ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
يولد الإنسان جاهلا لذاته وما يجري حوله من أحداث، ومع مرور الوقت ينمو ويعي ويكتشف جسده النابض بالحياة، ومع اكتشافاته المتتالية يجد نفسه أمام جسد لم يكن له الخيار في اختياره ولا في تكوينه المختلف عن كائن آخر يماثله، فيزداد دهشة أمام إبداع خالقه، رغبة منه في معرفة تفاصيل جسده، الأمر الذي يوّلد علاقة جدلية بين الإنسان وذاته، تمتد بين مد وجزر، وجهل ومعرفة بتضاريس الجسد. اكتشافاتنا المدهشة هذه، قد تخلق لدينا علاقة حب وود مع الجسد ذاته أو علاقة تنافر وتباعد بيننا وبينه من خلال اكتشافنا لخريطة جسد تنمو مساحتها بشكل متواتر، أمام اختلاف تكويناتها المدهشة في محيطنا الصغير لتتوسع وتشمل مساحة محيط اكبر مع الأيام. -في خضم حديثنا عن الجسد وعلاقتي به، أخالها علاقة ود وحب وتصالح مع الذات الأمر الذي منحني أن أحبه أكثر وأقبله وأتقبّله بحب قد يصل أحيانا إلى مرتبة السمو، كلما اكتشفته أكثر أتعامل معه بصفته هبة ربانية، مما يدفعني للمحافظة على نقاء وسمو هذه الهبة. الحب بيني وبين جسدي يمنحني الرضا والتصالح مع الذات، إذ تعلو تمثلاته بمخيلتي وتنعكس ظلالها على كتاباتي الأدبية كلما تناولت تيمته باعتباره تيمة مثل باقي التيمات، أجدني أكتب عنه بحرية ودون رقابة ذاتية كانت أو غيرية، لأن الرقابة تغتال الإبداع وتقيد مفرداته وتحصره في زاوية معتمة، والإبداع لا يمكنه أن ينمو إلا في فضاء حر مشع بالنور، بعيدا عن العتمة وأسوار الرقابة وعن قاموس الممنوعات الذي يخنق العمل الإبداعي ويغتاله في المهد. الكتابة عن تيمة الجسد والحديث عنه لا يشكل لي أي عائق، فالجسد بذاكرتي يرتبط بفنية عالية وقيمة جمالية لما يمثله من قدسية وعلو. هذا لا يعني بتاتا أنني أخشى التطرق إلى موضوع (الجسد) في الكتابات بل أتناوله حين يدعو الأمر إلى ذلك دون إقحامه عنوة بحثا عن الاختلاف أو ما شابه ذلك… لكن الأمر الذي لا أحبذه في الكتابة، هو إقحام الجسد في النص بأسلوب فج يُعري الجسد بشكل يخدش سموه ويُفرغ النص الأدبي من معناه ومن جماليته وقيمته الفنية، لذا أتناوله في كتاباتي إن كان الموضوع يتطلب ذلك، فهو يفرض نفسه بنفسه علي أثناء الكتابة دون تخطيط مسبق له. مع إيماني بعدم السعي إلى الكتابة عنه لأثبت أنني اكتب عن المسكوت عنه، كون الجسد بكل ما يحمل من تمثلات لا يشكل ما يوصف «بالمسكوت عنه» في ذاكرتي، فالكتابة عن الجسد ليست بالهاجس المقلق بالنسبة لي، مرد ذلك -على ما أظن- يعود إلى نشأتي الجنوبية و خصوصية ما تمثله المرأة في وسطنا الصحراوي من تقديس لمكانتها والاعتزاز بدورها فاعلة في مجتمعها وما تحظى به من تقدير، مما دفعني أن افخر بكوني امرأة لا تخجل من جسدها ولا من الحديث عنه أو الكتابة بسمو وعلو عن تفاصيله، بصفته تيمة مثل باقي التيمات التي أتناولها في نصوصي بشكل يسمو ويعلو بالجسد، هذا السمو النابع من تصالحي مع جسدي خاصة بصفته هبة ربانية مرتبطة بنقاء روحي لا انفصام بينهما. هبة تستحق منا أن نتعامل معه بفنية عالية في الكتابة دون خدش أو تشريح. أخشى ما أخشى على الجسد من كتابات أدبية تُعريه وتتركه يرتعش خوفا من صقيع مفردات تدنس طهارته وتُجرده من قيمته الفنية والجمالية. -أثناء الكتابة أجدني بوعي أو دون وعي أدثر جسد شخوص النص الأدبي بدفء الكلمات واحميه من صقيع مفردات تحاول أن تُعريه أو تنزع قدسيته التي أتمثلها أثناء الكتابة وأسمو بها… -بإمكان أي كاتب منا أن يكتب عن الجسد بشكل جمالي وفني غير مبتذل، دون أن نُفرغ النص من معناه المراد له أن يصل إلى المتلقي بشكل أبلغ عبر صور إيحائية ذات قيمة فنية إبداعية دون الاتكاء على قاموس مفردات فضائحية تُفقد النص بُعده الجمالي والإبداعي والفني والقيمي. * كاتبة. المغرب