لو قدر لي أن أختار رجل السنة، في الوسط الأدبي والثقافي وحقول التجريب الرمزي، سأختار بلا تردد الكاتب الجزائري بوعلام صنصال. ولعل السبب هو هذا البركان من الغضب الذي رافق اعتقاله، وطريقته العلاجية في الذهاب نحوه بخطى هادئة وعاقلة حتى… ووضع نفسه بين فكي الوحش والقضاء ليتابع «بموجب المادة 87 مكرر من قانون العقوبات الجزائري التي تعاقب مجمل الاعتداءات على أمن الدولة، وتنص على عقوبة الإعدام». بماذا تؤاخذه السلطات في الجزائر؟ إنها، بتلخيص، تتهمه بتصريحات تبنى فيها «موقفا مغربيا يقول إن أراضي مغربية انتزعت من المملكة تحت الاستعمار الفرنسي لصالح الجزائر». بركان غضب أريد أن أفسره بعيدا عن ربط ذلك بالتوتر السياسي الحالي الناجم عن اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء. المعامل الفرنسي حاضر وبقوة، ذلك أن فرنسا موجودة في كل مفاصل التاريخ والجغرافيا واللغة والشرعية السياسية في هذا الحديث .. ولكني مع تقصي حقائق البركان على مستوى أعمق وأبعد. كان لا بد لي من أن أتابع بورتريه صنصال في أطواره الأولى، فهو أقرب إلى مناضل بالرغم من انحيازه إلى عزلة الأديب، وهو أقرب إلى بطل كافكاوي في مواجهة نظام مترع بالدم وبالحيل البوليسية الرهيبة. وهو إلى ذلك رجل ثمانيني، أعتقد، بغير قليل من الخيال الأدبي، بأنه اختار،عن عمد، إزعاج نظام دولة عسكرية قوية، حتى يجد العزلة اللائقة بمناخ كتابة الوصايا الأخيرة، وذهب في ذلك إلى أبعد حد من البطولة بثلاث عبارات فقط، تبدو اليوم بمثابة سلسلة ديناميت، فجرت عقدة النظام الجزائري إزاء التاريخ، وإزاء الجغرافيا السياسية للتاريخ المعاصر، وإزاء الهوية المبتكرة لدولة تمارس عنف الدولة قبل أن تثبت أنها دولة. وهو إلى ذلك أديب شيخ، يعطي الانطباع أنه لم يكن يعرف أن ما قاله سيجر عليه غضب «الليفياتان»، لهذا لم يتردد في العودة إلى بلاده. زد على ذلك أنه عرضة للنوايا السيئة للنظام. إذ لا أحد يفهم كيف لهذا النظام الذي بنى «ثوريته» على خطاب يعتبر بأن الحدود الموروثة عن الاستعمار هي النظام العالمي الوحيد المعترف به، وأن الحدود التاريخية أو الحقيقية لا نجاعة قانونية وسياسية لها في عالم اليوم. نظام يفرح كثيرا بأنه لا يدين للتاريخ بشيء في بناء شرعيته، يغضب عندما يحرجه كاتب أو سياسي أو مؤرخ، ويخرجونه من التاريخ نفسه ويجعلونه حديث الولادة والوجود! لم يقل صنصال، في واقع الحال، إلا ما كان يفرح به قادة النظام ويتحركون على ضوئه بين الأمم وضد المغرب أساسا. كان كل قادة النظام منذ 1962 يفتخرون بأنهم أبناء ثورة ليس التاريخُ أباها، عكس المغرب الذي يحكمه «مخزن» عتيق عتاقة ما يزيد عن 12 قرنا. وباسم هاته المسألة كان يعطي لنفسه شرعية الحديث باسم الدول الحديثة العهد، وباسم هاته الفرحة الثورية اللاتاريخية كان يحارب المغرب. ومع ذلك، فالحقيقة، التي تزعج ربما من هاته الإحالة على الأراضي التي تحدث عنها صنصال بخصوص تيندوف مثلا، هي أنها حقيقة جغرافيا بدأت تزعج انطلاقا من تاريخ الجزائر الحديثة. المغرب لا يطالب بأراض كانت أرضه في زمن غابر عتيق، بل بالأراضي التي قدمت ساكنتها البيعة لسلطانه قبل سقوطها في نير الاستعمار، أي منذ قرابة ستين سنة أو يزيد بقليل، كما هو حال تيندوف: على حد قول عبد لله العروي. هو يتحدث عن أراض انتزعت بالقوة من المغرب، وليس أراضي يريد المغرب أن يتوسع فيها… وصنصال مقلق مزعج لأنه يرد على شرعية النظام وسرديته بدون أن يكون المغرب والمغاربة في حاجة إلى ذلك. في وقت يريد النظام الجزائري أن ينسى المغاربة تاريخهم أو تاريخ ترابهم ويتهمهم بالتوسعية وبتهديد وحدة الجزائر يأتي كاتب يبدو محايدا بلغة هادئة وصوت يشبه ريحا منعشة في قصبة الناي، ليقول هاته الحقيقة المزعجة.. لهذا يبدو متمردا و«خائنا» للجزائر النظامية. وهو بمجرد أن عاد إلى بلاده، أعلنوا للعالم بأنها ليست بلاده بل هي بلاد الدولة الجارة، التي قال فيها كلاما صريحا، يدعو إلى سخط الحاكمين… وهو بذلك أزعج الطمأنينة المفتعلة، على أساس قاعدة من صميم الخيال التاريخي. لم يكن نصيب كمال داوود ليختلف عن نصيب بوعلام صنصال، لو أنه دخل البلاد وشارك في معرضها لتم اعتقاله! وكمال داوود مع ذلك ليس شبيها لبوعلام صنصال.. ولكنهما يشتركان في محاولة تدقيق النظر الأدبي والمعرفي في طبيعة تاريخ بلادهما. كمال داوود أزعج النظام لا لأنه نال «الغونكور» من الدولة الخصم حاليا، أو لأنه يكتب بمشرط يجرح أطراف النظام، بل لأنه كان يبحث بعيدا قليلا عن الأسطورة المؤسِّسة للنظام في الجزائر، وبعيدا عن سردية ثورة المليون شهيد.. وأن ينزع البلاد من جذورها الاستيهامية حول هاته الثورة التي تحولت إلى صك ملكية للريع، للذين يحكمون الجزائر إلى غيرها من السرديات التي تنزع نحو طرح سؤال شراسة النظام وغرائبيته وعنفه الممض في وجه الشعب الذي جاء بعد ثورة المليون شهيد وسردياتها. صنصال لم يكتب بهذا المعنى وإن كان قد لامس غير قليل من الأسطورة في كتابه «قرية الألماني»، وعن ترابط الضرورة بين قدماء النازيين وحاجة الثورة إلى خبراء في الحرب على فرنسا، العدو المشترك. هو يريد أن يتحدث بطلاقة، بدون أن ينتبه كثيرا إلى حساسية حراس هاته السرديات. يؤمن بأن الحقيقة هي وحدها التي يمكن أن تسعف بلاده في تقدير جغرافياتها وتاريخانياتها، المتلازمة في الوعي الوطني الجماعي.