تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان "حوارات" Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية" ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب "مسار". الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب" La beauté de l'absence" للباحث حسن وهبي، وكتاب" Le chemin vers l'autre" . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول… إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول "مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه". لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول. في ما يلي الحوار الذي أجراه معه عبد الحميد جماهري ومصطفى النحال:
إذن ما هو الدور الذي يتعين على المثقف الاضطلاع به؟ أولا، ينبغي أن يتوفر الآن لدينا عنصر الاختصاص فعندما يكون عند المثقفين اختصاص، عندما يكون الفرد مثلا طبيبا، يتعين عليه أن يتابع ويواصل اختصاصه، وإذا قطع أشواطا كبيرة في تخصصه آنذاك سوف يدخل في التقنية. ويمكن لهذا الاختصاص أن يلعب دورا ثقافيا هائلا بالنسبة لمجتمعه. فعندما يتكلم مع الصحافة أو في الإذاعة والتلفزيون أو مع المواطنين، لن يقول كلاما عاما، بقدر ما سوف يقدم لهم أشياء جديدة ومضبوطة وذات منفعة لهم ولمجتمعهم، سيقول لهم لقد وصلنا في الطب إلى كذا وكذا… فليس ثمة تخصص في الأشياء العمومية، الهم إلا إذا كان المرء فيلسوفا، ومع ذلك، فحتى الفلاسفة الكبار لهم تخصص في ميدان معين: فمثلا نيتشه كان متخصصا في مادة الفيلولوجيا (فقه اللغة). وإذن فالاختصاص ضروري، وبصفة خاصة الاختصاص المستمر. ومن جهة أخرى فإن الاختصاص لا يلغي البتة الاهتمام باختصاصات أخرى مجاورة وقريبة، وذلك بسبب أن بعض الاختراعات تكون موجودة عندنا لكننا لا نكون على علم بها. ففي نفس الكلية مثلا، تكون عدة شعب وتخصصات، وتكون إحدى هذه الشعب متقدمة غير أن الشعب الأخرى تجهل هذا التقدم. وهكذا تشرع في الاشتغال على بعض الأشياء التي سبق للشعبة المتقدمة القيام بها وإنجازها. ومن ثم فإننا نحتاج في فضائنا الثقافي إلى حركة ثقافية وعلمية مزدوجة: نحتاج أولا إلى التخصص، وثانيا إلى الاهتمام بتقدم العلوم الأخرى وطنيا وعلى الصعيد الدولي. أما فيما يخص الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف، فيتجلى في ضرورة اهتمامه بقضايا كثيرة مطروحة عليه: عليه أولا أن يكون على علم بالميادين التي هي في طور التقدم، الميادين التي قطعت أشواطا كبيرة في التقدم العلمي؟، فلا يمكن أن نقتصر على الحديث عن التاريخ فقط، توجد الآن أصناف من العلم، كما توجد مناهج جديدة لتخزين الذاكرة الإنسانية والتاريخية عن طريق التقنيات الجديدة خلال القرن العشرين. فهناك الآن الصورة والتلفزيون اللذان أدخلا إليهما الوثائق التاريخية. فصورة واحدة تقدم لك معركة بكاملها أو أي شيء آخر. وإذن، فالذاكرة التاريخية تتغير مع تجديد التقنية وتجددها فضلا عن تجدد المناهج، إضافة إلى مفهوم الكتابة والكتاب، يتعين على المثقف أن يعرف الوسائل الأخرى في جميع المجالات: التواصل، تعدد الوسائط…يتعين عليه أن يتعلم هذه الأشياء وألا يبقى خارجا عنها، ثانيا، هناك طرق جديدة يستوجب عليه استعمالها، توجد طرق قديمة ومستويات ينبغي أن يبقى معها المثقف، مثل المستوى الشفهي القديم. لكن هناك كذلك مستوى المكتوب كالمحاضرات في الجامعات مثلا، ومستوى الصورة في الإذاعة والتلفزة بالإضافة إلى طرق أخرى. أي أننا كمثقفين علينا أن نستعمل جميع الوسائل والأدوات لأنه ليست ثمة حدود، علاوة على أن ذلك يجعلنا قريبين من أي مكان. في رأيي ليس للمثقف مركز معين دائم. عليه هو نفسه، لكي يظل مثقفا، أن يجدد ذاته يوميا، ويستمع يوميا للمشاكل الحقيقية ويتعلم ويهيئ نفسه ويهيئ لنفسه الوسائل لخدمة المجتمع.