هذه اللوحة تعود للفنان التشكيلي المغربي عبد الحفيظ مديوني،ابن مدينة أبركان المتواجدة بالمنطقة الشمالية الشرقية. تجربة هذا المبدع تمتد إلى أكثر من أربعين سنة، وقد انتبه إليها العديد من النقاد المغاربة والأجانب منذ أول معرض شخصي له عام 1980، لما كانت بداياته آنذاك سريالية محضة، حيث كان يقتفي خلالها آثار الرسام الإسباني العالمي بابلو بيكاسو،ولكن سرعان ما وجد لنفسه أسلوبا خاصا، يعتمد على الاقتصاد في اللون، والاستغلال الجيد للمساحات الفارغة، وإخراج الظلال من صورتها النمطية وتحويلها إلى عناصر أساسية وفاعلة تشكل الكتلة المحورية. يلاحظ ذلك في هذه اللوحة بالذات التي عرفت شهرة واسعة،إذ تقاسمها عدد كبير من رواد الفيسبوك. قيمتها لا تكمن في بعدها الجمالي فحسب، بل في بعدها الميتافيزيقي أيضا، سيما وأن الفنان حرص على مزج ما هو واقعي وخيالي في إطار فني لا يغفل الجزئيات وينتبه إلى أدق التفاصيل، خاصة تلك المتعلقة بشخوص تتقمص صورا ظلية، لا تأخذ نفس الحجم للإحالة إلى التفاوت في الأعمار والاختلاف في الجنس، ينظر إليها وكأنها تماثيل أو مجسمات بفعل حمولتها الطبيعية التي تأخذ لونها من الوحل، فتعطي الانطباع بأن هذا المبدع يزاوج بين النحت والرسم، تتخذ أمامنا أشكالا مستقيمة تجعلها منتصبة، تم قذفها بطريقة عمودية في فضاء مقفر على امتداد اللوحة لتخدع العين وتوهم بأنها ترتفع إلى السماء، فهي تعطينا بظهورها ولا تنظر إلينا،غير آبهة بما يدور خلفها، تبدو وكأنها تائهة وفي ترحال مستمر، تتقدم افتراضيا ببطء، متجهة نحو أفق يمثل عالما مجهولا مشارا إليه بلون أمغر يميل إلى البني، يشكل ستارا غير مرئي، يحجب الضوء مما يخلق تضادا يجسد ذلك الصراع الأبدي بين الحياة والموت، يفعل فعلته في الكتلة ويفقدها قوتها، فتتلاشى تدريجيا قبل أن يصلها ضوء منبثق من قمر بزغ قبل الأوان، يذكرنا بأن الفضاء الذي يحتضنها ينتمي إلى عالمنا، يجمع بين الأرض والسماء، ولذلك تختفي الخلفية بفعل الحضور الفعلي والقوي للون غامق،تم تحويله من أصفر شاحب، يخيم على الأجواء ويطبعها بصبغة تستمد لونها من الغسق وتترك أثرا في نفسية المتلقي ، وتطبعها بالقتامة لما تسدله من غموض وسكون تحيل إلى زوال النهار ولكن بطريقة رمزية للإشارة إلى النهاية والأفول الحتمي. تتوالى العناصر المرئية، على قلتها، واحدة تلو الأخرى داخل إطار محوري لتجسيد التراجيديا الملازمة للوجود الإنساني على الأرض، تلك التراجيديا الأبدية التي كانت بدايتها مع أول إنسان فوق البسيطة. اللوحة مشبعة بالقراءات ولذلك لم يمنحها الفنان اسما معينا.»أنا لا أعطي عناوين لأعمالي لكي لا أقتلها» تصريح شخصي للفنان. هل هي عبارة عن نظرة فلسفية للوجود؟ أم هي استحضار للحظة الفناء والاختفاء من هذا العالم ؟ أم هي تعبير عن حالة ذهنية فقط؟ إن هذه اللوحة لا تخضع لأي معيار نمطي، وفي نفس الوقت تحترم جميع المعايير. إنه تعبير بعيد عن الفوضى العارمة التي قد تخلقها كثافة الألوان وتقتل تلك السردية الأبدية ، سردية التراجيديا المقترنة بفرضية الزوال والخلود المطلقة لكونها لا تنحصر في زمان ولا مكان. يلاحظ كذلك أن اللوحة لا تخلو من التجريد،ولكنها تبقى مرتبطة بالطبيعة التي تصنع اللون، وبالإنسان الذي يختفي منصهرا في هيأته الخيالية المفعمة بإشارات لا نهاية لها، مصاغة في إطار فني دقيق ضمن لعبة الضوء والظل، ولغة لون تجعل اللوحة ناطقة، غير خرساء، تروي قصة البشر في الكون من خلال ظلال تتشكل في داخلها كائنات آدمية توكل أمر رسمها إلى المخيلة، فتتحول من مجرد رسومات ثابتة وقابعة في مكانها إلى أخرى متحركة توحي بالسفر والرحيل من هذا المكان المشار إليه بلون يحيل على تراب الأرض وخاصيتها والانتقال إلى عالم آخر،لا يمكن تصوره، ولذلك يحضر هذا الشفق الذي يأخذ العين إلى أبعد حد. اللوحة لا تقدم لنا شخوصا كما تراها العين من خلال صورة أو رسم واقعي، ولا تعرض أمامنا أشباحا، فالأشباح تبقى محصورة في الذاكرة بدون أجساد، تفتقد إلى أفئدة تنبض بالحياة. إنها إحالة على ظلال ستندثر حتما حين يحل الظلام،إنها عبارة عن حشود ستغادر هذا المكان لا محالة إلى غير رجعة.