إلى ذلك الطفل الذي نظر إلي بعينين واسعتين، وهو يسعل ذات شتاء بارد بقاعة غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالألفة وقال لي: - هل تخرجني من السجن كما قالت لي خالتي؟ هل ستفعل؟ - اخلوا القاعة واغلقوا الباب! أمر صارم من رئيس جنايات الأحداث ينهي الجلبة التي تميز لحظات فرز وإعداد القضايا. تسترجع القاعة هدوءها الرهيب، ضوء رماد زئبقي يتسرب عبر نافذة علوية، يضيء قفص الاتهام مباشرة، وكأنه مكان لنجم ينتظره جمهور، يرسم خلف قفص الاتهام ظل طفل. أرفع عيني متتبعا ضوء الخيال لأراه إلى جانبي! ويراني إلى جانبه! يبتسم بخجل... أتراه يسندني أم أسنده! يجذب إلى أعلى مرفقيه كمي قميص وواسع، رث، تداخلت ألوانه. ربما يتهيأ لبداية يجهل نهايتها! بعينيه الذابلتين، يمسح فضاء القاعة، يحذق أمامه منزعجا، ويملأ عينيه من الأسود القاتم المتقاطع مع أخضر لا يشبه خضرة الحقول التي ألفها. إنهم القضاة... يمعن النظر جانبا وخلفا: أحذية غليظة، أجسام ثابتة تكاد لا تتحرك إنها الشرطة... وجلا، يختلس النظر إلى أقصى القاعة، يرمق وجها شاحبا عليه أخاديد الأيام القاسية، سيدة تمسك كمشة أوراق مهترئة إنها الأم... والأب بعد وفاة الأب! يستعيد ذكريات جرحه الدامي: رحلته بعد سنة ونصف من مدرسة الأمل إلى دكاكين الحدادة، حيث الصدأ وأشياء أخرى. كاد أن يتعلم بضع كلمات أخرى يتذكر منها بسخرية: عصفور.. لص، وكتب حتى اسمه: سعيد! لا يبدو سعيدا، اسم، مجرد اسم اختاره الأهل كي يتفاءلوا بالبحث عن معنى، ولم يفكروا في المسمى حينما يقسو عليه الاسم فيصير تابعه! آه: يتذكر كم أدمن صعود تلك الربوة العالية التي تخفي رائحة البحر، يسمونها «عين الذئاب». بها يسيجون المروج الخضراء و يسمونها حديقة. خلف أسوار عالية، تجري كلاب تمارس لعبة النباح هاربة من عناية الحارس والمربية. يتذكر منير بقدميه الحافيتين وفاضل بقميصه الرياضي المتهالك، رصدوا خلف السور كرة وقطعة صغيرة من معدن تصدح بموسيقى حالمة وأشياء أخرى لا يعرفون لم تصلح. ليلا تسلق هو الجدار، ظل منير وفاضل أسفله، أسقط أمامهم الأشياء وكأنها نثرت من شجرة، وبعدها بدا له أن الجدار أصبح أعلى! اشتعلت الأضواء، نبحت الكلاب، أزيز محركات وإشارات ضوئية حمراء وخضرا تتراقص وأناس يجيئون ويذهبون وهو بينهم! رجل عريض منتفخ الأوداج، يضع بين شفتيه شيئا مشتعلا يشبه العصا، يزمجر غاضبا: من أين يجيئون، لصوص يلدون لصوصا! - ما اسمك؟ صوت رخيم أيقظه من لحظة مضت ثم توالت أسئلة القاضي الرئيس. هو لم يكن شديدا ولا فظا، وأنا لم أكن أمانع في العودة إلى الدار!