في المرحلة الحالية، لا يمكن أن نتجادل طويلا ونحن في قلب مشروع مجتمعي متوافق عليه.ليبراليون ويساريون وإسلاميون ومحافظون ومحافظون برجوازيون وصوفيون وأعيان، وكل الفصائل توافقت على مشروع مجتمعي يقوده الملك، بعد أن حقق حوله توافقا وطنيا كبيرا وواسعا. وهو يدخل ضمن دينامية واسعة، حضارية قبل أن تكون سياسية قاعدتها التوافقات الكبرى.. وهذا التوافق يعطي للجميع، ونقول للجميع، الحق في تنزيله، والسهر على تطبيقه، وليست الحكومة سوى الصيغة المنتقاة« في تدبير هذا التوافق، والسؤال هو »هل فعلا تنجح في ذلك؟ في الجواب يبرز الفرق بين العمليات التقنية المقترحة والكفاءات المختارة، وفي درجة الاقتناع بأولوية العدالة الاجتماعية وفهمها العميق. في هذا السياق تبرز الهوية بما أنها تختار الأولويات، وتختار البعد السياسي في ما هو تطبيقي: هل نبدأ بفلاحة التصدير أم نسعى إلى تقوية الفلاحات العائلية والصغرى التي تحمي التماسك الاجتماعي وتحقق السيادة الغذائية وتضمن التطور السليم وتوازن الجغرافيا السكانية بين المدن والعالم القروي؟ ( وللتاريخ فقط ومن باب القصص، كانت الليبرالية التي ولدت في أحضان مشروع الأنوار الذي أضاء البشرية في القرن الثامن عشر وما بعده إلى الآن، قد احتضنت من طرف التيار المسمى فيزيوقراطي، الذي يجعل من المحصول الفلاحي المصدر الوحيد للقيمة، ولعل في اسمه يكمن المعنى: فيزيوقراطي أي حكومة الطبيعة …)! وفي تحديد الأولويات تبرز هوية الليبرالي من غير الليبرالي، وما إذا كان يجعل القوة للمال أو للفكرة؟ .. وعليه، وبناء على ما سبق من توافقات، تكون الأزمة، في الواقع، في القدرة على تصريف هاته التوافقات ومدى النجاح فيها، والقدرة على تقوية المقاربة السياسية لهذا المنجز الذي ينتظره الجميع! سياسيا، قد يقع مع الدولة الاجتماعية، شعار كل الاجتماعيين المحدثين منهم والمتحورين، مثل ما حدث للإصلاح الدستوري مع القوى المحافظة، والتي لا أحد ينكر مساهمتها المؤسساتية في إصلاحه ضمن اللجنة المحدثة لهذا الغرض ولا تقديمها للمذكرات حوله، لكنها عجزت عن استيفاء كل وعودها الإصلاحية نظرا لأولوياتها..! وقد تكون الهوية الليبرالية هوية متوحشة كما قد تكون ليبرالية »حلال» وتعطل الدولة الاجتماعية. اليوم، هناك مشروع مجتمعي يبحث عن منفذين اقتصاديين واجتماعيين، وعلى أساس ذلك تتحدد الهويات غير القاتلة. وعليه، بخصوص الحكومة والمشاركة فيها، فإذا كان الاتفاق حاصل من الطَّيف السوسيو سياسي بأجمعه حول المشروع المجتمعي، الذي يحمل لواءه ملك البلاد، أفلا يكون السؤال المنطقي يا ترى هو : أليس من حق الجميع أن يشارك في تنزيله، بما أن الجميع اعتنقه وساهم في بلورته وصفق له وتبناه ؟ أم أن المنطقي هو أن يتم» تجيير« المشروع برمته لفائدة هندسة حكومية محصورة في ثلاثية بعينها، تتجاوز وظيفتها بإيجاد العقلانية التقنية القمينة بإنجاح التنزيل إلى قوة إغلاق للحقل السياسي برمته لفائدتها وعلى حساب التوافق الشامل ؟ هو سؤال فقط.. بالعودة إلى القوى الحاملة للمشروع الليبرالي في المغرب، اليوم، هي التي لها روح الرؤية بخصوص قضايا جوهرية تحدد هويتها، من قبيل المجتمع ومعاركه ( لم نسمع لبعضها هزا ولا ركزا في معركة المدونة والحريات وغيرها ) والعدالة الاجتماعية، وهي بالمناسبة غير التركيبات الاقتصادية التي ترمي إلى تقليص الفوارق، هذه الأخيرة التي تعتنقها القوى الحالية في المغرب خشية المخاطر لا إيمانا بمحاسنها فقط، والإصلاح، بما هو حركة مستمرة تمس كل طوابق المجتمع… والأهم، في المشهد هو فهم المسؤولية السياسية والفكرية.. إلخ. وهنا نسأل إن كانت الليبرالية التي تستجيب لهذه الوصفات أبعد بكثير عن المشهد الحزبي الذي ننسبه إليهاَ بل هي مرحلة متطرفة في الواقع عما نعيشه اليوم. نجد أنها قوة متعددة المشارب… .. على أن التحليل لا يستقيم إلا باستحضار اللحظة التي تعيشها بلادنا، والتي تتميز على مستوى تدبير تطورها، لحظة النيو ليبيرالية، كما يعيشها العالم، وهنا نعتقد مع الباحثين أمثال محمد الطوزي أن هناك اليوم» حاملين للمشروع النيوليبرالي»، منهم التكنوقراط المهندسون في الاقتصاد والمالية، وهم كانوا ربما سباقين في هذا الباب ( أهم ما يميزهم النقد اللاذع للإدارة والتدبير الحكومي، والدعوة إلى ملاءمة المجتمع مع المقاولة) ، من بينهم موظفون ينتقلون بين القطاع العمومي والخاص، وخدام للدولة المتجددة( ومن بينهم محمد حصاد وأحيزون وبنشعبون وبنموسى مثلا ) ومنهم يساريون قدامى أصبحوا فاعلين اقتصاديين ! وهم يقتسمون مع السابقين نقدهم للدولة والإدارة ومنخرطين في الدفاع عن قيم الشفافية والتحول الإيجابي واقتحموا بدورهم عالم المقاولات كما ظلوا يناضلون في جمعيات المجتمع المدني ومنهم نخب تقليدية تعصرنت وهم » أولاد.. وأبناء..فلان وفرتلان.»، مثل آبائهم ينشغلون في ملتقى السياسة والاقتصاد، وهم يهدفون إلى عقلنة الدولة وتقنياتها لكي تصبح أكثر نجاعة، وهم بذلك حاملون لقيم النيوليبرالية.. وعلى خلاف من سبقهم يحافظون على علاقة قرب واقتراب مع مركز السلطة، أي الجمع بين النيوليبرالية والفهم السلطاني للحكم (الإمبراطوري ).. وهذه النخبة الحاملة للنيوليبرالية مختلفة من حيث الأصول ( عائلات مخزنية، وعائلات أعيان محليين وعائلات دينية كبيرة وعائلات استقلالية،..) وأبناؤها في الغالب خريجو المدارس الفرنسية والأمريكية الكبرى، وفي خدمة الدولة ( الطراب، والدويري، بنهيمة ومزيان بلفقيه..) ومنهم أفراد المجتمع المدني البورجوازي، كما تعبر عنهم المؤسسات التي ترأسها وجوه من مجال المال والأعمال وذات نبض اجتماعي، ومنهم الخبراء والنخب المحلية من الأعيان ذوي المواقع المتعددة، وهم بدأوا كوسطاء بين الدولة والمجتمع وذلك بناء على قدرتهم في بناء المقاولات. غالبا ما يكون نجاحهم الاقتصادي قاعدة لانطلاق سلطتهم السياسية كفاعلين جدد ومن أكبر مهامهم الناجحة تحويل القبيلة إلى فاعل اقتصادي ناجح وناجع، ومن النماذج التي يقدمها كتاب المخيال السياسي للدولة المغربية في زمن النيوليبرالية نموذجين ناجحين يمثلان هذه الفئة وهما عزيز أخنوش ومحمد ساجد.(انظر كتاب حياكة الزمن السياسي في المغرب خيال الدولة في العصر النيوليبرالي ).. ختاما، لم تكن هذه الجولة الليبرالية لإقناع رئيس الحكومة بأنه ليبرالي، ولا إقناعه بأن الليبرالية شيء جميل ليتها تحقق لنا» بكل قلاليشها«، بل هي مجرد محاولة في الفهم لنا جميعا. ويكفي اليوم أن ننظر إلى السلوك السياسي للأغلبية كي نتأكد بأن الثقافة السياسية ليست كما نتصور، فالليبرالي لا يمكنه أن يجد انتشاءه السياسي في تجاهل حقوق معارضيه، لا سيما من حملة نفس التصورات ذات الصلة بالحرية والكرامة. والليبرالي لا يمكن أن يؤسس مشروعه على التنكر للمواطنة، ما زلنا نصارع من أجل استلهام مشاريعه الليبرالية، نحن الذين نحمل مشروعا مغايرا لأهدافه المعروفة في الاقتصاد نترافع من أجل أن تكون في القوانين والمؤسسات والعلاقات المجتمعية، صنوا للحرية و للأنوار!.. ورحم لله الحاج حماد أولحاج مؤسس الحزب الحر التقدمي….. منذ نصف قرن مضى!