تعيدنا مسرحية "ألف هاينة وهاينة" لمسرح محترف شمس، للحظة أزلية يتورطُ فيها المبدع/الخالق في القضية الأساس، أو لربما القضية الوحيدة في هذا الكون: قضية الوجود، لأن القضايا الأُخر ليست إلا تنويعات على مقاماتها. إنها ورطةُ الخلقِ، حيث يستمد الخالق وجودهُ من المخلوق، هذا الأخير المصبوغ بالتمرد، والمنحوت من كتلةِ الحرية والانفصال عن الخالق. لذلك لا أحد منهما ينتصر في نهاية المطاف. أو لنقل إن فكرة الوجود في حد ذاتها تدخل حيّز العدم قُبيْل إسدال الستارة. المبدعُ هو النّحات الإغريقي "بيجماليون"، والمنحوتة هي "هاينة"، التي قُدّتْ إرادتها من صخر، وفرضت رغبتها في التحرر من الخضوع لبيجماليون قسراً، وذلك بعدما نفختْ فيها أفروديت إلهة الحب والجمال الروح والحركة. وبدّدت فرحة خالقها بتجريد روحها من بطشه، فلإن كان يمتلك جسدها وهي صنم لا يرف له قلب، فهي الآن مدينة لأفروديت بالخفة والرشاقة اللتان منحتهما إياها، وبحب الفن والجمال. هكذا تخبرنا المسرحية بوجود صانعين: صانع الجسد: النحات بيجماليون، وصانعة الروح: الإلهة أفروديت التي أرادت أن تعلِّم بيجماليون أن الصانع لا يستعبد مصنوعهُ، بل يدعه يسير في الأرض كيف يشاء. وعلى عكس العديد من المسرحيات التي تمثل مشاهد الصراع بين الجسد والروح، نجد لدى "هاينة" انسجاما تامّا بين جسدها وروحها، غير مبالية لأزمة الوجود التي يكابدها بيجماليون. كاشفة عن صور الحياة التي تمرّ تباعاً غير مبالية بشيء. هاينة هي تلك الصور التي يمكن أن ننظر إليها من نافذة المقهى ونحن نحتسي فنجان قهوة هادئ، تلك الصور التي لا تتوقفُ إلا عندما نغادر المقهى، تلك الصور التي لا تأبهُ بالزمن، ولا بالمكان. إنها صور الحياة التي تقمّصت "هاينة" دورها بقوة في هذه المسرحية. لا قيمة للجسد دون روح، هذه الفكرة البديهية تتحول في هذا العمل الفني إلى فكرة عميقة، لأنها تنقلب رأسا على عقب، حيث لا قيمة للروح دون جسد، فهاينة التي تختفي وتنتهي بالموت تكون قد أكدّت أن الموت نفسه لا قيمة له بدون وجود الروح، فالجسد لا يموت. لقد ظلّت أجساد بيجماليون المنحوتة صامدة حتى نهاية المسرحية، هل لأن الفنّ (ممثّلا في النحت هنا) لا يموت، أم أن الجسد هو الذي يحوز السرمدية والأبدية. تحافظ مسرحية "ألف هاينة وهاينة" على الوفاء للطابع الكلاسيكي للمسرح، بالشخصية الإشكال فبيجماليون عاشق للفن (الموسيقى والرقص)، ممتهن له (نحّات). لكنه في الآن نفسه لا يؤمن بالحرية، بل يتميز بطغيان شهرياري عميق، ويصرح صارخا بأنه سيسفك أرواح ألف هاينة وهاينة، "كل ليلة هاينة" و"كل ليلة دم". لماذا نفكّر دائما في الليلة الثانية ما بعد الألف ليلة وليلة؟ ما الذي وقع فيها؟ هل وضعت شهرزاد نقطة النهاية، وانصرفت لخدمة شهريار وما أنجبته منه من أطفال؟ هل كانت نهاية الحكي رديفا لنهاية الحياة؟ لماذا نفكر دائما في النهايات؟ هل لأن أمام كل واحد منا نهاية ينتظرها وتنتظره؟ لم لا نفكر في البدايات؟ هل لأنها مرّت وانتهتْ؟ هل لأنها هي الأخرى أصابتها لعنة النهايات؟ عطفاً على هذه الأسئلة، يحق لنا ونحن نشاهد هذه المسرحية أن نتساءل: هل كانت هاينة التي عكف بيجماليون على نحتها طيلة خمسة عشر عاما، واستجدى أفروديت لكي تمنحها الحق في الحياة، هي هاينة النهاية (لأنهما نفس الحروف) أم أن هاينة هي البداية، رغم أن البداية ليست "هيِّنة" وقد كلّفت بيجماليون معاناة البحث وحرقة الأسئلة سنين عدداً، لكنه ينتصر لعناده ويقرر بعد أن خطف منه العدم هاينة جسدا وروحا أن يبدأ من جديد. تتميز هذه المأساة بلمسة جدلية، فالوجود بداية للعدم، فحينما وجد بيجماليون هاينة كائنا يتحرك فقدها. والعدم بداية للوجود، حيث كان لا بد من فقدانها لكي يبدأ توالي "الهينات" الألف. وفي هذه المتاهة التي لا يعلم أحد إلى أين تؤدي دروبها، إلى الوجود أم إلى العدم؟ كان لا بد من شاهد يوثق وقائع بيجماليون وهاينة، وقد قام الصياد بهذا الدور منطلقا من تصيد عيوب بيجماليون، وبذلك كان يزكي صراع "القيم" الذي يبثه الحوار المسرحي هنا وهناك، ويُذكي جذوته. تنخرط مسرحية "ألف هاينة وهاينة" في "تحيين" النصوص المسرحية الكلاسيكية، والتي لا يمكن لخلودها في الوجدان والذاكرة أن يكون مجرد تصوّر ذهني معرّض للشتات والزوال. بل هو اشتغال دائم وحيوي بما يتضمنه من قراءة جديدة، فجُبّة بيجماليون في هذا العمل المسرحي ليست استنساخا لجبّته في الأسطورة اليونانية حيث كان يصبّ كل عبقريته في نحت المرأة الجميلة "جالاتيا"، ولا هي الجبة التي ألبسها إياه برناردشو، أو توفيق الحكيم، أو غيرهما.