مع بداية التسعينيات، تخلصت القصيدة من رواسب الإيديولوجيا وصارت تبحث عن صوتها المفرد وتسمو بالكتابة نحو مراقي الإبداع والدهشة الجمالية، بحسب الأستاذ الباحث أحمد زنيبر. ولم يتأت ذلك إلا انطلاقا من مجموعة من الأسئلة من قبيل: كيف تحقق التحول داخل القصيدة المغربية، وما طبيعته؟ ما هي المرجعيات التي «يتبضع» منها الشعراء لكتابة قصيدة تعبر عن انشغالاتهم الجمالية؟ ما نوع الأسئلة التي راهن عليها الشاعر كأفق شعري مفتوح على التجارب العالمية والكونية؟ هذا التحول الذي اعترى القصيدة المغربية سجلته الشاعرة فدوى الزياني، صاحبة ديوان «ماتريوشكا»، التي أكدت أن القصيدة المغربية تم تأسيسها على أيدي شعراء ساهموا في إنتاج قصيدة استطاعت أن تعبر عن الصراعات المجتمعية، مما أسهم في إنتاج فكر شعري حديث يعبر عن الذات المغربية. وقالت «إننا لا نستطيع الحديث عن الرواد والتجارب المؤثرة في الشعر المغربي دون أن نستحضر تجارب شعراء من قبيل محمد بنطلحة، محمد علي الرباوي، عبد اللطيف اللعبي، محمد السرغيني، عبد لله زريقة، عبد الكريم الطبال، عبد القادر وساط، مبارك وساط، محمد بنيس، فضلا عن تجارب أخرى صنعت لنفسها مسارا شعريا متطورا، وساهمت في وضع بنى شعرية منسجمة مع المنحى الإبداعي للقصيدة المتحررة والمنفتحة». في المقابل، يرى الشاعر والناقد عمر العسري، أنه زمنياً مرّ على تاريخ الشعر المغربي المعاصر أكثر من قرن تقريبا، وهي فترة مهمة رافقتها طفرة مثيرة ظهرت فيها العديد من الأعمال والشعراء الذين وسموا هذا الفن بميسم خاص، كان له امتداد عند بعض الشعراء دون غيرهم. ثم تحول هذا الاهتمام إلى تجارب أخرى لا تقل أهمية عند المؤسسين والمؤصلين، وبقي الشعر المغربي ديناميا يروم في كل تجربة وحقبة تاريخية إعادة خرق كتابة سائدة، وخلق أفق جمالي جديد». أما الشاعر سامح درويش، فيعتبر أن القصيدة المغربية ساهمت، منذ فترة الاستقلال، في التأسيس لمشهد شعري حديث، بعيدا نسبيا عن ذلك الانغلاق والانطواء في جبة الفقيه. وقد شكلت نخبة من الشعراء طلائع هذا التأسيس، يمكن أن نذكر منهم أحمد المجاطي وعبد لله راجع ومحمد الطوبي ومحمد الميموني وآخرين. وقد استطاع الجيل الموالي لجيل الطلائع، بحسب درويش، شق آفاق التفرد في رسم ملامح معاصرة للشعر المغربي الحديث، ويمكن أن نستحضر هنا تجارب عدد من الشعراء مثل عبد اللطيف اللعبي، عبد لله زريقة، محمد بنطلحة، محمد عنيبة الحمري، حسن نجمي ، صلاح بوسريف، مالكة العاصمي، وآخرين. ومازال المشهد الشعري المغربي يتنوع بتنوع تجاربه التي تصب في مجملها في اتجاه فرز تجربة شعرية مغربية لها فرادتها». فأين تتجلى هذه الفرادة؟ هل في الالتفات الجمالي الذي تمارسه القصيدة على نفسها؟ أم في ارتيادها لشعريات أخرى مغايرة؟ الشاعرة والكاتبة المغربية سكينة حبيب لله، تؤمن بالبعد الكوني للتجربة الشعرية، وبأن الشعر لا ينتمي إلى بلدٍ بعينه. وترى أنه مع ذلك يمكن الحديث عن تصنيفاتٍ لنمطٍ معُيّن من القصيدة، كالهايكو في اليابان، أو «اللانداي» الخاص بنساء البشتون في أفغانستان، أو أشعار العيطة في جهة الشاوية بالمغرب. وتوضح الشاعرة أن «الحديث عن قصيدةٍ مغربية يرسم تلقائياً حدوداً في الذّهن، علما أنها ليست مكاناً نشير إليه على خريطة، بل ثمّة قصيدة كُبرى تُكتب في العالم بأكمله». هذا الرأي لا يجد صداه لدى الشاعر والكاتب المغربي سعيد منتسب صاحب ديوان «أمواج تخرج من عرينها جائعة»، الذي يعتبر أن رمي المنجز الشعري المغربي في موقد الحطب لا يحل الإشكال القائم، لأن من شأن ذلك أن يصنع حجابا أسود بين مختلف التجارب والأجيال والشعريات. الشعر لا ينزل من السماء، ولا يتحقق إلا بنوع من المكابدة التي تفضي، على مستوى الإيقاع (المعنى)، إلى «اليقظة». ولهذا، لا أستطيع أن أفهم من يعتبر الشعر «طَرْقَ مطر على الزجاج» أو «خفقة جناح خلف باب» أو «شجرة رابطة الجأش أمام فأس». ويتابع: «الشعر ليس تجسسا على الشعر العالمي من خرم الباب. وبتعبير أدق، الشعر ليس نظرة من الخارج، ولا يمكنه أن يكون كذلك. إنه تلك التجربة التي تتلاطم داخلها النشوة بالإعياء، التمكين بالتلوين، اللغة بالكلام، الأنوار بالظلال، اليقين بالارتجاف». ويضيف: «تأسيسا على ذلك، لا يمكنني أن أفهم ذلك الجهل الذي يختلج تحت جلد بعض الشعراء الجدد بمنجز أسلافهم. بل لا أستطيع أن أفهم ارتفاع نسبة الفخر بهذا الجهل في دمائهم، وبما «يقترفونه» من نصوص يلحقونها، كيفما اتفق (ظلما وعدوانا)، بالتجربة الكونية. وحتى لا نسرح بعيدا، هناك من الشعراء الآن من يحطم كل الجسور التي قد تربطه بالشعراء الرواد، بل يعلنون انفصالهم الشامل عنهم، ظنا منهم أن الشعر «النقي» على مرمى حجر من قصائدهم، وأنه يكفيهم أن يذكروا أسماء مثل وديع سعادة وسركون بولص وعباس بيضون، حتى تأتي الرقاب إليهم صاغرة. ومنهم من يعتقد أنه يملك المستودع الشعري العالمي بمجرد اطلاعه على ريتسوس أو أندري فيلتر أو إيف بونفوا.. إلخ . وبحسب منتسب، فإن التحول يعني، في المقام الأول، الانتقال من لحظة شعرية إلى أخرى، ويمكن أن يتحقق هذا التحول داخل التجربة الواحدة نفسها. والتحول، يعني حيازة قوة شعرية مرجعية لمواجهة «الفراغ»، كما يعاكس النظر بغضب إلى الخلف، بحسب ما قاله «جون أوزبورن». إنه جهد شعري ينطلق من التحولات والإبدالات التي لا مناص منها لكتابة نص شعري مغربي يعض ذيله ليتجدد». وإذا كان الشاعر سعيد منتسب يعتبر أن ما يقود التجربة الشعرية الحالية، في كثير من نماذجها، هو القفز على منجز السابقين، على نحو يجحد هؤلاء إسهامهم في التحديث، فإن الشاعرة فدوى الزياني، ترى أن القصيدة المغربية «وصلت حدا من النضج والكمال، أو بمعنى مبسط بلغت مرحلة القصيدة الحية التي تنقل صورة العصر وتعبر عن عمق حضاري حقيقي، كما أنها اتخذت قوالب شعرية سلسة تتماشى والمجتمع الحديث، إذ أسست لقيم جمالية رافضة لهيمنة المعتقدات السائدة الضيقة»، معتبرة أن الإنتاج الشعري هو إنتاج ثقافي غير محدود، وهو تعبير عن الذات وعن الآخر، وعن عوالم الحياة الأخرى بلغة متحررة من كل القيود. وأوضحت الزياني أنّ «الذين سبقونا إلى أحراش الشعر اقتنصوا الكامن والأعمق والأجمل خلف أكماته، لكن لن نستطيع تجاهل مجموعة مهمة من شعراء الحداثة والتجارب المعاصرة التي أضفت نوعا من الحياة والتغيير على المشهد الثقافي العربي؛ فالشعر كائن حي يخلق الهويات ويكره التصنيف». ويوضح الناقد والشاعر عمر العسري من جهته أنه لم يكن ممكنا التعامل مع الشعر الجديد إلا بمفهوم الكتابة الذي اخترق عدة مفاهيم، لأنه يرفض مفهوم الجيل والحساسية. ويرى العسري أنّ الكتابة الشعرية المغربية المعاصرة، لا تؤسس، لمدرسة أو اتجاه في الكتابة، بقدر ما تستنبت خصوصية كتابية ذاتية، وصوتا فرديا يُعد تعبيرا متفردا يأبى التصنيف أو الإدراج داخل نظام كتابي معين. ويبدو هذا جليا من خلال أشعار محمد بنطلحة، ومبارك وساط، وعبد لله زريقة، ومحمد الشركي، والزهرة منصوري وغيرهم، التي تنزع إلى الكتابة وإعادة الكتابة. فالجوهر التأليفي والكتابي الذي يستدعيه الشعر المغربي المعاصر أصله وعي الشاعر الذاتي، واشتغاله على إنجاز عمل شعري بانشغالات فنية وبشروط كتابية خاصة جدا. وهناك مسألة مهمة تلح على الشاعر المعاصر وتشكل هاجسا ومنطلقا له، وهي البحث عن الجديد الذي لا يكرر تجارب سابقة أو مستهلكة، بل يستشرف آفاقه الخاصة، ويرسم تفرده وتميزه. ويتابع: «مصطلح الشعر المغربي المعاصر يحجب التوافق والانسجام بين التجارب، ويُرسي تنوعا فنيا وجماليا لا حجة واحدة على تحققه إلا في نماذج معينة أنجزتها بعض الأقلام دون غيرها، وهي تتمتع برؤية ومشغل جمالي خاصين، ونستحضر في هذا المقام تجربة مبارك الراجي، فدوى الزياني، وسعيد منتسب». إن التحول الحقيقي، الذي تنتظره الشعرية المغربية، لن يتحقق إلا بعقد تحالف جديد مع المنجز الشعري السابق، قائم على الصداقة والالتفات، لأن أي تجاوز لا يقع إلا باستحضار هذا المنجز، وتملكه، واستظهاره رأسا على عقب، في أفق إنتاج نص شعري مختلف، حسب ما يرى الشاعر سعيد منتسب. ويوضح: «صحيح أن من حق أي شاعر أن يلفت الأنظار إلى قصيدته «الأصيلة»، وبأن يجازف بالانتماء إلى الكون الشعري الفسيح ، لكن»الأصالة الشعرية» لا تتحقق باقتفاء التجارب العالمية، بل بالالتفات في الذات، وفي إيقاعاتها وأساطيرها وهوياتها ولغاتها. الشعر المغربي لن يتحقق بارتداء «الكيمينو» أو «التنورة الأسكتلندية» أو «القبعة المكسيكية». الشعر المغربي يقع على بعد أمتار قليلة من إيقاع الذات المغربية، وبعد ذلك يمكن الانفتاح على إيقاعات العالم، وهنا لا بد أن نطرح سؤال الحدود حتى وإن كانت هذه الحدود وهمية».
الشعر والذكاء الاصطناعي.. حياة أخرى!؟
هل سيضع الذكاء الاصطناعي الشعراء في قيلولة مفزعة؟ وهل سيصبح الشعر بحرا من الصفيح، وذا أحضان مهجورة؟ هل سنقرأ، في المستقبل القريب، قصائد «مُمَكْنَنَة» تلتصق بالحصى المصقول، تلمع وتبرق وتبهر وتذهل، لأن «لا شيء فيها يختنق»، ولأنها مولودة من الاتساق؟ بإمكان الذكاء الاصطناعي، عبر برمجيات حاسوبية تعالج كميات لا متناهية من البُنَى الشعرية، أن يتخذ «قرارا» يفضي إلى قصائد لها وقع الطعنة على «الذخيرة الشعرية» التي أنجزها البشر عبر التاريخ؛ وبإمكانه أيضا أن يكون أكثر دقة في تسديد «الإبهار» والجمال والقوة إلى القارئ. لكن، هل بوسعه بالفعل أن ينافس تلك القصيدة التي يرتكبها شاعر لا يتردد في إلقاء نفسه إلى بحيرة تماسيح؟ هل بوسعه أن يتجاوز ذلك الشعور الإلهي الذي يكتنف هؤلاء الشعراء «الأنبياء» الذين لا يتراجعون أمام الحجارة أو السياط؟ هل بوسعه أن يتحول إلى هياج يأكل النار التي تتفصد منه، ليرتفع نحو أبعاد شعرية وفلسفية أخرى غير مطروقة؟ هل بوسعه أن يقطع المسافة بين «له أيطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل» و»من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟»، وأن يتملكها وينزاح عنها ويمحوها، ويجعلها مغرورقة بالتلاشي والغياب؟ إن الشعر، في العمق، إبداع؛ والإبداع خروج عن النسق، ويقع خارج «الإنتاج المُمَكْنَن» أو الآلي. إنه ليس مجرد تدوير للمنجز الشعري، وليس مجرد قاموس وتركيب وإيقاع. كما أنه ليس نوما هانئا وكسولا مع آلاف القصائد في فراش واحد.. هذا هو الفرق الجوهري بين «الشعر الاصطناعي» والشعر البشري؛ فالكتابة بالدم الفائر والمالح لا تشبه الكتابة بالزيت والكهرباء. الكتابة بأعصاب تسيل على الركب ليست هي الكتابة بأذرع يابسة ومحايدة. صحيح أن الشعر البشري سيفقد مساحات كثيرة، وسيتعرض للقصف المبرح، لكنه لن يفقد حاسة الشرف. سيظل حرا طليقا خارج الاتساق والترويض، وخارج الدقة المزعجة والإتقان السهل، متحيزا إلى الجنون والارتعاش والمشقة وغبار المكانس. سيظل مضيئا تحت السماء المطفأة التي يقترحها علينا الذكاء الاصطناعي، وسيظل جائعا كذئب الثلوج، وممطرا كغيوم «ميغالايا» المغطاة بورق الموز. إن «الحياة الأخرى للشعر» تعني أن نحافظ على ما هو «بَشَري» في الشعر، وأن نقترفه بوعي تام بضراوة كل الأذرع المهددة والمزاحمة والمنافسة التي تعلن قدومها الضاج بالذكاء والمككنة، أي أن نتخلص على نحو تام من البرمجة والتدوير والذكاء والنزعة «الليغو تيكية» في الكتابة الشعرية. نعم، إن التطور التكنولوجي والقني، وسيادة سلطة «الإصبع الصغيرة» بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، تطرح على الشعر المغربي أسئلة جديدة تستدعيها التحولات المعرفية والفكرية والثقافية، ولنا أن نطرح مجموعة من الأسئلة: – إذا كان الشعر هو الانتقال باللغة من معناها الأول المباشر إلى مستوى أعمق، أكثر مواربةً ومكرا وإيحاء وتثغيرا، فما هو الأفق الشعري الذي تتجه إليه القصيدة المغربية، في ظل هذا الانتقال الفكري من الكتابة على الورق إلى التحقق خارجه، بل أحيانا خارج الذات الفردية للشاعر، وهنا أفكر في القصيدة الترابطية أو التفاعلية. ما هو أفق القصيدة مع هذا التلقي الجديد؟ – الشعر ليس انفصالا عن الواقع. الواقع يلذ الشعراء السياسيين، كما يلد الشعراء الذهانيين والمنتحرين والفلاسفة. ومع ذلك، فهذه القاعدة ليست بسيطة، ولا يمكننا مواصلة الطريق في الاتجاه نفسه. الآن بإمكان الشعر أن يضع نفسه في ذهن الآخر، وأن يبارزه، وأن يستحم مع المتلقي في المياه نفسها. ما علاقة الشعر المغربي بالواقع؟ هل هي علاقة اتصال مع اليومي، ومع المتبدي والمعيش؟ أم هي علاقة انفصال وارتفاع واغتراب؟ -إذا كانت قصيدة النثر انتهاكا استئصاليا للمعنى العروضي (أو الصوتي) للإيقاع، هل نجحت القصيدة المغربية في تحقيق إيقاعها الخاص، على مستوى إسقاط الجدران بينها وبين الإيقاعات المحلية، وأيضا بينها وبين إيقاع اليومي وما يخترقه من تطور وانزياح وسفر وتشويه..؟