احتفاء بشيخ المحققين المغاربة وعمدة الدراسات المغربية الأندلسية والعربية الدكتور محمد بنشريفة، واحتفالاً بالإصدار الذي حققه وهذّبه، والمتمثل في: «أنساب الأخبار وتذكرة الأخيار»، نظمت جمعية البحث في الرحلة لقاء دراسياً بالمكتبة الوطنية، صباح يوم الخميس 26 مارس الجاري بالرباط، من تقديم الدكتور فاطمة طحطح التي اعتبرت أن المحتفى به غني عن التقديم والتعريف، إذ له عشرات الأبحاث والدراسات العلمية والتحقيقات ذات المستوى الرفيع جعلت من عِلْمه يتقدمه ويُقدمه، كما أن إسهامه الكبير في فن التراجم والتعريف بالأعلام الأندلسيون والشخصيات المغربية والشخصيات العالمة الافريقية مشهود له به، بالإضافة إلى دراساته القيمة عن الأمثال والأزجال التي توجها بموسوعة عن الأزجال الأندلسية المغربية التي تعد مرجعاً لاغنى عنه لدارسي الأمثال، مشيرة إلى أن إصداره الجديد المحتفى به يسلط الضوء على عصر المورسكيين الذي انتمى إليه ابن الصباح، وأن ما يدهش في الأستاذ بنشريفة هو هذه الاستمرارية في الإنتاج العلمي الدقيق وهوامش وتعليقاته التي تتضمنها تحقيقاته، إذ تُشكل عِلْماً على علم لا تصدر إلاّ عن عالم غزير المعارف. الدكتور محمد رزوق المتخصص في الدراسات الأندلسية استهل كلمته بالتأكيد على أن محمد بنشريفة هو مؤرخ عبقري لا يقل عن المؤرخين الإسبان والفرنسيين الذين اهتموا بالأندلس، وأنه باحث عالم يمكن لأي دارس أن يجد في عطاءاته ضالته، متسائلا إن كانت رحلة ابن الصباح قد أضافت جديداً إلى ما هو معروف عن فترة سقوط الأندلس وما بعد سقوط الأندلس، ومستطرداً في السؤال عن سبب عدم كتابة العرب من المؤرخين القدامى عن هذه الفترة، وهل هو هروب من الأزمة، ولماذا لم يتناولها المؤرخون حالياً أيضاً، معتبراً أن رحلة ابن الصباح كتبت في مرحلة الأزمة، لأن الحالة يجيب فيها عن سؤال رئيسي: لماذا سقطت الأندلس، ويجيب عن آخر، بأن المسؤولية لا تقع على المفكرين والعلماء والشعراء، وإنما على الحكام. ليقف الدكتور رزوق على أهم عناصر هذه الرحلة كذكر ابن الصباح لعدد من العلماء والمناطق التي زارها، وترجمات مختصرة للعلماء الذين التقاهم بصراحة مغربية أندلسية في المشارقة وذكر بعض الأحداث التاريخية في الأندلس والأماكن التي زارها. لكن رغم أن ابن الصباح أراد من خلال هذه الرحلة التأريخ للمدجنين بالأندلس، لكن نجد أن هناك إشارات فقط لذلك، وحسب الأسباب التي يقدمها هو، فإنه أولا كتب هذه الرحلة وهو كبير السن (بين 60 و 70 سنة)، وأن بصره كان ضعيفاً، وأن ما كتبه عن الرحلة سمعه عن شيوخه. وقد طال عليه الزمن بالإضافة إلى ما أسماه ب «جو الغربة والفقر وهبوب الأولاد»، لذلك جاء الكتاب مختصراً لما كان يريد أن يكتبه، ولذلك فهو يسمي كتابه أحياناً رحلة وأحياناً تاريخاً، وبمقارنة ابن الصباح بالمسعودي وابن خلدون كمصادر اعتمد عليها ضمن ما اعتمده هذا الرحالة، يتبين للدكتور رزوق أن صاحب الرحلة لم يستفد من هذه المصادر ولم يرق إلى مستوى أصحابها، لأن ثقافته لم تكن في المستوى، ولأنه عاش في أرض أصبحت فيها اللغة العربية ضعيفة، وأن ما تعلمه بالأندلس كان سرياً وهو ما جعل هذه الأسباب تنعكس على كتابة الرحلة التي طالها اللحن والعامية. وعن كيفية تعامل د. بنشريفة مع التحقيق، تساءل المتدخل عن جواز اعتماد المحقق على نسخة واحدة من الكتاب المحقق، معتبراً أن تعامل المحقق من نظره هو كان عبارة عن: تهذيب وإصلاح ما يستحق الإصلاح وحذف ما فيه تكرار واستطراد وزيادة ما تدعو إليه الحاجة من حرف ناقص أو كلمة مع التعليق، والإبقاء على بعض الكلمات الأندلسية التي رأى أن لها قيمة تاريخية، مع إغفال نصوص لم يثبتها في الرحلة لخروجها عن السياق. ولما فيها من خلط، ليضع في النهاية أخطاء المخطوطة التي أصلحها، ليخلص المتدخل بعد مساءلة كل ذلك، إلى المزايا التي قدمها بنشريفة في هذا «التهذيب»، والمتمثلة في كونه قدم هوامش غنية تتم عن مجهود ومعرفة كبيرين ، جعلها تشكل إضافة قيمة وقيمة مضافة. أما الدكتور عبد الرحيم المودن، فاعتبر أن رحلة ابن الصباح تتقاطع مع كتب الرحلات الأندلسية وتشكل تتمة لها، وهي غنية على مستوى الأسباب والإثنوغرافيا، وهي رسالة في الخبر والأخباريين، لذلك جاءت أقرب الى المذكرات واليوميات، واقفاً عند عنوانها، والغرض منها الذي هو الحج، وطلب العلم حيث تصبح الرحلة فرض عين، ومؤكداً على أهميتها الأدبية، لما ورد فيها من تقاطع بين البعد البلاغي والإبلاغي، وعلى خصائصها المتمثلة في انتمائها الى النثر التأليفي كالكتاب والرسالة، وتعدد أسماء السارد وتعدد صفاته، علاوة على احتواء الكتاب على رسوم، مع اعتماد الوصف المباشر بالبصر والبصيرة، وحضور المكان الذي هو حديث عن الإسلام وانتشاره، حيث يطنب الرحالة في الحديث عن مكة واليمن ومصر، مثلما لا يكف عن إشهار إسلامه في كل وقت وحين، لأنه يحاول أن يرسم خريطة للإسلام القوي ضد الاسلام الضعيف المنحصر في الأندلس، على عدده. وبعد أن تحدث المودن عن لغة الكتاب وهي لغة وظيفية وذات مستويات متعددة تجعل منها لغات، اعتبر أن رحلة ابن الصباح أخرجت اللغة من اللغة العالمة وأنزلتها إلى الأرض، كما فعل أرسطو مع الفلسفة، معتبراً في النهاية أن الرحلة فن ديمقراطي يمكن للجميع أن يكتب رحلته وبلغات متعددة المستويات.