لم يجد المغربي، عمر زنيبر، المسؤول الأممي الذي يشغل منصب رئيس المجلس الأممي لحقوق الإنسان، أي غضاضة في الحديث عن الفساد، ولم يتردد في تشريح آثاره وتبعاته، وتتبع إسقاطاته على السياسة، والاقتصاد، والقيم، والمؤسسات، والأفراد. وقد عدد، في ندوة خبراء مجلس حقوق الإنسان حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومكافحة الفساد في سياق التعافي من جائحة "كوفيد19″، مثالب الفساد العديدة بالعقل والأخلاق. وسمعنا منه أن الفساد "يؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة والحرمان من الخدمات الأساسية". ولعل الجميع، من كل أقطار العالم، خطرت في أذهانهم مقارنات لإسقاط هذه المعاينة على أوضاع بلدانهم. وما كنا لنشذ عن القاعدة، وفكرنا في مجالسنا، وإداراتنا، ومؤسساتنا الحكومية وغير الحكومية، وما جناه الفساد على خدمات أولية في النظافة، والتطهير، وفي توفير النقل، وفي توفير البنيات الصحية الأساسية… إلخ إلخ. ولعل من أبلغ ما قاله عمر زنيبر هو أن "الفساد هو أحد أكبر التحديات التي تستمر في جر مجتمعاتنا نحو الأسفل". يكفي أن نفكر في الطرق، والجسور، والمنازل التي انهارت بسبب الفساد، وأن نفكر في كل المبالغ التي تم تبديدها ليظل الفساد صاحب الكلمة الأولى في الصفقات، وفي المشاريع، وفي الاستثمارات الوهمية، لكي ندرك أن الفساد فعلا حجر ثقيل يجر المجتمعات نحو الدرك الأسفل. وفي الختام، لا يمكن أن نكون محايدين أمام صراحته، وهو يعلمنا بأن محاربة هذه الآفة "تتطلب أكثر من الأطر القانونية، فهي تستوجب إرادة سياسية، وقبل كل شيء، التزام جميع شرائح المجتمع". ولعل من المنطقي أن يستحضر المتتبع للشأن العام الوطني مدى حضور الإرادة السياسية في محاربة الفساد. ولا بد أن يذهب ذهنه مباشرة إلى من يملك الأدوات الردعية والقانونية والمؤسساتية في محاربته، ولا بد أن يقف عند الحكومة. والحكومة، أولاً في تعريف الحرب على الفساد، لا هي متهمة، ولا هي مدعية عامة، ولا هي القاضية. هي السلطة التنفيذية التي يجب أن تعبر عن الإرادة السياسية، بل هي الفاعل الأخلاقي الأول الذي تملكه الدولة في تجفيف ينابيع الفساد. ماذا نجد؟ في الواقع، هناك مفارقة صارخة في تعامل الحكومة مع الفساد، من خلال مناقشته في البرلمان، وفي ردود فعل الوزارات والمسؤولين. الأولى هي نكران وجوده، واعتبار الحديث عنه من باب المزايدة أو التشكيك أو المبالغة أو تشويه صورة المملكة. في وقت يقول الواقع إن الفساد جرف العديد من "النخب" السياسية والحزبية إلى قاع بلا قرار، وإنه وصل مراتب مثيرة للقلق في القرار السياسي، حتى إن بعض النخب متابعون بالاتجار في المخدرات، وفي التهريب، وفي الاختلالات، وفي تحويل المال العام إلى ملكية خاصة. والدفع بصورة البلاد، للسكوت عن الفساد، مغامرة غير محمودة العواقب، ذلك أن الفاسدين ليسوا هم البلاد أولاً، وأن البلاد يدافع عنها ما يتحقق من مكتسبات، ومن منجزات، ومن نتائج على أرض الواقع بفعل إرادة ملكية لا غبار عليها، ومساهمة من الأطر الوطنية في كل المجالات والحساسيات والأحزاب ممن لا يحبون الفساد. نحو تخليق المجال العمومي ومراكز القرار وخدمة المشاريع الحضارية الكبرى. أضف إلى ذلك أن "وضع الفساد تحت الحصير"، وعدم الحديث عنه، لن ينظف صورة البلاد أو يلمعها. والدعوة إلى سلوك من هذا القبيل هي دعوة إلى التطبيع مع الفساد، والتعاون مع المفسدين، وتكريسهم نماذج للنجاح الاجتماعي والسياسي والمؤسساتي. والحقيقة أن حكومة العثماني السابقة تبنت نفس البلاغة المواربة. المفارقة الثانية هي بناء خطاب حكومي على مجمل القرارات، والقوانين، والمبادرات الحكومية التي تمت صياغتها وبلورتها في محاربة الفساد. ونحن ندرك بأن المغرب قد أطلق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد قبل عقد من الزمن، ودخل القانون 46.19 حيز التنفيذ، وتم تعيين أعضاء مجلس الهيئة وأمينها العام، وتكونت لجنة حكومية لهذا الأمر. وعندما أصدرت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها تقريرها عن سنة 2023، الأول من نوعه، كان رد الحكومة عنيفا جدا. وهو ما يطرح علينا سؤالاً متناقضا: هل الحكومة تضع كل هذه الترسانة لمحاربة فساد لا يوجد، أي فساد شبح؟ فكيف تقول بأن الوضعية ليست بمثل هذه الصورة السوداء، في وقت تضع القوانين والمشاريع لمحاربة هذا الفساد؟ ليست حروب طواحين ولا حرب جن وتماسيح، بل تعامل مع حقائق يصعب القفز عليها في واقع يرونه بعيداً ونراه رأي العين. ملك البلاد جعل محاربة الفساد التزاما مع العالم (مجلس حقوق الإنسان الأممي)، ومع القارة (من خلال احتضان مواثيق مراكش والرباط في هذا الباب)، والتزاما أخلاقيا مع المجتمع، في الدعوة إلى محاربة كل أشكال اللاوطنية والقيم الفاسدة والعراقيل المتعمدة في وجه الاستثمار مثلاً.