كثير من الرمزيات تجمع زيارة الدولة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون (أيام 25 – 27 غشت 2022) إلى الجزائر، مع زيارتين مماثلين سابقتين للقائد التاريخي لفرنسا الحديثة لذات البلد سنتي 1958 و 1959، الجنرال دوغول، حيث تلتقيان في روح ذات الشعار السياسي الذي يبشر ب «التوجه نحو المستقبل». كان دوغول قد زار الشرق الجزائري (متحاشيا زيارة مدينتي الجزائر ووهران) أيام 27، 28، 29، 30 غشت 1959، وهي الزيارة التي مهدت لخطابه الشهير في 16 شتنبر 1959 المنادي ب «حق تقرير المصير للجزائريين»، وأن المستقبل يجب الرهان فيه على الشباب وعلى التعاون الوثيق بين الفرنسيين والجزائريين، تحت يافطة ما كان ينادي به من قبل الشعار السياسي المتشدد للنخبة السياسية الفرنسية «عاشت الجزائر الفرنسية». هو الذي كان قد عاد إلى الحكم في ماي 1958، أصلا لإيجاد حل لما كانت تسميه الأدبيات السياسية الفرنسية ب «المعضلة الجزائرية». والظاهر أنه في ركاب الرئيس الفرنسي الحالي بباريس ماكرون، لا تزال هناك استمرارية، بسياقات متجددة ومختلفة لذات «المعضلة الجزائرية». كان دوغول (الذي من مكر الصدف مرة أخرى أنه سيتعرض لأخطر محاولة اغتيال له ولزوجته بباريس يوم 22 غشت 1962 من قبل التنظيم العسكري السري OAS، بملتقى طرق بوتي كلامار)، قد زار الجزائر مخفورا بما اعتبر تمثيلية شاملة لفرنسا، عسكريا وسياسيا وثقافيا حينها، حيث حرص أن يأتي في ركابه كل من يمثل رمزيات الدولة الفرنسية، الذين كان من ضمنهم ممثلو الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام. ويكاد الرئيس إيمانويل ماكرون في زيارة الصيف هذه للجزائر، 63 سنة بالتمام والكمال بعد زيارة دوغول، أن ينسخ ذات الرمزيات لمعنى زيارة الدولة، حين جاء في ركابه ليس فقط بممثلي الجيش والأمن ورجال المال والأعمال، بل أيضا بممثلي الديانات الثلاث (الذين يثير من ضمنهم الممثل الأعلى للطائفة اليهوية بفرنسا المعروف بولائه الكامل لإسرائيل ومناصرته للصهيونية، الكثير من ردود الفعل داخل الجزائر، كونه يشكل مقدمة لتطبيع قادم بين الدولة الجزائرية وإسرائيل عبر بوابة باريس). إن برنامج زيارة الرئيس ماكرون، الأولى من نوعها إلى منطقة المغرب الكبير، بعد إعادة انتخابه رئيسا للجمهورية منذ أسابيع (كانت العادة أن يقوم أولا بزيارة للرباط حتى ولو كانت زيارة خاصة وليس زيارة دولة، وهو ما لم يقم به هذه المرة)، يقدم خطاطة لترجمة معنى شعار «التوجه نحو المستقبل» الذي يشكل الخيمة العامة لزيارة الدولة هذه. وهي خطاطة تبشر بالتركيز على أربع واجهات كبرى هي: «الشركات الناشئة، الإبتكار، الشباب، القطاعات الإنتاجية الجديدة»، مما يجعها خطاطة تكاد تشكل نسخة كاربونية لما ظل يقول به منذ شهور الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون في كل خرجاته الإعلامية، خاصة حين مناداته ب «الشركات الناشئة» و «الإبتكار» و «الشباب». ما يجعل التأويل يذهب في اتجاه أن مشروع الرئيس تبون ومشروع الرئاسة الفرنسية واحد جزائريا. وأن ما سبق وقاله الرئيس ماكرون منذ 2019، من أن الرئيس تبون «مطوق داخليا» يقدم الدليل على تناغم سياسي كبير بين عهد ماكرون الفرنسي وعهد جماعة الرئيس تبون الجزائري، مغاربيا ومتوسطيا. هل نحن بإزاء محور جديد لباريس / الجزائر، بذات روح مشروع دوغول لسنوات 1958 – 1962، المنتصر ل «التوجه نحو المستقبل»، المقتنع بالمقولة السياسية الشهيرة للنخبة الفرنسية (من اليسار ومن اليمين) أن «الجزائر هي فرنسا»؟، وأنه محور جديد بحسابات القرن 21، لما بعد جائحة كورونا وما بعد إعادة التوازنات العالمية التي تدشنها حاليا الحرب العسكرية والحرب الطاقية والحرب الإقتصادية بين روسيا وأوكرانيا، بأقطابها الكبار المتعددين (واشنطن، لندن، بروكسيل، بكين، موسكو)؟. ألا يشكل التوازي بين قرار انسحاب باريس العسكري من مالي (عملية براخان) وتعديل دستور الجزائر للسماح للجيش الوطني الشعبي الجزائري بالعمل عسكريا خارج الحدود، نوعا من إعادة ترتيب جديدة لذلك المحور في امتداداته الإفريقية جنوب الصحراء وبمنطقة الساحل؟. ألا تعيد باريس بذلك هيكلة مجالها الحيوي جيو سراتيجيا في كامل الشمال الإفريقي وبغرب القارة السمراء؟. أليس «توازن الرعب» اليوم بهذه المنطقة الحيوية بغرب إفريقيا وغرب المتوسط، مختلفا عن حال نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، وأن التواجد الروسي والأمريكي والصيني بها أكثر قوة وفعالية؟. إن زيارة ماكرون للجزائر، لربما، ليست مجرد إعادة ترتيب للعلاقات الفرنسية – الجزائرية ل «التوجه نحو المستقبل» (بذات الخلفية الباريسية الراسخة والقديمة أن «الجزائر هي فرنسا»)، بل هي في مكان ما مقدمة لتدشين توجه باريسي جديد بكامل منطقة غرب المتوسط وغرب إفريقيا.