مازال ملف تهريب اليهود المغاربة إلى اسرائيل، يثير العديد من التساؤلات حول الجهة أو الجهات التي تواطأت بخصوص هذا الموضوع، وعملت على تسهيل عملية التهريب هاته. هذه المسألة أثارت استنكارا واستهجانا واسعين حينئذ، ليس في صفوف الشعب المغربي وقواه الحية فحسب، بل تواصل الامر على امتداد الوطن العربي. وبالرغم من التطمينات التي قدمتها الحكومة المغربية لإيقاف هذه العملية، إلا أن هذه التطمينات بقيت حبرا على ورق ليتوالى معها تهريب المغاربة اليهود. وبعد مرور أكثر من أربعين سنة عما وقع، مازالت هناك اسئلة مطروحة لحد الآن عن الجهات المغربية والاجنبية التي خططت ونفذت هذا التهريب الجماعي. هنا نسترجع تفاصيل ما جرى، كما تابعته جريدة «التحرير» المغربية. رصدت جريدة التحرير تهريب اليهود المغاربة الى فلسطين، وقد نشرت متابعات في عدة أعداد لهذه القضية، حيث كتبت على صدر الصفحة الاولى بتاريخ 17 فبراير 1962 ، خبرا تحت عنوان «طعن القضية الفلسطينية». وعززت هذا الخبر بصورتين، بعدسة مصورها حسن العراقي. واحدة لجماعة من اليهود المغاربة وهم يجتازون المراقبة «الشكلية» بميناء الدارالبيضاء. وجماعة أخرى تنتظر ساعة الإقلاع الى فلسطين العربية، كما جاء في تعليق على هذه الصورة تقول جريدة «التحرير« ان الباخرة آزرو أقلعت يوم الخميس 15 فبراير 1962 وعلى متنها 380 من اليهود المغاربة في اتجاه فلسطين». وعادت «التحرير» في العدد الموالي بتاريخ 13 رمضان 1381 الموافق ل 18 فبراير 1962، لتنشر على صدر صفحتها الاولى صورة جديدة أخرى، وبها عدد من اليهود الاطفال بجانب عائلاتهم، وهم في الطريق الى الارض العربية « التي يحتلها أعداء شعبنا » كما وصفت التحرير، وأكدت الجريدة «ان الصهيونية في المغرب٭٭٭ تلقى ما لا تجده في أمريكا» وتعود الجريدة مرة أخرى لتناول هذا الموضوع، الذي استأثر باهتمام الشعب المغربي آنذاك بكل فئاته، حيث اعتبرت الصور التي نشرتها في الصفحة الاولى بتاريخ 3 مارس 1962 ، صورا ناطقة عن الفضيحة المستمرة، وتساءلت عن الطريقة التي تتم بها هجرة اليهود تحت حماية الدولة. ففي الصورة الاولى، يظهر المواطنون اليهود في باب المقاطعة الاولى بالدارالبيضاء ينتظرون جوازات السفر في شكل جماعي. وفي الصورة الثانية، اليهود المغاربة وهم يتسلمون جوازات السفر الى فلسطين وحارس مغربي ينظم صفوفهم. وقالت الصحيفة في مقالها ان هجرة اليهود من المغرب تتوالى الى إسرائيل يوما بعد يوم وبشكل منظم وفي واضحة النهار، ورأت ان هذه الهجرة تنظمها الجماعات الصهيونية التي تستهدف من ورائها تقوية دويلة إسرائيل، وخنق اللاجئين العرب والقضاء على آمالهم في العودة الى وطنهم السليب. وتزيد «التحرير» قائلة: ولعل الذي يمكن ان يقال في الموضوع من جديد هو أنه إذا كانت العصابات الصهيونية منسجمة مع نفسها في العمل الذي تقوم به، فإن حكام ٭٭٭٭٭٭المغرب يبدو أنهم كذلك منسجمون مع أنفسهم في موقفهم من النشاط الصهيوني ومن عمليات التهجير، وليس هذا الموقف بطبيعة الحال، إلا الموقف المعادي كل المعاداة لإرادة الجماهير، والموقف الذي لا يزيد على أن يفضح مرة أخرى حقيقة الحكم الفردي القائم ونواياه وتهجيراته٭٭٭٭. وعكس عدد «التحرير» مواقف الصحافة العربية، التي نادت بإيقاف هذه الهجرة وتصرخ في الوقت الذي يتوالى أبناء الهجرة الصهيونية المنظمة من داخل المغرب العربي الى أرض فلسطين الشهيدة. في الصفحة الاخيرة من نفس العدد، نشرت «التحرير» ثلاث صور أخرى، واحدة لآلات الرفع الثقيلة وهي تحمل مئات الأطنان من أمتعة اليهود لتنزلها على ظهر الباخرة، وأخرى لنساء يهوديات ينظرن باسمات الى الباخرة التي سيصعدن على متنها في اتجاه الارض العربية المغتصبة، وثالثة لعشرات الصناديق الثقيلة وقد شحنت داخل الباخرة دون مراقبة، كلها تحمل رمز س ب ورقم أصحابها. وأعادت جريدة «التحرير» نشر ما كتبته جريدة «المنار» العربية في هذا الباب. تقول المنار العربية: لعل فجيعة العرب والمسلمين في فلسطين تبلغ مداها، عندما يستعرضون موقفهم من الكارثة ويراجعون «رصيدهم» من الإعداد للثأر، نقولها بصراحة ونحن نرى البنيان المرصوص الذي أراد له الله أن يشد بعضه بعضا، قد صار الى تفكك وخذلان، نقولها بلوعة، ونحن نقرأ ما جاء في الأنباء من أن ثلاثين ألفا من يهود المغرب، قد توجهوا الى الدارالبيضاء تمهيدا لمغادرتهم المغرب الى الخارج، ومن هذا «الخارج» طبعا.. إسرائيل. وتزيد نفس الجريدة في إطار متابعتها لهذه القضية بالتأكيد على أن عشرات الملايين من الدولارات تجمعها الصهيونية العالمية من الولاياتالمتحدةالامريكية وغيرها لتهجير يهود المغرب والجزائر الى الوطن السليب فلسطين. وتقوم الوكالة اليهودية بمهمة الإغراء، لتنفيذ برنامجها الذي يرمي الى أن تكون سنة 1962 سنة هجرة واسعة، كما أعلنت، وبصورة جماعية. وتوزع في المغرب منشورات تحذر السكان من أنهم سيتعرضون لعقوبات شديدة إذا أقدموا على شراء ممتلكات اليهود. وحسب جريدة المنار كما جاء في مقالها ، فإن جريدة التحرير في المغرب تقول ان هجرة اليهود الى إسرائيل تعتبر جناية كبرى من جانب السلطات المغربية٭٭٭ وغدرا بالقضية العربية». وكرأي لها اعتبرت جريدة «المنار» أن هذا الخطر الذي يداهمنا من بلاد أشقائنا لا يرد ولا يدفع بمنشور يهدد ولا بجريدة تندد. وإنما بتدخل حكومي صريح تضع فيه حكومة المغرب الامور في نصابها، فتمنع المعجزة وتقطع دابر الأقاويل. وفي تحليلها لتداعيات هذه العملية، أضافت الجريدة ان هجرة اليهود من المغرب الى فلسطين أمر لا تقف خطورته عند زيادة عددية في رصيد الأعداء من الرجال. وإنما هو يتجاوز ذلك الى خطر معنوي وتناقض غريب، ففي الوقت الذي كما ترى تقف فيه الحكومات العربية متكاثفة لبحث قضية فلسطين، ترد هذه الاخبار عن تزويد عصابة اليهود بدم جديد، يأتيها من بلد عربي شقيق عتيق، وفي الوقت الذي تطالب فيه الحكومات العربية بتنفيذ قرارات الأممالمتحدة، ومنها عودة اللاجئين، يتدفق اليهود لا العرب من بلد عربي الى فلسطين. وتساءلت الجريدة، ألم تحظر الحكومة المغربية سنة 1958 على من فيها من يهود مغادرة البلاد، فهل رفعت عنهم القيود، ولماذا، هل حلت قضية فلسطين أم آمن العرب شر اليهود؟ الى غير ذلك من الاسئلة. وتتساءل أيضا أليس في حكم البديهيات ان خطر اليهود لا يقتصر على ما سلبوه من بلادنا، بل يتجاوزه الى ما يجاورها من بلاد العرب والمسلمين في شتى الحقول، اقتصادية وسياسية وعسكرية.. وأكدت ان اليهودي المهاجر لا تسوقه الى فلسطين إلا أساطير عن أرض الميعاد التي تفيض لبنا وعسلا وقوى تعمل في السر والعلن للتمكين لباطل الأعداء. وطالبت المغاربة بأن يحظروا الهجرة فعلا، ويوقفوا الخطر.. .. وإننا لننتظر. وتعود جريدة «التحرير» في إطار مواكبتها لعملية تهجير اليهود المغاربة، حيث كتبت في عدد يوم الاحد 11 مارس 1962 حيث نقلت عن مراسلها بمدينة طنجة أن 800 يهودي يغادرون ميناء طنجة على ظهر باخرة يونانية. يقول المقال المنشور في الصفحة الاولى من نفس العدد: أن الباخرة «سبروس» اليونانية وصلت الى طنجة في 7 مارس 1962، لتغادر في اليوم الموالي حاملة على ظهرها 800 يهودي مغربي، وقد قدم هؤلاء اليهود المهاجرون من مختلف نواحي المغرب، حيث جاء عدد كبير منهم في سيارات شركة «لاستيام» من الجنوب، وأكد المقال ان السلطات المحلية وضعت حراسة قوية على الباخرة، كما سلمت مصالح الجوازات في عمالة طنجة حسب مراسل التحرير أسبوعا قبل مجيء الباخرة اليونانية 60 جواز سفر الى اليهود المهاجرين الى فلسطين. ورأت جريدة التحرير ان هذه الهجرة الجماعية هي الاولى من نوعها تتم عن طريق مدينة طنجة. كما ان اليهود كما هو معروف يلقون تسهيلات كبيرة من السلطات تمكنهم من التوجه الى الخارج، في شكل جماعات صغيرة أو بطريقة فردية، وكان المسافرون يزعمون أنهم يتوجهون الى جبل طارق أو إسبانيا، أو بعض بلاد أوربا الغربية أو أمريكا اللاتينية للسياحة أو للبحث عن العمل. إلا أن هذه الادعاءات كما يقول المقال لم تكن تنطلي على أحد، خصوصا من سكان طنجة الذين يعرفون نشاط المنظمات الصهيونية الواسعة، ويعرفون قنصل إسرائيل في جبل طارق، يجيء كل أسبوع الى طنجة، ويعرفون ان اليهود الذين يغادرون طنجة إنما يتوجهون الى القسم المحتل من فلسطين، وهم يتوجهون إليها بالخصوص من مارسيليا، ولديهم مكاتب ووكالات سرية تعمل بنشاط لتحقيق هذه الهجرة الرامية الى تعمير صحراء النقب، وتقوية العصابات الصهيونية. وزيادة العراقيل في وجه اللاجئين العرب حتى لا يتمكنوا من العودة الى ديارهم. ونقلت الجريدة ردود فعل السكان الذين كانوا يعرفون كما تقول التواطؤ الذي تقوم به السلطات طبقا لتعليمات عليا ٭٭٭٭مع منظمي الهجرة الصهيونية، حيث هدد بعض الشباب صاحب مكتبة كان يعرض كتبا صهيونية، وقد نزع الكتبي هذه الكتب، وتساءل الناس كما نقلت «التحرير» عن السبب الذي جعل الحكومة تفتح ميناء طنجة علنيا، بعد ميناء الدارالبيضاء للهجرة الجماعية الى فلسطين المحتلة؟ وفي الصفحة الاخيرة بتاريخ 12 مارس 1962، تنشر التحرير صورة أخرى لعائلة يهودية تنتظر في ميناء الدار ا لبيضاء للإقلاع الى «أرض الميعاد» حيث تؤكد ان بعض العناصر الصهيونية تقوم بالتجول في نواحي أكادير وتزنيت وبني ملال وغيرها من جهات المغرب، للإشراف على ترحيل اليهود وبشكل جماعي. وكل هذا يقع بعلم من السلطات المغربية وتحت أنظارها، مما يؤكد التواطؤ بين الحكام المغاربة٭٭٭٭ والصهيونية العالمية، في الوقت الذي تطلع فيه علينا بلاغات تدعي التضامن العربي ومناصرة عرب فلسطين المغربين. وفي إطار متابعتها لهجرة اليهود المغاربة، كتبت التحرير بتاريخ 15 مارس 1962 ان 600 يهودي يسافرون على ظهر الباخرة «فينزويلا» و450 على متن الباخرة «دجيني»، وتضيف ان البواخر في ميناء الدارالبيضاء تواصل نقل اليهود المغاربة مع آلاف الاطنان من الامتعة والحوائج تحت حراسة البوليس المغربي وبحماية السلطات المسؤولة. فيوم الثلاثاء 13 مارس 1962 غادرت الباخرة «دجيني» ميناء الدارالبيضاء حاملة على متنها 600 يهودي مغربي في اتجاه مرسيليا. وقد تمت هذه الرحلة كالعادة في جو من الطمأنينة كما سافرت الباخرة «فينزويلا» يوم 7 مارس 1962 حيث دخلت الى الميناء في الساعة الثالثة صباحا، وبدأت بنقل اليهود المغاربة في الساعة الرابعة صباحا من نفس اليوم على متن الباخرة «فنزويلا» حسب ما أكد ذلك رجال الديوانة تقول «التحرير». وتضيف ان اليهود قدموا على متن سيارات كبيرة لنقل أمتعتهم، حيث قام رجال الشرطة بمحاصرة المكان الذي ينزل به اليهود المهاجرون، وحراستهم في الساعة السادسة صباحا. وأقلعت الباخرة في الساعة الثامنة. في الوقت الذي تطلع علينا فيه تصريحات المسؤولين التي تدعي التضامن والتأييد لعرب فلسطين المشردين. هامش: كتبت جريدة »التحرير» في ركنها اليومي «صباح النور» أن بعض الصحف العربية أعلنت ان إحدى البلدان العربية، قد تلقت تطمينات من حكومة المغرب بشأن هجرة اليهود المغاربة الى إسرائيل، وأكدت أنباء الصحف المذكورة ان المغرب لا يسمح ولن يسمح لليهود بمهاجرة البلاد، والتوجه الى إسرائيل لطعن القضية الفلسطينية. إلا أن العمود يؤكد أنه لا يهمنا في شيء أن ينشر في تلك الصحف ما نشر، وكل الذي يهمنا هو ان نعرف ما إذا كان المسؤولون المغاربة قد أكدوا مثل ذلك الكلام أم لا؟ وحتى إذا كان الامر كذلك فما الذي منعهم من نشره وإذاعته وتلفزته على المواطنين هنا في الداخل؟ إن جميع الامكانيات يتوفرون عليها لينشروا ويذيعوا ويتلفزوا مثل ذلك، وكما يفعلون في العديد من القضايا القائمة. ومع ذلك فهم لا يريدون أو لا يجرؤون. لكن يتساءل «صباح النور» : هل ترانا في حاجة الى طرح السؤال، إن الجواب يعرفه المسؤولون أنفسهم، ويعرفه المغاربة وغير المغاربة.