عندما تقرأ، أو تشاهد وتسمع منْ يناصر الأطروحة الجزائرية – البوليزارية، تستغرب وتستهجن ما يذهب إليه من تجميع غير منطقي، وغير واقعي، لخليط من الحيثيات يظنها تطعن في شرعية الموقف المغربي من استرجاع صحرائه إلى وحدة الوطن، وبالتالي، فهي تفضح المآرب التوسعية والخارقة لاتفاق الهدنة لما قام به الجيش الملكي في العملية العسكرية الدفاعية والسلمية والتطهيرية في محيط الكركرات ولممره العابر إلى موريتانيا. لنبدأ بالأطروحة الأساسية التي قام عليها موقف السلطة الجزائرية منذ بداية انخراطها الكلي في مناهضة مساعي المغرب ونضاله من أجل إنهاء الاحتلال الاستعماري لأرضه الجنوبية، هذه الأطروحة تقوم على أن المغرب يُعدُّ بلدا يحتل أرضا للشعب الصحراوي الذي يناضل من أجل تقرير مصيره ! نحن المغاربة نعرف جيداً هذه الأطروحة والأهداف الخفية الحقيقية التي تضمرها. والمغاربة عموما أشبعوها تحليلا ونقدا وتفنيدا لأسسها الديماغوجية ولخلفياتها الواقعية. غير أن ما عاد بي هنا إلى بعض التلميحات في هذا النقاش الذي استوفى كل أغراضه عندنا، ما لاحظته من بقاياه لدى بعض المثقفين من هنا وهناك، والعرب منهم خصوصاً. وقد يكون لطول الزمن الضائع الذي تجرجر فيه الصراع، بلا حل نهائي، أثره في عقول هؤلاء، وخاصة منهم الشباب، بعد أربعين سنة ونيف من سياسة «إكذب واكذب ثم اكذب» إلى أن يصدقك ضعاف العقول، وإلى أن تختلط الحقيقة بالوهم، ويصير من الصعب الفرز بينهما. وما لاحظته في هذا الشأن، أن هذا البعض يقع فريسة سهلة لخدعة بصرية – جغرافية، تصيبه بالحول الاستراتيجي وتفكك ذاكرته التاريخية، خاصة إن كان من الجيل الذي انتمى لحركات التحرر الوطني لما قبل السبعينيات من القرن الماضي. فكلمة «الشعب الصحراوي» وممثله البوليزلريو لقدم تكرارهما لأربعين سنة تتحول إلى كيانات في مخيال المتلقي على قياس ما هو معروف عن حركات التحرر الوطني، فيتغلب الخيال على النظر إلى واقعيته المادية. ولأني لا أسعى إلى اجترار نقاشات أيديولوجية سابقة، استنفدت أغراضها وولى زمنها، حول تاريخية المسألة الصحراوية وعلاقتها بالكيان المغربي وتقسيماته الاستعمارية، ونضالات الشعب المغربي ومواقف أحزابه ومنظماته من أجل استكمال الوحدة الترابية، ومعاني مبدأ تقرير المصير، ومتى يكون حق الانفصال لزوما وفعلا تقدميا في استراتيجية تحررية وتقدمية. فإني لذلك، سأكتفي بالكشف عن هذه الخدعة البصرية الجغرافية وتفكيكها للذاكرة التاريخية من ضمن المرايا التالية التي أردت منها أن تعكس زوايا نظر لما عليه الصراع اليوم: هل يُمعن هؤلاء، الداعون لحق الشعب الصحراوي في الانفصال، في الخريطة الجغرافية، ليتعرفوا على هذا الشعب، أين يسكن وأين مأواه الترابي، وأين تستقر البوليزاريو والدولة الصحراوية المزعومة، وهل لها، كما هو مفترض في التجارب التاريخية التحررية، ولو قسما من أرض وطنها، كقاعدة ارتكاز، أو حتى نفوذا معنويا وسياسيا قويا داخل الصحراء المغربية (؟) وهكذا إذا ما استثنينا لاجئي المخيمات في تندوف بالجزائر، وهم بضعة آلاف ممنوعون من حرية التنقل، وترفض البوليزاريو الطلب المغربي بإحصاء أعدادهم (؟) فإن الجواب على تلك الأسئلة يحدث تغيرا جذريا على جميع المفاهيم المتداولة حول «الشعب الصحراوي» و»حق تقرير المصير» و»الدولة المزعومة» و»البوليزاريو حركة تحرر وطني». هذا، ودون أن ننسى، أن حق الانفصال هو في المبدأ، حق انفصال قومية لها مصالح وطنية غير الاتحاد مع قومية أخرى. وحالة الجماهير الصحراوية ليست من هذا القياس القومي على الإطلاق، وإن كانت لها بعض الخصوصيات الاجتماعية، وتمايز في اللهجة العربية، كما هي أوضاع كافة المناطق المغربية. أطلب من هؤلاء، مثقفين كانوا أو مواطنين عاديين، خاصة من الجزائر الشقيقة، أن يأتوني بكتاب تاريخ تعلموه في أي مستوى تعليمي ثانوي أو جامعي، يتحدث عن الشعب الصحراوي ككيان مستقل عن الدولة المغربية، قبل الاحتلال الاستعماري لها. وأخاطب أيضا الذاكرة الجماعية من المحيط إلى الخليج، إن كانت تعرف شعباً، في مرحلة النضال ضد الاستعمار، غير الشعب المغربي في «مراكش» كما كان يسمى في الشرق العربي وقائده الملك محمد الخامس الذي كان يعرفه الجميع. والسؤال يهم الشعب الجزائري خصوصا وهو الذي تشارك مع الشعب المغربي في نضال موحد طيلة المرحلة الاستعمارية. و»الذاكرة الجمعية هنا أصدق أنباء من الكتب». والنتيجة المحصلة منها، أن الشعوب لا تُصنع صنعا، فقط، لحسابات جيوبوليتيكية، تريد منه الدولة الظالمة تقزيم دولة جارة، لطموحات هيمنية طائشة، لأنها لا تعرف قدراتها الفعلية، وهي ستواجه دولة عريقة، بل الأعرق والأصلب في المنطقة عامة ! من المقدمات السابقة، يكون القول، بأن السلطة التي تحكمت بالدولة الجزائرية لم تكن لها مصلحة، سوى أنها تقف لجانب «الشعوب في حق تقرير مصيرها» هو محض إفتراء وتزوير للحقائق على الأرض. فهي التي تسلح وتمول وتسير من الخلف «جبهة البوليزاريو» ودولتها المزعومة، وهي التي تتصدر الصراعات الديبلوماسية والإعلامية في العالم. ولهذا الاعتبار بالذات، تتخطى «الجزائر» وقوفها لجانب حق الشعوب في تقرير مصيرها، لتغدو هي الطرف المادي الأصيل في هذه الأزمة المفتعلة من قبلها ضد حق الشعب المغربي في وحدته الترابية. وهذا ما يضع المسألة في جملتها وجوهرها، كصراع جيوبوليتيكي، أرادت منه سلطة القرار في الجزائر، تحجيم الدولة المغربية، وتطويقها بدويلة تابعة لها، وتصلها بالمحيط الأطلسي، وتكون في نفس الوقت حاجزا للمغرب عن عمقه الإفريقي. هذه هي الأهداف الخفية والواقعية لتلاعبات السلطة بشعار «تقرير المصير». وهي أهداف واهمة، تحمل من الغرور وضيق الأفق واللاعقلانية السياسية ما يدل على ما كانت عليه الفئات الحاكمة من انفصام عن الواقع لهشاشة تجذرها التاريخي حتى وهي تمارس أضاليلها الأيديولوجية باسم الاشتراكية والتحررية والتقدمية. ولنترك للمؤرخين كلمة الفصل في هذا الصراع، بين سلوكين، سلوك فئة حاكمة في دولة عريقة يقال عنها «تقليدية»، وسلوك فئة حاكمة في دولة ناشئة يقال عنها «تقدمية» وحتى اشتراكية. وفي محاولة خاسرة لتحيين التلاعب اللاعقلاني بشعار تقرير المصير، وجد المتلاعبون ضالتهم في تشبيك عملية التطهير التي قام بها الجيش المغربي في الكركرات بما يقع في العالم من بقع التوتر، كيفما اختلفت أسبابها العينية، وخاصة ما يجري من تطبيع مجاني بين بعض البلدان العربية وإسرائيل تحت سقف ما يسمى «بصفقة القرن»، وتحديدا في تساوق وتزامن مع ما بقى لقيادة «ترامب» وما لا يستطع المرء التنبؤ بردود أفعاله العُصابية الرافضة لخسارته الانتخابات الرئاسية. ولكي لا أطيل في هذا الجدل الذي ظاهره البحث في العمق الاستراتيجي بينما هو يغرق في السطحية المبتذلة، ولأن خلاصته النهائية، أن الحراك المغربي الأخير مدفوع من قبل الإدارة الأمريكية في مساومة بين الجانبين، تقف فيها أمريكا لجانب المغرب في تأمين الصحراء له مقابل أن يلتحق بطابور التطبيع مع إسرائيل تمريرا لإنجاح صفقة القرن !… أكتفي بالسؤال التالي، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يقْدم المغرب الرسمي على خطوة التطبيع في الزمن الحي الذي كانت فيه إدارة ترامب بأمس الحاجة لتضخيم عدد المطبعين وللرفع من قيمة رصيدها الانتخابي، لا في هذا الشوط القصير والمتبقي لرحيلها. وبعد أن فقدت ذات الإدارة وزن أدوارها الممكنة لسنوات قادمة؟! وفي كل الحالات، لا يزال الموقف الرسمي ثابتا على موقفه المبدئي تجاه الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفق الشرعية الدولية والمبادرة العربية. ومن غير المحتمل أن يتغير هذا الموقف بأي إغراء أمريكي عابر، لأنه يقوم، في تقديري، على دراية أعمق بمحدودية عطاءات استراتيجيات الدولة الكبرى في المنطقة، وهي جميعا تقف على حافة رهافة ضبط توازنات مصالحها بين بلدين كبيرين وحاسمين في المنطقة المغاربية والإفريقية ولهما نفس الوزن المتوسطي. بل وهو أيضا على دراية أعمق بمكانة القضية الفلسطينية في وجدان الشعب المغربي وفي تاريخه النضالي، ناهيك عن المقومات الدينية التي مازال لها قيمتها الكبرى في تشكل الدولة المغربية. ولا ننسى في هذا السياق، أن الملك هو رئيس لجنة القدس. والموقف المغربي في هذا السبيل يتعاطى مع مستلزماتها بقدر ما تستطيعه المجموعة العربية الإسلامية. لهذه المعطيات وغيرها، والتي حكمت الصراع في المنطقة طيلة الأربعين سنة الماضية، لا يمكن للمغرب دولة وشعبا، أن يكون طعما سهلا لأي إغراء عابر ومفترض، حتى لو كان في أعز قضية لديه. والغد لناظره قريب! يحار المرء في فهم الأسباب العميقة التي تضافرت في الصيرورة المجتمعية لظهور هذا النزوع الهيمني لدى القسم الذي تحكم في السلطة الجزائرية، والذي مارس نفوذه القوي، ولو بتفاوت المراحل التي مر منها النظام السياسي الجزائري، وعلى الضد من كل العوامل التاريخية العميقة التي تجمع بين الشعبين الجزائري والمغربي ونضالهما التحرري المشترك في مواجهة الاستعمار في البلدين. ولاشك أنها التواءات اجتماعية دقيقة في تعييناتها وتصنيفاتها، وتحتاج لدراسة مجتمعية متأنية وشاملة، لكنها في المحصلة الظاهرة والملموسة، هي نزعة سياسية غير عقلانية ومنافية للضرورات التاريخية الوحدوية. وها هي تجد نفسها في ورطة انسداد الأفق أمامها، ومظاهر ذلك تتجلى أيضا في المرايا التالية: أولا: إذا كان البلدان (المغرب والجزائر) يمران من أزمة اقتصادية بجميع أبعادها المجتمعية، كما هو حال بقية العالم مع جائحة كرونا، فالجزائر في وضع أسوأ إذا ما أخدنا في الحسابات الإمكانيات المالية التي توفرت لها في الماضي كدولة بترولية – غازية. وبوجه عام، ومنذ عقود خلت، فقد النظام الاقتصادي لنمط رأسمالية الدولة البيروقراطي، والذي بنته البومدينية أقصى ما كان لديه من تقدم. وكما هو معهود في هذا النمط، أنه يتقهقر ما لم يرتق عند مفصل معين إلى مستوى التدبير الديمقراطي التشاركي لمؤسسات الدولة ولاختياراتها. ودائما يؤدي هذا التقهقر إلى تفسخ في البنية الاجتماعية لصالح طغمة بورجوازية طفيلية أشد تعفنا تنهب المال العام وتحدث خللا كبيرا في التوازنات الاجتماعية التي تم بناؤها في السابق. أليس مدهشا أن تظل الجزائر، بعد طموح صناعي عابر، تدور في نفس الحلقة المفرغة لاقتصاد الريع قوامه الرئيسي تصدير البترول، وما حققه من فوائض مالية كبيرة في السابق. قبل سنوات قليلة من شلل الرئيس بوتفليقة وتنحيته، كان الوعد بخمسين مليار دولار من تلك الفوائض ستخصص للبنية التحتية ولأزمة السكن، فإذا بالوعد يتبخر، وتظل الجزائر ببنيتها التحتية (عدا قطاعات أخرى، ومنها القطاع البنكي) أقل تقدما من المغرب المتواضع الإمكانيات المالية، كما يقول الجزائريون أنفسهم! ثانيا: تحولت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية إلى أزمة سياسية مديدة، مرت بمراحل، منها العشر سنوات السوداء، وآخرها الحراك الشعبي الضخم الذي دام أشهرا عديدة، وتراجع من حيث الحشد الشعبي بسبب الجائحة، لكنه لم يتراجع من حيث المضمون السياسي لعمق الأزمة، وكما يُظهر ذلك التصويت المتدني النسبة على التعديلات الدستورية الجديدة. ولهذا لا يمكن لأي مراقب أو محلل أن يستبق الأحداث إلا بخلاصة وحيدة، أن الجزائر لم تخرج بعد من عنق الزجاجة، وأن النظام السياسي مقبل حتما على مخاض عسير لكي يجد استقراره على توازنات سياسية اجتماعية جديدة، ولا مفر لها من أن تكون أفضل ديمقراطيا من الماضي. ثالثا: في هذا الوضع الجزائري المتأزم، أضحت البوليزاريو والمسألة برمتها عبئاً ثقيلا على كاهل الدولة الجزائرية. وكلما خرج الشعب الجزائري من حالة الصمت المطبق، والتعمية الديماغوجية الرسمية، المفروضين عليه، كلما انفضحت طفيلية «القضية» التي لا صلة لها بوجدانه العميق. والتجربة في عهد الرئيس الشادلي مثلا تبين تلازم الانفتاح الديمقراطي اضطرادا مع الانفتاح على الخيار الوحدوي. ولهذا،أراد مَنْ هم وراء البوليزاريو، من إشهار الحرب وضجيج قرقعة الأسلحة، وفي هذا التوقيت الجزائري الانتقالي، والمشوب بالغموض، تصدير الأزمة إلى الخارج، كما هو معتاد في السياسة التقليدية المحافظة، عندما يكون حاملوها في وضعية الخطر. ويتطلب ذلك أيضا تسعير الشوفينية الوطنية ضد المغرب لتحريف أنظار الرأي العام عن قضاياه الجوهرية. والبوليزاريو في هذه الأجواء تسدي خدمة لقوى السلطة المحافظة في تكبيل بوادر التحول الشعبي النامية ضدها، وتسعى لتستعيد في هذا التسخين الشوفيني بعض بريقها لدى الرأي العام، وفي نفس الآن تستنفر اهتمامات المجتمع الدولي بأجواء التوتر التي تصطنعها، توسلا منها لعلاجات تخفف من ورطتها. لكن هذه الأهداف المشتركة بين البوليزاريو ومَنْ خلفها مِنْ قوى محافظة في السلطة الجزائرية تصطدم بالوقائع التالية: «تصدير الأزمة» لم يكن يوما حلا ناجعا لدوافعها العميقة. قد تُبطئ قليلا من تسارع تفاعلاتها، لكنها لن تستأصل دوافعها بعد أن وصلت إلى منعطفها الحاسم. «وضجيج قرقعة الأسلحة» لن يجدي نفعا في ميزان القوى العسكري والسياسي والديبلوماسي القائم اليوم. وغير ما كان عليه في بداية السبعينيات. وتوريط الدولة الجزائرية في حرب شاملة، ما كان ممكنا في الماضي، فبالأحرى في وضعية دولية غير مناسبة لها، ووضعية وطنية انتقالية – وانقسامية كما هي عليه في الحاضر. «وتحريك المجتمع الدولي» يبقى محدودا في جوانب عديدة. أولها، أن الديبلوماسية في نهاية المطاف، لا تحل مشكلة دولية من النوع الذي نحن فيه، وما أكثر الأمثلة، إلا إذا توصل الطرفان المتصارعان إلى حل بالتراضي أو بالقوة. وثانيها، أن موقف مجلس الأمن في قراراته الأخيرة، قد تجاوز موقف الاستفتاء على تقرير المصير، لاستحالة التوافق على معاييره، وصار أقرب إلى الموقف المغربي الداعي إلى التفاوض على «حكم ذاتي» في إطار السيادة الوطنية والجهوية المتقدمة التي يقر بها دستورهُ. والموقف الدولي من هذه الزاوية قد تجاوز الهدف الاستراتيجي لاصطناع الأزمة من الأصل، وألغى معه مبرر وجود البوليزاريو كوكيل لسياسة الهيمنة من الأساس. وثالثها التراجع الكبير في الزخم الذي استقبل به ما سمي بدولة الجمهورية الصحراوية المزعومة، في غفلة توازنات السبعينيات وخاصة في إفريقيا والقليل من دول أمريكا اللاتينية. إن اتجاه التطور الديبلوماسي على المستوى الدولي يمضي صعوداً في غير صالح الأطروحة الجزائرية وأداتها البوليزاريو، وبما يوطد الأطروحة المغربية في السيادة الوطنية على الصحراء المغربية (خمسون دولة سحبت اعترافها بالدولة الصحراوية المزعومة). وفوق هذا وذاك، تبقى المشكلة الأكبر والخلاصة تحديدا بجبهة البوليزاريو. إنها مشكلة اللاجئين في مخيمات تندوف. فإلى متى ستستمر مأساة هؤلاء المواطنين المغاربة عالقة وفي أسوأ الشروط الإنسانية، وقد مضت عليهم أربعة عقود متتالية، تربى في أحضانها أجيال جديدة لم تعرف من الحياة سوى البؤس والقهر وظلامية المستقبل. إنها القنبلة المتفجرة التي تحملها البوليزاريو في بطنها، كما يحمل حيوان «الكنغر» وليده في بطنه، مع الفرق بين من يحمل «الموت» ومن يحمل «الحياة! رابعا: ولا حل لهذه الورطة التاريخية في كليتها، إلا بالعودة إلى إحياء الاتحاد المغاربي، وعلى قاعدة ميثاقه التأسيسي الوارد فيه بالنص: «تتعهد الدول الأعضاء بعدم السماح بأي نشاط أو تنظيم فوق ترابها يمس أمن أو حرمة تراب أي منها أو نظامها السياسي» لقد هدرت السياسة اللاعقلانية للقوى التي تحكمت في قرار الدولة الجزائرية عقودا من التنمية المغاربية الممكنة والواجبة في عالم تتسابق دوله نحو الانخراط في الكيانات الكبرى، بينما بقيت البلدان المغاربية، وهي التي تملك أفضل المؤهلات التاريخية، جامدة في أسفل سلم هذا التطور العالمي. إن هزالة نسبة التبادل التجاري بين البلدان المغاربية مقارنة بأرقام مثيلاتها في كافة المجموعات الاقتصادية في عالم اليوم، لدليل قاطع على خطيئة السياسة اللاعقلانية، بل وعلى جريمتها القاتلة لحقوق الشعوب المغاربية. أليس مؤلما ودافعا للاشمئزاز والتمرد، أنه في هذا الوقت الذي تتحرك فيه البوليزاريو ومنْ خلفها لإثارة الفتنة بين الجزائر والمغرب، تعلن الصين ودول أسيوية وغيرها عن أكبر اتفاقية في التاريخ لأوسع سوق عالمية !! إنه مثال وحسب يبين تزامنه فداحة الإهدار والتأخر الذي تأخذنا إليه تلك السياسة التي ما وجدنا لها من توصيف غير اللاعقلانية الجامحة التهور. وجدير بالملاحظة، أن أرقام تدني التبادل التجاري (ما بين 3 إلى 5 في المائة) أو ما تهدره بلدان المغرب العربي من نسبة نمو ناتجها الوطني (حوالي 2%) في كل سنة، ويمكننا أن نقدر بعدها الخسارات الضخمة لهذا الرقم في الناتج الوطني طيلة الأربعين سنة الفائتة، لا يبين في الحقيقة سوى الجانب المادي في هذا التأخر المهول، ولا يشمل بالأحرى تبديد الثروة غير المادية التي تكتنزها شعوب المنطقة، بما لها من مؤهلات تاريخية وحدوية يمكنها من أن تبني لثورة مجتمعية حداثية عميقة. العودة إلى إحياء الاتحاد المغاربي تقتضي في هذه المرة، التنفيذ العملي لقاعدة ميثاقه التأسيسي المشار إليها في السابق، وتبدأ بفتح الحدود المغلقة، وتنظيم عودة اللاجئين الصحراويين إلى وطنهم، وتحويل البوليزاريو إلى فصيل مدني سياسي، أو بعبارة أخرى، الإقلاع عن جعل الأرض الجزائرية قاعدة انطلاق الاعتداءات المسلحة. إن تلك الخطوات الأولية في إحياء الاتحاد المغاربي هي الأساس في مصداقية الإرادة الوحدوية المشتركة التي من شأنها أن تصون استمراريته وتنمي فعاليته وجدواه. ولعله الدرس الذي ينبغي استخلاصهُ من التجرية المعاقة في الماضي، أنه لا يمكن العمل بازدواجية المعايير كما كان في السابق. أما الكيفية المرنة لإنجاز ذلك، وباقي الخطوات الأخرى، ومن بينها تحيين ميثاق الاتحاد ومؤسساته، فهذا موضوع آخر، يستحق لوحده وقفة خاصة به. ويبقى رهاننا الدائم، أولا وأخيرا، على وعي الشعب الجزائري وعلى وجدانه الوحدوي الذي لم ولن يغدر أبدا بأهدافنا التحررية المشتركة.