استدعت الرباط سفيرتها في ألمانيا، في خطوة دبلوماسية غاضبة، وأصدرت في اليوم نفسه بلاغاً (بياناً) شديد اللهجة ضد إسبانيا، يعد خطوة تصعيدية ضد الجار الشمالي، بعد خطوات سابقة كشفت وجود توتر بين البلدين. وفي الخطوتين، أبانت المملكة المغربية عن صراحة وصرامة ديبلوماسيتين، إزاء دولتين أوروبيتين، تشترك معهما مصالح كثيرة: إسبانيا، تقتسم معها جواراً أورو – متوسطياً، وتاريخاً ملتهباً، بوصفها دولة استعمرت شمال المغرب وجنوبه، وذاكرة عميقة، من قصور الحمراء الأندلسية إلى رمال الصحراء. وألمانيا، كان الظاهر من علاقتها مع المغرب، اقتصادياً محضاً وتكنولوجياً وتعاونياً، بلغ أرقاماً محترمة في الآونة الأخيرة… ما الذي جعلهما في فوهة التسديد الديبلوماسي للتعبير عن الغضب المغربي؟ في البلاغ الصادر بخصوص استدعاء السفيرة المغربية في برلين، يستند الموقف المغربي، الذي يعدّ، في قاموس العلاقات الدولية، تعبيراً عن اضطرابٍ في العلاقات بين البلدين، وتعبيراً ديبلوماسياً متعارفاً عليه يعلن عن أزمة، إلى الثلاثية التالية: العداء للقضية الأولى للمغاربة، الصحراء، ثم محاولات عديدة لنسف الدور الإقليمي للمغرب، من خلال محاولة تهميشه في الملف الليبي، ثم تسليم أحد الإرهابيين المحكومين سابقاً، محمد حاجيب، والذي أدين في المغرب بسبع سنواتٍ سجناً، معلوماتٍ تسلمتها الاستخبارات الألمانية من نظيرتها المغربية بشأنه، وفتح الإعلام العمومي في وجهه للهجوم على أجهزة الاستخبارات المغربية! في التقاطع الأول، بين الملفين، نجد العاصمتين الأوروبيتين على طرفي نقيض من مصلحة المغرب في قضية الصحراء، لا سيما معارضتهما الواضحة للاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الأقاليم الصحراوية، فألمانيا التي كانت ترأس مجلس الأمن وقت إصدار الرئيس دونالد ترامب، مرسوم الاعتراف بهذه السيادة، دعت، في خطوة غير متوقعة من الرباط، إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمدارسة "آثار الإعلان الأميركي"، ومناقشة قرار سيادي لدولة عظمى دائمة العضوية في المجلس إياه! وهي تعرف معنى ذلك بالنسبة للمغرب، لا سيما أنّ رئيسها السابق، هورست كوهلر، كان قد تولى مسؤولية مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في ملف الصحراء الوطنية، قبل أن يقدم استقالته ل"أسباب صحية". وقد اصطفّت إسبانيا على الموقف نفسه، بل ذهبت به أبعد إلى حدّ مطالبة واشنطن بالتراجع عن القرار وإلغائه، ودفعت باتجاه تعطيل أيّ تبعاتٍ إقليمية لهذا القرار. إسبانيا التي زكّت، في وقت سابق، تطهير المغرب معبر الكركرات "نقطة الاتصال بين المغرب وأفريقيا عبر ممر برّي في الصحراء، وباركت تحديد المغرب ولايته البحرية عبر ترسيم حدوده البحرية، التي تتماس، متوسطياً وأطلسياً، مع إسبانيا، تغير موقفها رأساً على عقب منذ الاعتراف الأميركي. وقد اتضح تقاربها مع الجزائر، الخصم اللدود للمغرب، في هذا الشأن، مباشرة من بعد، على الرغم من أنّ العلاقات مع المغرب جيدة جداً، فهي الشريك الثاني للمغرب اقتصادياً، وتوجد فيه حوالي ثمانية آلاف مقاولة إسبانية، والمغرب حليفها المفضل في قضايا الأمن والهجرة السرية ومحاربة الإرهاب، والشريك الرئيسي لإسبانيا في شمال أفريقيا. في التقاطع الثاني بين مدريدوبرلين، التعاون الإقليمي وموقفهما من الرباط في هذا المضمار، وهو تموقع يراه المغرب معادياً له، وورد ذلك بوضوح في بلاغ الخارجية المغربية في الحالة الألمانية، إذ فسّر موقفها ب "محاربة مستمرة ولا هوادة فيها للدور الإقليمي الذي يلعبه المغرب" وخص بالذكر "دور المغرب في الملف الليبي، وذلك بمحاولة استبعاد المملكة من دون مبرر من المشاركة في بعض الاجتماعات الإقليمية المخصصة لهذا الملف، كتلك التي عقدت في برلين". ويبدو أنّ لبرلين أفضليات جيو- استراتيجية، تتمركز في أربع دول: الجزائر وليبيا ونيجيرياوجنوب أفريقيا. والواضح أنّ المغرب الذي قد تتصوّره برلين دولة منافسة نجح في: التقدّم في الملف الليبي، على الرغم من الفرملة الألمانية، وتكسير المحور النيجيري- الجزائري – الجنوب أفريقي، بالتعاون مع نيجيريا بشأن أنبوب الغاز، وتوسيع دورة الشراكة جنوب – جنوب، بتأكيد من رئيس نيجيريا، محمد البوهاري شخصياً. بالنسبة لإسبانيا، بدأ تقاربها مع الجزائر من النقطة الأشد إيلاماً للمغرب، استقبال زعيم المليشيات الانفصالية "البوليساريو"، وإيواؤه في مستشفى فوق ترابها باسم مزوّر ووثائق مزوّرة وفي ملف مزور. وزعيم البوليساريو، إبراهيم غالي، هو الرجل الذي يعلن صباح مساء خرقه قرار وقف إطلاق النار الموقع في 1991، ويعلن يومياً عن مهاجمة الجيش المغربي في الصحراء، وبالتالي فإنّ استقباله بمثابة إعلان حرب، أو على الأقل، دعم لنواياه الحربية المعادية. والواقع أنّ للتنسيق بين مدريدوالجزائر في هذا الملف التراجيدو- كوميدي أبعاداً أكبر، تتجاوز، بالنسبة للرباط "الطابع الإنساني للعلاج" كما تقول وزيرة الخارجية الإسبانية. ولهذا وجهت المملكة المغربية إلى إسبانيا سؤالاً واضحاً بهذا الخصوص: لماذا لم يُخبَر المغرب، وتم التنسيق مع خصوم وحدته الترابية في الجزائر؟ وهو سؤالٌ يحمل الجواب عنه مغزى جيوسياسياً، في سياق التوتر الإقليمي. في التقاطع الثالث، مسعى البلدين الأوروبيين في تعطيل القوانين الجارية في بلادهما، عندما يتعلق الأمر بقضايا تمسّ المغرب. قضية الإرهابي المقيم في ألمانيا، وتعطيل أيّ متابعة ضده، رغم أنّ برلمان ألمانيا صادق قبل أقل من شهر على سلطات جديدة للأجهزة الاستخباراتية والأمنية في كلّ ما له علاقة بمحاربة الإرهاب، والدفع بالتعاون الدولي لتركيز التعاون ضد التطرّف، فإنّها في المقابل تتساهل مع موضوع له حساسية قصوى بالنسبة لبلاد المغرب التي تواجه الانفصال والإرهاب والعداء الإقليمي، وتعتمد على قوة أجهزتها الاستخباراتية للتموقع الجيد في قلب هذا المركَّب. أما إسبانيا، في نظر المغاربة، فقد عطلت القضاء وتفعيل العدالة في ما يتعلق بالقضايا المرفوعة ضد زعيم "بوليساريو"، والذي سبق أن أصدر في حقه القاضي في أكبر محكمة إسبانية، أمراً بالاعتقال والمتابعة. ويستدل المغاربة على غرابة الموقف الإسباني بتدخل الحكومة، بوصفها جهازاً تنفيذياً في عمل جهاز قضاء يحرم عليها التدخل فيه، كما يزيد من غرابة الموقف أنّ هذا القضاء سبق له أن تابع الملك السابق خوان كارلوس، وابنته كريستينا، شقيقة الملك الحالي فيليب السادس، لكنّه يقف عاجزاً أمام زعيم مجموعة انفصالية دخل بطريقة غير مشروعة إلى تراب البلد! في التقاطع الرابع، يتساءل المغاربة عن الأدوار غير المعروفة إلى حدّ الساعة، لكلتا الدولتين، داخل الاتحاد الأوروبي، لمنعه من مسايرة الخطوة الأميركية للاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، لا سيما أنّه مرتبط باتفاقيات استراتيجية عديدة معه، تضم خريطةُ سريانِها كلَّ أقاليم التراب المغربي، بما فيها الصحراء. علاوة على ذلك، يضع الاتحاد الأوروبي المغرب في مرتبةٍ تفوق مرتبة شريك مفضل! هذه المعطيات وغيرها تجعل الموقف غير مسبوق، في تاريخ العلاقة بين البلدين الأوروبيين والمغرب. وفي التساؤل الذي قد يتبادر إلى الذهن: هل يمكن للمغرب أن "يتحمّل" توترين في لحظة واحدة مع دولتين مهمتين له في مجاله الحيوي؟ يردّ كثيرون بأنّه سبق للمغرب أن ردّ، بصرامة وقوة، على مواقف دولتين أخريين، لا تقلان ريادة في عالم اليوم، عندما تعلق الأمر بمصالحه الترابية؛ أميركا وفرنسا. كانت للمغرب مواقف مع دول كبرى سابقاً لا تقل حدّة، وربما أكثر حدّة، عندما تعلق الأمر بالمقوّمات الذاتية للسيادة، سواء عند عتبة الوحدة الترابية أو عند غيرها من عناوين السيادة. ويذكر المغاربة "خطاب المسيرة" في سنة2014، والذي تضمن رسائل قوية إلى الولاياتالمتحدة بخصوص موقف إدارتها من قضية الصحراء. وقال عاهل المغرب وقتها: "في الوقت الذي يؤكدون أنّ المغرب نموذج للتطور الديمقراطي، وبلد فاعل في ضمان الأمن والاستقرار بالمنطقة، وشريك في محاربة الإرهاب، فإنّهم في المقابل، يتعاملون بنوع من الغموض، مع قضية وحدته الترابية". وأشار الملك محمد السادس إلى أنّ "اختيار المغرب للتعاون مع جميع الأطراف، بصدق وحسن نية، لا ينبغي فهمه على أنّه ضعف، أو اتخاذه كدافع لطلب المزيد من التنازلات". وفي السنة نفسها، عرف العالم بغضب المغرب من حليفته التاريخية فرنسا، إذ وقع حادثان ساعتها أدّيا إلى رد فعل مغربي رسمي، عندما ألغى المغرب زيارة نيكولا هيلو، مبعوث الرئيس الفرنسي، رداً على شكوى أمام القضاء الفرنسي في حق مدير الاستخبارات المغربية. وكان التفسير الرسمي أنّ الإلغاء "جاء بطلب من الرباط، في انتظار توضيحات بخصوص وضع شكاية من منظمة غير حكومية فرنسية ضد رئيس المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بشأن تورّطه المزعوم في ممارسة التعذيب في المغرب". تحاول مواقف الدولتين الأوروبيتين التخفيف من حدّة رد الفعل المغربي، تارة بالقول إنّها تحاول فهمه، وتارة أخرى إنّها لم تكن تنوي التصعيد… إلخ. وربما قد تأتي الحلول من عتبات التوتر نفسها، وذلك عبر القضاء، بمتابعة إبراهيم غالي في قضايا الاغتصاب والإبادة والقتل والاحتجاز، ومتابعة الإرهابي محمد حاجيب المستقر في ألمانيا، في القضايا ذات الصلة بما اقترفه. نشر في «العربي الجديد»