الولايات المتحدة لا ترغب في فرض هيمنتها على العالم وإخضاع غيرها لنفوذها. لعل هذه هي الرسالة العالمية الرئيسية التي سعى أوباما إلى توجيهها خلال مائة يوم الأولى له في البيت الأبيض. فمن آسيا التي طارت إليها وزيرة خارجيته هيلارى في أول جولة خارجية لها، إلى أميركا اللاتينية حيث التقى هو قادتها المتمردين على واشنطن وغيرهم في قمة الأميركتين في 18 إبريل الماضي، كانت هذه الرسالة واضحة إلى الحد الذي أتاح لخصوم الرئيس الأميركي المتشددين مساحة واسعة لتصعيد الهجوم ضده. لكن المثير للانتباه أن القوى الدولية الأخرى التي تفتح سياسة أوباما الباب واسعاً أمامها للمشاركة في قيادة العالم، لا تتقدم لأداء دور أكبر. فروسيا التي سعت في السنوات الأخيرة إلى استعادة مكانتها، ما زال طموحها مركزاً على المنطقة المحيطة بها في المقام الأول. فالتوجه الروسي إلى مقارعة النفوذ الأميركي يبدو إقليمياً أكثر منه عالمياً في المرحلة الراهنة، والأرجح أنه سيظل كذلك في المدى المنظور. وإذا كانت روسيا غير مستعدة اليوم لمنافسة أميركا على موقعها في قمة النظام العالمي، فهذه هي أيضاً حال الصين واليابان، كما الدول الأوروبية الكبرى على أساس أن الاتحاد الذي يجمعها مازال في حاجة إلى وقت طويل قبل أن يصبح مؤهلا للتحول إلى قوة دولية واحدة. وربما يمكن تفسير ذلك بأن تراجع نفوذ واشنطن في عهد بوش، ومراجعتها سياسة الهيمنة في بداية عهد أوباما، حدثا بأسرع مما كان متوقعاً، وعلى نحو فاق أكثر التقديرات تفاؤلا في أوساط المتطلعين إلى تعدد الأقطاب. لكن لا يكفي أن تتراجع القوة العظمى الوحيدة لكي يتحول النظام العالمي باتجاه تعدد الأقطاب، لأن هذا التحول يقتضي وجود قوى دولية تطرح مشاريع بديلة أو منافسة بشأن إدارة العالم، ويتوفر لها استعداد كاف للعمل من أجل تحقيق مصالحها على مستوى الكوكب الأرضي وليس فقط على الصعيد الإقليمي. غير أن عدم وجود مثل هذه القوى لا يعني بقاء النظام أحادي القطبية كما هو. فالانحسار النسبي في نفوذ القوة الأكبر التي انفردت بقمته يجعلها أقل قدرة على المحافظة على الطابع الأحادي لهذا النظام، فضلا عن أن إدارتها الجديدة لا ترغب في ذلك لأن حرصها الواضح على إصلاح ما أفسدته الإدارتان السابقتان منذ مطلع عام 2001 يفرض عليها اعتماد مبدأ التشاور في علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى. ومن شأن هذا المبدأ أن يحد من الانفراد بقمة النظام العالمي حتى إذا لم يكن النفوذ الأميركي قد انحسر. لذلك فثمة تغير يحدث الآن في هيكل النظام العالمي، لكن ليس باتجاه التعدد في قمته، وإنما نحو نوع من السيولة النادرة في ظل حالة لا قطبية تمثل مرحلة انتقالية، لكنها قد لا تكون قصيرة. وربما يطول أمد هذه المرحلة لسنوات على نحو يثير التساؤل عن أثرها المحتمل على العالم العربي وقضاياه وأزماته. فقد تكون هذه المرحلة الانتقالية، وخصوصاً إذا طال أمدها، فرصة تاريخية للعرب، إذا أجادوا التعامل معها لأنها تتيح حرية واسعة لهم، كما لغيرهم في العالم. لكن هذا يقتضي، أولا وقبل كل شيء، إدراك أن النظام العالمي يتجه نحو حالة لا قطبية وليس إلى تعدد الأقطاب الذي يأمل فيه معظم العرب ويعتبره كثير منهم خيراً وفيراً. كما أن استثمار مرحلة اللاقطبية المؤقتة يتطلب مراجعة الاعتقاد الشائع في أن النظام متعدد الأقطاب، وكذلك النظام ثنائي القطبية، أفضل بشكل ملحوظ من النظام الأحادي. ولا تحتاج هذه المراجعة إلى أكثر من استذكار ما حل بالعرب من نكبات في ظل النظام الثنائي، ومن قبله في إطار النظام التعددي أو نظام توازن القوى. لقد فقدنا القسم الأكبر من فلسطين في بداية النظام ثنائي القطبية، وبتواطؤ مباشر من القوتين اللتين تصدرتاه وإن بدرجات مختلفة. وضاع ما بقي من فلسطين في ظل النظام نفسه. كما انعكست الحرب الباردة الدولية التي اقترنت بهذا النظام على العرب الذين أنتج انقسامهم في أواخر الخمسينيات ومعظم الستينيات من القرن الماضي حرباً مماثلة، لكن على المستوى الإقليمي. ولم تخل تلك الحرب الباردة العربية من مواجهة ساخنة بالوكالة في الصراع على اليمن. ولا يعني ذلك أن مرحلة القطبية الثنائية خلت من أي خير للعرب. لكن ما أنجزوه خلالها ارتبط بعوامل ذاتية أكثر مما ترتب عن تفاعلات النظام العالمي خلالها. فعلي صعيد الصراع العربي -الإسرائيلي مثلا، اقترن الإنجاز الذي تحقق في حرب 1973 بوضع حد للاستقطاب العربي على خلفية الحرب الباردة الدولية، وبدء خروج مصر من المعسكر السوفييتي، وتبني سوريا سياسة أقل تبعية لهذا المعسكر منذ حركة نوفمبر 1970 . ولا يعني ذلك أن تحول مصر السادات، بعد ذلك، صوب المعسكر الأميركي ووضعها كل الأوراق في سلته كان صائباً، لأنه يعد الوجه الآخر لخطأ الارتهان للمعسكر السوفييتي في مرحلة سابقة. ولم تكن حالة العرب أفضل في ظل نظام توازن القوى الذي تعددت فيه الأقطاب، على مدى أكثر من قرن من الزمن. فمنذ مؤتمر فيينا 1815، اتجه النظام العالمي نحو نوع من التعدد قام على توازن القوى بين أقطابه رغم أن بريطانيا كانت أكثر تفوقاً. وكانت هذه هي مرحلة الاستعمار الذي خضعت له معظم بلاد العرب. فقد أدى تعدد الأقطاب إلى تعدد القوى التي تنافست على استعمار العالم العربي، كما حدث في مناطق أخرى. غير أنه رغم ذلك، فثمة ميل عربي غالب إلى الاعتقاد في أن نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب هو الأفضل. وربما يمكن تفسير ذلك بوجود إيمان قوي بأن تعدد الأقطاب يوفر فرصاً لاستثمار التناقضات بين القوى العالمية المختلفة. ومن شأن هذا التوجه أن يدفع إلى التفتيش عما يدعم الأمل في امكان تعدد القوى، ومن ثم الأدوار، الدولية الفاعلة عموماً والقادرة على التأثير في تفاعلات قضايا وأزمات منطقتنا خصوصاً. ولم ينحسر هذا الأمل تماماً حتى في ذروة الأحادية القطبية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. ففي كل مرة تبنت روسيا موقفاً، أو صدرت عنها إشارة تفيد أنها مازالت حاضرة ضمن القوى الكبرى المؤثرة في تفاعلات النظام العالمي، توجهت أنظار عربية صوب موسكو بلهفة وشوق. وهناك أيضا الصين التي يتطلع إليها كثير من العرب، ويتوسمون فيها قوة عالمية قادرة على منافسة الولاياتالمتحدة في قمة العالم، رغم أنها تحسب خطواتها جيداً وتتحرك ببطء، لكن بثبات وثقة وحكمة. غير أن هذا الرهان على نظام متعدد الأقطاب يتعارض مع الخبرة التاريخية الممتدة على مدى عصرين كان أحدهما ثنائي القطبية. فلم يحصد العرب فيهما إلا خسائر متفاوتة. وليس هناك ما يضمن أن يكون تعدد قطبي جديد في المستقبل أفضل حالا إلا إذا امتلك العرب مقومات قوة كافية تجعلهم لاعباً مؤثراً في التفاعلات الدولية. وإذا حدث ذلك، فلن يبقى لطابع النظام العالمي مثل هذه الأهمية التي نضفيها عليه في ظل ضعفنا وقلة حيلتنا. لكن المهم الآن، هو أن النظام متعدد الأقطاب ليس وارداً في الأمد القصير والمتوسط على الأقل، أي في حدود ما بين خمسة وعشرة أعوام. فالعالم يتجه إلى حالة لا قطبية يظل للولايات المتحدة دور متميز فيها، لكنه ليس أحادياً أو مهيمناً أو منفرداً بالقمة الدولية. وسيكون لروسيا والصين وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وقوى صاعدة أخرى في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، أدوار متزايدة، لكنها ليست متساوية ولا مساوية للدور الأميركي الذي تعاد صياغته الآن في "مطبخ" إدارة أوباما. فكيف سيتعامل العرب مع هذه المرحلة الجديدة؟ وهل بإمكانهم استثمارها لمصلحة قضاياهم ومكانتهم وموقعهم في العالم؟ وإلى أي مدى يمكنهم تفعيل بعض مقومات القوة الكامنة لديهم؟ هذه أسئلة ينبغي أن تكون على جدول أعمالنا إذا أردنا الاستفادة من فرص يوفرها بدء تحول النظام العالمي نحو حالة لا قطبية تنطوي في طياتها على بعض مزايا نظام تعدد الأقطاب، لكن مع تفادي الأضرار التي يخلقها انفلات التنافس بين القوى الكبرى على نحو يلحق خسائر بالمناطق التي يشتد فيها، أو عليها، هذا التنافس. (*) مساعد مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. عن «الاتحاد» الاماراتية