شهدت المجتمعات العربية في العقود الأخيرة تحولاً ملحوظاً في معدلات القراءة والثقافة العامة، حيث أصبحت مسألة ضعف القراءة واحدة من القضايا الملحة التي تستوجب المعالجة. تتعدد أسباب هذه الأزمة، وتختلف تحدياتها بحسب السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لكل دولة، لكن النتيجة واحدة: تدني مستوى القراءة بين الشعوب العربية بشكل عام. 1 – أسباب أزمة القراءة في المجتمعات العربية أ – التعليم ومناهجه: تلعب المناهج الدراسية دورًا كبيرًا في تشكيل سلوكيات المتعلمين ومواقفهم تجاه القراءة. في العديد من الدول العربية، يعاني نظام التعليم من قلة التشجيع على القراءة الحرة، حيث يتم التركيز بشكل كبير على التعليم التلقيني والحفظ بدلاً من تنمية مهارات التفكير النقدي والتفاعل مع النصوص. هذا النهج يولد لدى التلاميذ شعورًا بأن القراءة هي واجب مدرسي أكثر من كونها متعة أو أداة لاكتساب المعرفة. ب – ضعف البنية التحتية الثقافية: تعاني بعض الدول العربية من ضعف في البنية التحتية الثقافية، مثل قلة المكتبات العامة وصعوبة الوصول إلى الكتب. في العديد من المناطق، تكون الكتب باهظة الثمن أو يصعب الحصول عليها، مما يحد من الفرص المتاحة للأفراد للانخراط في فعل القراءة. ج- تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي: مع انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الحصول على المعلومات أسهل وأسرع، لكن هذا الأمر قد أثر على نمط القراءة التقليدية حيث يميل الناس الآن إلى استهلاك المحتوى القصير والسريع، مثل المنشورات والتغريدات، مما يقلل من فرص قراءة الكتب الطويلة أو المواد الثقافية العميقة. د- العوامل الاقتصادية والاجتماعية: تعاني بعض المجتمعات العربية من مشاكل اقتصادية كبيرة تؤثر على الأولويات اليومية للأفراد. في ظل ضغوط الحياة اليومية، قد يجد الأفراد أنفسهم مجبرين على التركيز على تأمين الحاجات الأساسية على حساب الاهتمام بالقراءة والثقافة. كما أن معدلات الفقر العالية تجعل شراء الكتب أو الانخراط في الأنشطة الثقافية أمرًا غير ممكن للكثيرين. ه- تغييب المحتوى الجاذب: يعاني الكثير من نصوص الأدب العربي والمحتويات الثقافية المطروحة في الساحة من نقص في التنوع والجاذبية، مما يجعل من الصعب على القراء، خاصة الشباب، الارتباط بالمحتوى. في بعض الأحيان، يتم تقديم الأدب بطريقة تقليدية مملة لا تواكب التطورات الحديثة في أنماط السرد وأشكال العرض. 2 – الآثار الناجمة عن أزمة القراءة أ- تراجع مستوى الوعي الثقافي: تؤدي أزمة القراءة إلى تراجع مستوى الوعي العام بالقضايا الثقافية والفكرية والاجتماعية. فالفرد الذي لا يقرأ يفقد فرصة تعزيز معارفه وتوسيع أفقه، مما ينعكس سلباً على المجتمع ككل في مجال التفكير النقدي والانفتاح على الأفكار الجديدة. ب- ضعف في المهارات اللغوية يرتبط ضعف القراءة بتدهور المهارات اللغوية لدى الأفراد، سواء من حيث القدرة على الكتابة أو التعبير بشكل سليم. القراءة تعزز المفردات اللغوية وتعمق الفهم لقواعد اللغة والأساليب التعبيرية، وبالتالي فإن غيابها يؤدي إلى ضعف في هذه المهارات الحيوية. ج- فقدان الهوية الثقافية تعتبر القراءة وسيلة هامة للحفاظ على التراث الثقافي والهوية الوطنية. ومع تراجع القراءة، يصبح من الصعب نقل التراث الفكري والثقافي للأجيال القادمة، مما يؤدي إلى فقدان الهوية والانفصال عن الجذور التاريخية والثقافية. د- ضعف الابتكار والإبداع القراءة تغذي خيال الأفراد وتشجع على التفكير الابتكاري والإبداعي. بدون القراءة، يصبح من الصعب على الأفراد الخروج عن المألوف والتفكير بطرق جديدة ومبتكرة، مما يؤثر سلبًا على مختلف المجالات، بما في ذلك العلوم والفنون. 3 – سبل تجاوز الأزمة أ- إصلاح النظام التعليمي: يجب أن يبدأ الحل من المدرسة. يجب أن يتم تشجيع التلاميذ على القراءة منذ الصغر، من خلال توفير مكتبات مدرسية جذابة وتنظيم مسابقات وأنشطة تحفز على القراءة الحرة. كما ينبغي تعديل المناهج الدراسية لتشمل كتباً تثير اهتمام الشباب وتدفعهم للانخراط في القراءة بإيجابية. ب- دعم المكتبات العامة والنشر ينبغي على الحكومات والمؤسسات الثقافية أن توفر الدعم اللازم لتعزيز المكتبات العامة وتوسيع انتشارها. كما يجب تخفيض أسعار الكتب وتسهيل الوصول إليها من خلال تنظيم معارض الكتب وتشجيع المشاريع الرقمية مثل الكتب الإلكترونية. ج- الترويج للقراءة عبر وسائل الإعلام يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دوراً إيجابياً في تعزيز ثقافة القراءة من خلال الترويج للكتب وعرض مراجعاتها والتشجيع على الحوار الثقافي حول المحتويات الأدبية والفكرية. د- تحفيز الأجيال الجديدة ينبغي التركيز على تحفيز الأجيال الجديدة على القراءة من خلال تقديم محتويات حديثة ومتنوعة تعكس اهتماماتهم وتواكب متطلباتهم. يمكن إدخال تقنيات جديدة مثل التطبيقات التفاعلية والكتب الرقمية لتحفيز الشباب على القراءة بطرق تتناسب مع اهتماماتهم في عصر التكنولوجيا. وصفوة القول فإن أزمة القراءة في المجتمعات العربية ليست مجرد مشكلة فردية، بل هي قضية تمس تطور المجتمع بأسره.كما أن تعزيز ثقافة القراءة يتطلب جهداً مجتمعياً متكاملاً يبدأ من التعليم ويمر عبر الدعم الحكومي والإعلامي وصولاً إلى الأفراد أنفسهم.