقل و مخاطبته لا إثارة الشهوات أو التهييج أوالتهريج... لعلها بذلك تسهم - باستحضارها- في التحريض على احترام الوطن والمواطنين، لتمكينه وتمكينهم من صحافة المسؤولية عبر تطوير الموجود منها و هو قليل في مواجهة الكثير من «المسخ والسخافة».