«الليبيون قادرون على إيجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم ولا يحتاجون إلى وصاية ولا تأثير»، هذه هي المقاربة التي نهجها المغرب في معالجة الأزمة السياسية بليبيا منذ انهيار نظام العقيد القذافي. هذا الموقف يدرك مغزاه الحقيقي سكان هذا البلد لوحدهم، ولا يمكن لطرف آخر أن يدرك عمقه، أي أن حل الأزمة الليبية يكون بين الليبيين أنفسهم ودون تدخل أطراف خارجية، هذه الأخيرة التي تناحرت وتتناحر فوق رؤوس الليبيين إلى اليوم، وتحرمهم من الأمن والسلم ومن خيرات بلدهم، وذلك منذ إسقاط نظام معمر القذافي في سنة 2011 إثر انتفاضة دعمها عسكريا حلف شمال الأطلسي، والتي أدخلت ليبيا في دوامة من العنف واللاستقرار ساهمت فيها أطراف خارجية قريبة وبعيدة ومن كل التوجهات والتحالفات طمعا في خيرات وثروات هذا البلد الغني. لهذا فإن العديد من المبادرات الديبلوماسية، سواء التي تمت في العديد من العواصم العالمية أهمها برلين، باريس، جنيف، القاهرة والتي حضرتها أطراف دولية مورطة في هذا الصراع، لم تعط أية نتيجة حتى الآن، في حين أن محادثات السلام بالصخيرات سنة 2015، والتي تمت برعاية الأممالمتحدة، تمخضت عنها حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا قبل أن يتم إسقاط هذا الاتفاق من خلال تحريض الليبيين على بعضهم البعض، وهو المسلسل الطويل من الحروب الذي نعرف نتائجه، بعد إفشال اتفاق الصخيرات من طرف القوى الخارجية . الأمل يتبلور اليوم، من جديد، من لقاءات بوزنيقة، بين الليبيين دون تدخل خارجي، وهذه المبادرة التي تدفع الليبيين إلى حل مشاكلهم بأنفسهم دون تدخلات خارجية هي التي كانت دائما فعالة وأدت نتائج إيجابية لصالح الشعب الليبي. المبادرة المغربية سواء مبادرة الصخيرات أو مبادرة بوزنيقة أشادت بها الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، وبهذا الدور الحاسم والفعال للمغرب كفاعل إقليمي سعى ويسعى إلى جمع الليبيين، وكل أطراف النزاع، سواء المجلس الأعلى للدولة أو برلمان طبرق، من أجل التوصل إلى توافق سياسي يجمع كافة الأطراف الليبية المتنازعة. أهمية مبادرة المغرب لحل النزاع بليبيا وجدت ترحيبا من الليبيين أنفسهم، الذين لهم ثقة كبيرة في المغرب وفي قيادته، كما أنها تنال ثقة الأطراف الخارجية المورطة في هذا الصراع، أو على الأقل أنها ترحب بها علنيا. هذا بالاضافة إلى دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، كما أن مبادرة بوزنيقة لم تعترض عليها روسيا أو الصين أو أي عضو آخر في مجلس الأمن. وجاءت هذه المحادثات إثر إعلان الطرفين بشكل مفاجئ في غشت الماضي وقفا لإطلاق النار، وذلك بعد تفاقم الأزمة العام الماضي بعدما شن المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا والداعم لبرلمان طبرق، هجوما للسيطرة على طرابلس، مقر حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها من طرف الأممالمتحدة والمنبثقة عن اتفاق الصخيرات… ويحظى حفتر بدعم مصر والإمارات وروسيا، في حين تحظى حكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج باعتراف الأممالمتحدة وبدعم تركيا. قوات حكومة الوفاق مدعومة من تركيا تمكنت من السيطرة على كل الغرب الليبي إثر معارك استمرت أكثر من عام وانتهت مطلع يونيو بانسحاب قوات حفتر من محيط طرابلس وسائر المناطق التي كان يسيطر عليها في غرب وشمال غرب البلاد، وتوقفت المعارك في محيط مدينة سرت الاستراتيجية التي تعد بوابة حقول النفط وموانئ التصدير في الشرق الليبي. لهذا فإن محادثات بوزنيقة جاءت في الوقت السياسي المناسب، بعد اقتناع أطراف النزاع بأن الحل لأزمتهم سياسي وليس عسكريا، فقد جرب حفتر القوة العسكرية والدعم الخارجي دون أن ينجح في مسعاه، وجربت حكومة الوفاق الوطني استعمال القوة لاسترجاع المناطق التابعة لها بدعم تركي، وتوقفت في محيط مدينة سرت الاستراتيجية. لهذا فإن لقاءات بوزنيقة جاءت بعد اقتناع أطراف الصراع بضرورة الحل السياسي. ويقول البيان المشترك في اختتام الاجتماعات أن «النقاشات تمخضت عن تفاهمات مهمة تتضمن وضع معايير واضحة تهدف للقضاء على الفساد وإهدار المال العام وإنهاء حالة الانقسام المؤسساتي الذي تعرفه ليبيا». وجاء في البيان الذي تلاه ممثل المجلس الأعلى للدولة الليبي محمد خليفة نجم أن «الحوار السياسي الليبي يسير بشكل «إيجابي وبناء» وقد حقق «تفاهمات مهمة»»، وتابع البيان أن «الجميع يأمل في تحقيق نتائج طيبة وملموسة من شأنها أن تمهد الطريق لإتمام عملية التسوية السياسية الشاملة في كامل ربوع الوطن». وجمع «الحوار الليبي» وفدين يضم كل منهما خمسة نواب من المجلس الأعلى للدولة في ليبيا وبرلمان طبرق المؤيد لرجل شرق ليبيا المشير خليفة حفتر، بحضور وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة… وقال متحدث باسم أمين عام الأممالمتحدة أنطونيو غوتيريش بهذه المناسبة «نحن على ثقة بأن مبادرة المغرب الأخيرة سيكون لها وقع إيجابي على تسهيل الأممالمتحدة للحوار السياسي الليبي». نجاح هذه المبادرة المغربية لجمع أطراف النزاع الليبي والحوار بينها بعيدا عن التدخلات الأجنبية، أشاد بها المجتمع الدولي، وبهذا الدور «البناء» و»الفاعل» للمغرب، الذي ساهم، منذ بداية الأزمة الليبية، في الجهود الرامية إلى التوصل إلى حل سلمي للنزاع في ليبيا وتعزيز السلم والاستقرار في المنطقة. وفي هذا السياق قال وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، ببوزنيقة، إن التوافقات التي تمخضت عنها لقاءات وفدي المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب الليبي، أكدت قناعات المملكة بأن الليبيين قادرون على إيجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم ولا يحتاجون إلى وصاية ولا تأثير، وهم الأقدر على معرفة مصلحة ليبيا وتحديد السبيل نحو خدمة هذه المصلحة. وشدد على أن التوافقات الهامة التي توصل إليها الوفدان، والتي تهم التعيين في المناصب السيادية، ليست مجرد إعلان نوايا أو توصيات، بل هي تفاهمات وقرارات ملموسة تهم مؤسسات وقضايا لها تأثير مباشر على الحياة اليومية للشعب الليبي. كما اتفق الطرفان أيضا على استرسال هذا الحوار واستئناف هذه اللقاءات في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري من أجل استكمال الإجراءات اللازمة التي تضمن تنفيذ وتفعيل هذا الاتفاق. هذا النجاح للديبلوماسية المغربية، وعودتها بقوة إلى الملف الليبي، هو عمل نوهت به العديد من الدول، بما فيها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا ومصر والأردن وتركيا، وبجهود وانخراط الدبلوماسية المغربية في ملف الأزمة الليبية، هذا التنويه الدولي غابت عنه الجارة الجزائر، وهو الغياب الذي لم يكن مفاجئا، لأن النظام بقصر المرادية يزعجه أي نجاح للديبلوماسية المغربية، وهو أمر أصبح من ثوابت ديبلوماسيته. التسريبات الأخيرة والقادمة من العاصمة باريس، تتحدث عن لقاء جديد بين أطراف النزاع الليبي، ولقاء باريس يصبو إلى الاشتغال على النتائج الإيجابية الأخيرة للقاء بوزنيقة وترغب باريس في حضور، بالإضافة إلى أطراف النزاع الليبي، برلين وروما، من أجل لعب الورقة والثقل الأوروبيين، لكن هل يمكن لهذه المبادرة أن تنجح في ظل تفاقم الصراع بين باريس وأنقرة التي أصبحت طرفا أساسيا في الأزمة الليبية؟