كن حكيماً يا دمي، والتزم أشد الهدوء. لقد كنت تطلب المساء، وها هو ذا يؤذن بالنزول نعم، وأما ألمنا نحن، فلم يكن يعرف مساء ولا نهاراً. وقد كان أشدَّ تلك الآلام علينا ألم البرد، فأين من عضاته لذغاتُ الأفاعي، ومن وخزاته لسعاتُ العقارب. لقد كان ينفث في الجسد سماً يكتسحه حتى لا تتأبى عنه خلية من خلاياه. فهو ينفذ إليها، كتيماً، وقاسياً ومدمراً. لقد كان البرد يتأكَّلنا وينخرنا، ويلتهمنا التهاماً، في غير ما عجلة، وهو مطمئن إلى أن ضربته سديدة لا تخطئ مرماها، ومستيقن أن إليه ستعود الغلبة في الأخير، وأنه سيدمر صاحبه ببطء شديد. وكنت في أحلك لحظات الشتاء وأشدها علينا، إذ نحن في تازمامرت، أفكر في معتقلات سيبيريا، وفي أولئك الأناسي الذين كان القيصر، وستالين من بعده، يرسلان بهم إليها. وأفكر في الصقيع الذي كانوا به يصطلون في ذلك المكان، وأفكر في ما كانوا فيه يتكبدون، فأستصغر آلامي، وأهوِّن مما ألاقي. فلقد ابتُلي من قبلي أناس بما هو أشد وأقسى. وإذا كانت تازمامرت قد حفرت فينا، نحن المعتقلين، آثاراً لا تزول، فكذلك تركت بعض تلك الآثار على سائر من اقترب منها. فالحراس مثلاً، كانوا موقنين أن ذلك المكان كان مسكوناً بالأرواح. فكانوا يتخوَّفون أن يأتوا لوحدهم إلى البناية الثانية. وكان العسس يزعمون أنهم يسمعون صراخاً وأنيناً يأتي من هناك. وأما نحن الذين كنا فيها نعيش، فلم نكن نسمع شيئاً. وكانوا يزعمون، كذلك، أنهم يرون خيالات تتجول في الفناء. وذات مساء، طلع علينا في البناية الحراس في عدد كبير، فيما كنا ننام هانئين، وقالوا إن العسس سمعوا صراخاً مرعباً يأتي من البناية. لم نكن مسكونين بموتانا؛ فلقد صلينا لأجلهم جماعة تحت جنح الظلام. وكنا نراهم قد انتقلوا إلى العالم الآخر. وأما الحراس المستعبدون لتقليدهم الراسخة ومعتقداتهم العمياء، فكانوا يألمون كثيراً في دخائلهم بما اقترفت أيديهم من حرمان الأموات من طقوس الجنازة، ومن الأكفان، فصاروا بهم مسكونين. لقد كانوا يغذُّون بأنفسهم الرعب الذي كان يتأكلهم. وكان في ذلك تحقيق للهدف من تازمامرت؛ فقد نشأت عنها خرافة صارت تستبد بالأذهان. كان الحراس من بقايا الاستعمار؛ إنهم حثالة قد أضاعوا أرواحهم، بعد أن باعوا ضمائرهم إلى نظام لم يكونوا يزيدون فيه عن فضالة، ولا كانوا يعون منه شيئاً على الإطلاق. ثم أورثهم ذلك النظامُ نظاماً آخر. فأتى على ما كان باقياً فيهم من إنسانية. وإنني لأرثي لحالهم وأشفق عليهم. وأدعو الله ألا يعرف أبناؤهم يوماً بما كانوا فيه يشتركون. كان بعضهم يشعر بشيء من المرارة. والجميع يشعرون بالمرارة، لكن متى كان المرء غير مرتاح البال، وكان متطيراً، رأى في تعاسته وشقائه لعنة قد ألمت به. كذلك حدث للمساعد أول ابن إدريس، الذي فقد ابنيْه تباعاً في حادثتي سير. وقد كان من أقسى الحراس وأشرسهم. مثله كمثل الرقيب صالح، الذي جاء عندنا برتبة العريف؛ فقد كان شريراً أشِراً. كان متوسط القامة، نحيفاً، مع شيء من أنوثة، كان له مصدر عقدة في نفسه. وقد كان مرهوباً حتى من زملائه؛ إذ كانوا يتوجسون منه أنه يتجسس عليهم عند القائد. ثم اتفق للرقيب صالح أن وقع من على سلم، وانكسر حوضه. فأمضى سنة طريح المستشفى، ثم صار عاجزاً عن المشي من غير أمل في شفاء. ولقد جاءانا هما الاثنان باكيين يطلبان منا الصفح. ثم طلبا أن ينقلا إلى مكان آخر؛ فاستُجيب إلى طلبهما بصفة استثنائية. فقد كانت العادة ألا يسمح للحراس أنفسهم بمغادرة تازمامرت؛ فقد حُكم عليهم بمرافقتنا إلى نهاية المطاف. لقد اقترن مصيرهم بمصيرنا، وإن تكن عيشتهم أفضل من عيشتنا بما لا يقاس؛ فكان ذلك سبباً لحقدهم علينا. فما أكثر ما تكون سيرتهم فينا بخلاف ما يأمر به الإسلام. لكن أحد رفاقنا، هو الخضير، كان يقوم عليهم رقيباً. فقد كان في موضع مميز؛ إذ كان ينزل في الزنزانة الواقعة قبالة مدخل البناية، فكان ينظر من خصاص الباب، فيتفرج على كثير من الحوادث، ثم يرويها لنا في أدق التفاصيل. لقد شاهد عمليات الدفن الأولى، فحكى لنا عن الأساليب التي كانت من الحراس في تكفين الأموات، وحكى لنا عن الجير الحامي ولوح القصدير. وكان يشاهد، كل يوم، كيف ينظف الحراس الطنجرة التي يقدمون لنا فيها الطعام؛ بالمكنسة التي يستعملونها لكنس أرضية البناية. ورآهم يوم أن كان الفيضان، ينظفون الطنجرة بتلك المكنسة بعد أن استعملوها في دفع المياه القذرة. وكان كثيراً ما يرى الحراس يزيلون الصراصير من الحريرة. واتُّفق للحراس يوماً أن وجدوا جرذاً ميتاً في الطنجرة، فالتقطوه بالمغرفة ورموا به بعيداً، ثم قدموا لنا وجبة العشاء، من غير أن يرف لهم جفن. واتفق لهم، في مرة أخرى، أن وقعوا على عقرب. ففي ذلك اليوم حسَّنوا لنا الأكل. بذلك أخبرنا الخضير بعد أن انصرف الحراس. لكننا قررنا، مع ذلك، مجتمعين، ومن غير تردد، أن نأكله. فقد كان اللحم شيئاً نادراً، وما كنا ننعم بتحسين الوجبات إلا في المناسبات التي يحتفل فيها الملك بحدث عائلي. فكانوا حينها يشركوننا في السعادة التي يتذوق منها المجتمع المغربي. وقد كان ذلك اللحم للجمل، وكانت تفوح منه رائحة نتانة. فكان الرفاق يقولون إن لحم الجمل يكون في العادة على شيء من نتانة. وكنت أعرف أنه كلام غير صحيح؛ إذ سبق لي أن تذوقت ذلك اللحم. فامتنعت عن أكل تلك الوجبة، على الرغم من الجوع، وفرح جيراني أن ظفروا بنصيبي من الطعام. وسوف لا أستغرب أن تكون تلك الوجبة سبباً في إصابتهم ببعض حالات الإسهال. كان الخضير، المعروف باسم أبو المعقول، من عصابة اعبابو، فقد كان ريفياً من قبيلة رئيسه وصهره. وكان برتبة المساعد أول، وضابطاً مكلفاً بالعتاد في مدرسة أهرمومو. وكان وصهر الرقيب عقا مكلفين بالمصالح المذرَّة للأموال على صعيد الوحدة العسكرية. وكان يحتقر مرؤوسيه ويمقت رؤساءه؛ ولم يكن يرى أحداً ينادده، في ما عدا رئيسه، ولا كان يرى من يستحق سواه أن يقلَّد شارات الضابط. كان أمازيغياً يكره العرب. فكنت إذا رأيته أتساءل ألا يكون يكره نفسه أيضاً؟ ولا أجرؤ أن أتحدث عن الحراس، ولا عن جميع أولئك الذين تجاسروا على أن يرموا به في السجن. ثم آثر، كمثل بندورو، أن ينطوي على نفسه؛ فلم يكن يدلي بدلوه في حياة البناية، ولا كان له صديق أو موضع لثقة. واشتهر صاحبنا بذلك الرد الذي ألقى به، ذات يوم، إلى حارس قد آخذه بأن كان يجيب بالفرنسية عندما ينادى عليه؛ فقد رد عليه بقوله : - ما دمت لا أتكلم لغتي (يعني الأمازيغية)، فيمكنني أن أجيب بأي لغة أريد. فهل تراها كانت من سمات طبعه، أم من المرارة التي كانت توغر صدره؟ إلى أن كانت وفاته في يوم 21 أبريل 1979، من فرط الإسهال، وفرط السعار الشديد الذي كان يحمله في نفسه. لقد كانت رحلة الصخيرات، في واقع الأمر، قضية عائلية، وعشائرية وقبَلية. بلهَ كانت تصفية للحسابات بين الملكية وأهل الريف. وإن يكن كثيرٌ من هؤلاء قد شاركوا، في العام 1960، في القمع الدموي الذي ناب انتفاضة أمازيغ الشمال. لقد جرَّ امحمد (اعبابو) أفراد عائلته جميعاً إلى مغامرته، فساروا في أثره لا يلوون على شيء. أخواه اللذان لم يكن منهما من ينتسب إلى وحدتنا العسكرية، محمد العقيد، وعبد العزيز الرقيب، وثلاثة من أصهاره : أبو المعقول، المساعد أول، وضابطا صف لم أكن أعرف بهما إلا سماعاً. والناظر إلى آل اعبابو، تلك العائلة الكثيرة الأفراد، متشاركين في تلك المغامرة المجنونة، يحسبهم متَّحدين متماسكين كأصابع اليد. وما كانوا، في الحقيقة، على شيء من ذلك الاتحاد ولا من ذلك التماسك. وقد كانت العائلة اجتمعت بكافة أفرادها، شهراً قبل ذلك اليوم المشهود، العاشر من يوليوز، بعد كثير من المماحكات والمنازعات ثم التسويات. فتحلقوا من حول أبيهم، لاقتسام ما كان يفترَض أن يصير لهم ميراثاً بعد وفاته. ثم عادوا إلى الالتقاء أسبوعاً قبل تلك الأحداث، ليثبِّتوا الاتفاقات التي وقَّعوها، وهم سعداء أن فرغوا من ذلك الأمر. وما كانوا يعلمون بما يخبئ لهم القدر. فقد قتِل ثلاثة إخوة وثلاثة أصهار؛ بعضٌ في الصخيرات، وبعضٌ في غيابة السجن. فإذا الأب هو من صار، بما يقضي الشرع الإسلامي، هو الوريث فيهم! وإذا العجوز هو من قتل الذئب! وقد كان جلد امحمد هو أغلى تلك الجلود جميعاً. فقد ترك ثروة هائلة. ثم راجت الشائعات عن زوجة له خرجت من العدم، يوم أن كان يجري تقسيم تركته، وطالبت بحقها فيها. وأما العقيد محمد فلم يكن على شيء من ثراء. وإن من عرفه ليتساءل كيف له أن يقع في شراك أخيه الأصغر. وأما عبد العزيز فما كان سوى رقيب، قد عيِّن ناسخاً في أحد المكاتب، فكان عمله يقتصر على جمع المعلومات لفائدة أخيه الأكبر الشهير. وما كان يدرك خطورة أفعاله. ولقد ظل في زنزانته التي بجوار زنزانتي، دون أن يعرف يوماً أيكره أخاه أم يُعجَب به. وكان، إذ هو في تازمامرت، يتضاءل أمام الجميع، كأنما ليجعلهم يسهون عن الاسم الرهيب الذي كان يلتصق به. ثم توفي، تاركاً وراءه زوجة وأطفالاً، ومساراً مهنياً لم يكن ينبئ بأنه سيكون باهراً، لكنه كان يؤمن لصاحبه حياة كريمة، وميراثاً لم ير له بصيصاً في غير شهادة العدول. إن الدم الذي كان يجري في عروقه هو الذي كان سبباً في نكبته. لقد كان الأخ الأصغر لرئيسنا، العقيد؛ ذلك كان سبباً في كل النكبات. وسقط في ذلك الحصاد الجنائزي لشتاء 1978، في الأول من نونبر. فمات من الجوع، والبرد، ومن الهوام، والونى والفتور. يقول الماوردي ملخصا هذه الوضعية : «وأنت أيها الوزير أمدك الله بتوفيقه، في منصب مختلف الأطراف، تدبّر غيرك من الرعايا وتدبر بغيرك من الملوك، فأنت سائس ومسوس، تقوم بسياسة رعيتك وتنقاد لطاعة سلطانك. فتجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكرك جاذب لمن تسوسه، وشطره مجذوب لمن تطيعه وهو أثقل الأقسام الثلاثة محملا وأصعبها مركبا لأن الناس ما بين سائس ومسوس، وجامع بينهما ولك هذه الرتبة الجامعة». هكذا يتمّ تشبيه السلطان بالطيب والرعية بالعليل والوزير بالسفير بين الطيب والعليل، وإذا كان ابن الخطيب، وهو الذي اختبر الوزارة في أحلك أيامها، يتوسع في الحديث عن علاقة الوزير بنظرائه أعضاء الحاشية وما يلفها من كيد وسعي، فإن الماوردي يتوسع في ذكر علاقة الوزير بملكه واضعا له مجموعة من الأخلاقيات تقيه من كلّ مكروه سلطاني محتمل، و هي أخلاقيات تتمحور كلّها حول مبدأ «الحذر» من السلطان، «فهو وتّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظن، و يؤاخذ بالارتياب، فالثقة به عجز و الاسترسال معه خطر، و قد قيل: ثلاثة لا أمان لهم، السلطان و البحر و الزمان». و لحذر الوزير من الملك وجهان، أوّلها «أن لا يعول على الثقة في إذلال و استرسال...» و بالتالي يكون عليه أن « يقبض نفسه» إن قدّمه و «يتواضع له» إن عظّمه، و «يحتشم» إن آنسه و «يلن» إن خاشنه و «يصبر على تجنيه» إن غالظه...و الوجه الثاني من حذر الوزير مع ملكه يتمثّل في «مسايرته» له حيث يصبح امتدادا ليده، وأداة لتحقيق ما يروم إليه، « فيساعده على مطالبه، و يوافقه على محابه و مشاربه، و لا يصدّه عن غرض...». و بمثل هذا السلوك، يكون الوزير قد وضع مسافة «وقائية» من شأنها أن تحميه من كلّ غضب سلطاني لا يعلم توقيته إلاّ السلطان نفسه. لو كانت «العامة على علم بمحنة الوزير السلطاني لانشرحت أساريرها وحمدت الله على جسدها الواضح الطيع. ذلك أن «جسد الوزير» أو «صاحب السلطان» عامة جسد مزدوج، يعاني ثنائية مدوخة، فهو لا ينمو حرا طليقا مثل جسد السلطان، و لا هو ينمحي كلية مثل أجساد أيها الناس.