فرضت جائحة «كورونا»، ومن دون إشعار مسبق، قرار حظر التجول على الإنسان،فأصبح لا يبرح منزله إلا بشروط وإجراءات غير معهودة. وقد اختلف الفنانون التشكيليون في أمر هاته العزلة الإنسانية المضروبة عليهم، فهل يمكن اعتبارها فترة انكفاء على الذات في البعد الديني والبعد الروحي، أم شد خناق على حرية البدن والنفس، أم فرصة لإطلاق العنان للفكر والخيال والإبداع. نحاور اليوم الفنان التشكيلي والناقد الجمالي الزكاري، من مواليد سنة 1960، يعيش بمدينة المحمدية ويعمل بالدار البيضاء، التحق سنة 1980 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – عين الشق بالدار البيضاء، وبعدها التحق سنة 1982 إلى غاية 1986 بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بديجون – فرنسا، وفي سنة 2010 تابع دراسته بالمدرسة العليا للفنون الكرافيكية بفالينسيا- إسبانيا حيث كان يعمل ويقيم. مؤسس للصالون الكرافيكي لفن الطباعة السنوي بالمغرب، عضو ومؤسس لملتقى الفنانين الكرافيكيين بالمغرب، عضو مؤسس للجمعية المغربية للنقد الفني بالمغرب، مشرف على بحث الماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس لمدة سنتين 2017/2018، عضو اتحاد كتاب المغرب، مساهم في عدة محاضرات ولقاءات عن الفن بالمغرب، له معارض متعددة منذ سنة 1980 إلى حدود الآن بالمغرب وخارجه. صدر له سنة 2005 مؤلف تحت عنوان : «قراءة في التشكيل المغربي الحديث»، عن دار النشر (ميديا غرب)، و»التشكيل المغربي بين الهوية والحداثة» سنة 2013 عن وزارة الثقافة بالمغرب، و»الاقتناء الفني العربي، المغرب نموذجا» الفائز بإشادة لجنة التحكيم في جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في دورتها الخامسة سنة 2013.
– كيف يمر عليكم الوقت في ظل الحجر الصحي؟ هل تعتبرون هذا الواقع المستجد، بمثابة فترة استراحة محارب، أم حجرا على الحرية؟ أم مناسبة للتأمل ومزيد من الخيال والإبداع؟ هو بالنسبة لي في الحقيقة، كان هذا الحجر عاديا وإيجابيا، لأنني كنت أعيشه يوميا قبل اكتساح جائحة كورونا، بمعنى آخر، رغم وجودي في فضاءات عامة ومع الأصدقاء كنت أعيشه داخليا في بعض الأحيان في صمت دون أن أعلن عنه، من خلال شرود الذهن رغم الجلبة، حيث أتيه في التفكير في مواضيع بعيدة عن ما يروج في الجلسات الجماعية، لذلك، كانت مسألة الحرية ليست مرتبطة بالنسبة لي بالجسد أو الحضور الفعلي، بل بمدى إمكانية السفر الذهني والتنقل بين الأمكنة والأزمنة الافتراضية، متحررا من قيود سلطة البدن، أي أنني كنت مرتبطا بالحلم والتفكير في قضايا إما أن تكون مهنية ومتعلقة بما قد يصبح كمشروع لملف أو ملحق ثقافي بيومية المساء، أو تكون إبداعية مرتبطة بموضوع أشتغل عليه كتشكيلي وناقد جمالي، إلى أن أستفيق من حلمي لأستمر في حضوري الجسدي، بعدما أن سجلت أفقا لموضوع الاشتغال المستقبلي، طبعا كانت هذه هي الوسيلة الناجعة للهروب من رتابة الوقت والتكرار واجترار أحداث الوقائع اليومية. وعند حصول هذا الحجر المفاجئ، لم أجد بدا من إعادة صياغة تلك الأسئلة المعلقة، بشكل عملي وجدي لتحقيقها على أرض الواقع، فرتبت مكتبتي من جديد، ثم انخرطت في الكتابة والتأليف وإكمال ما قد بدأته في مجال التشكيل، لأنني كنت ولازلت دائما مرتبطا بقضايا موضوعاتية وتيماتية تمتح وتغرف من الثقافة التي أنتمي إليها، مع مراعاة شرط المرجعية الخيالية كما هو الحال معي في «حكايات كليلة ودمنة» من منظور ميتافيزيقي مرتبط بالواقعي على لسان الحيوانات كما كان يحكيها (ابن المقفع) لكن ليس بطريقة تقريرية، بل بمنهج يجمع بين الروحي والجسدي وبين الخيالي والواقعي بشكل تصاعدي يحضر فيه الغيبي والعجائبي إلى جانب ما هو سياسي واجتماعي. لذلك كانت هذه الفترة، غنية بنقاهتها، بعيدا عن ما يمكن أن يخذلني من تفاهات الحياة العادية. – ما هي الأبعاد التي تركزون عليها في منجزاتكم الإبداعية؟ لن أخفيك سرا بأنني أومن بالبحث الجدي، ليس من أجل البحث عن أسلوب ونمط معين من الاشتغال حد الرتابة، بل البحث عن تصورات وأبعاد مرتبطة بالواقع من وجهة نظر فنان يولد الأسئلة ولا يجيب عنها على غرار ما يحدث في الأسئلة الفلسفية العميقة، طبعا دون التخلي عن كل المكونات والعناصر المؤثثة للعمل التشكيلي بأبعاده العلمية، من أشكال وتكوينات وأبعاد هندسية ومواد وألوان… والتي بدونها لا يمكن للعمل أن يحقق توازنا بين ما هو مرئي كواجهة أساسية وما هو موضوعي كخلفية ثقافية. لذلك، كانت تجربتي في مسارها التاريخي مرتبطة دائما بزئبقية منفلتة من القواعد الصارمة على مستوى الشكل والموضوع حيث جعلت من أسلوبي ضرورة حتمية، متحولة في الزمان والمكان، فكان أسلوبي في مراحل بداياته، يستند إلى الاهتمام بالخط العربي في علاقته باتجاه (البعد الواحد) العراقية مع ضياء العزاوي ورافع الناصري… وخصوصا تجربة الفنان وجيه نحلة التي كانت خارج هذا الاتجاه وتكتسي طابعا تجريديا غنائيا، وهذه مرحلة لا يعرفها إلا أصدقائي المقربين، لأنتقل إلى مرحلة ما بعد الدراسة والتكوين بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بديجون – فرنسا، وهي المرحلة التي تأثرت فيها بتجارب حداثية آنذاك لكل من (شارل بلي، جيرار كاروست وفلاديمير فيليكوفيك). بعد هذه المرحلة، سأعرج بعد تأمل طويل على أسلوب شخصي جديد حتى لا أسقط في رتابة إعادة نماذج من تاريخ التشكيل على العموم. وبما أن سؤالكم هذا يحمل تأويلات مشرعة على رؤى متعددة وغير محصورة بدقة في فحوى البحث التشكيلي وسياقاته، سأكتفي بأن ألخص تجربتي في تقنيات متعددة من بينها الصباغة والفنون الكرافيكية بكل أنواعها ك (السيريغرافيا، الحفر والليتوغرافيا..)، تحت لواء موضوعات تستجيب للتقنيات المستعملة بأسندتها وطرق إنجازها في محاولة البحث عن التقاطعات الممكنة التي تستجيب لإشكاليات الفن المعاصرة. – هل توثقون لتداعيات «كورونا» على الفن التشكيلي بوجه خاص، وعلى شخصكم بوجه أخص اليوم، أم تنتظرون حتى انقضاء الجائحة؟ صراحة وخلافا لما أنجز من أعمال حول موضوع «كورونا»، لم يستهويني هذا الاهتمام إلا في الكتابة، لأنها بالنسبة لي كانت هي سندي الوحيد للإفصاح عن اللحظة النفسية القلقة التي كنت أعيشها بعيدا لمدة شهرين عن عائلتي التي بقيت عالقة أيام الحجر بمراكش، ولم أستحضر أي تصور تشكيلي قد يعبر عن تلك اللحظة، إلا فيما تعلق بأحداث العنصرية التي عاشها السود بأمريكا جراء اغتيال جورج فلويد وما كان يجري من اغتيالات في فلسطين، بالإضافة إلى سلسلة أشرفت على إعدادها بيومية المساء شارك فيها عدد من المبدعين من شعراء وروائيين وتشكيليين تحت عنوان «طقوس الإبداع من الحرية إلى الحجر». – ما هي تداعيات كورونا على الفنانين التشكيليين وعلى سوق الفن، وما هي مشاكل الفن التشكيلي بتلخيص؟ تداعيات كورونا على الفنانين التشكيليين، كانت ولا زالت (وأنا من ضمنهم) لها أثر سلبي كبير، وخاصة المحترفون منهم ممن لا يملكون عملا آخر كتعويض لضمان صيرورتهم، بالإضافة إلى غياب التغطية الصحية كشرط أساسي يؤكد على انتمائهم لهذا الوطن، بينما الحديث عن السوق الفنية فهو مستبعد كليا، لأنه لا يوجد بالمفهوم الصحيح والمقنن أصلا، باستثناء بعض المبيعات المتناثرة هنا وهناك، التي لا تحكمها القوانين المتعارف عليها دوليا ولا تؤطرها احترافية في تحديد القيمة الحقيقية للعمل الفني، ولتوضيح الأمر بالتفصيل يمكن للقارئ أن يقتني كتاب ألفته منذ سنتين تحت عنوان «التشكيل المغربي بين الثقافة والتسويق»، لذلك لا أريد أن أسبر أغوار الحديث عن هذا الموضوع مرة أخرى. أما فيما يخص مشاكل الفن التشكيلي، وباختصار كبير فهي تشبه جميع القطاعات الفنية الأخرى بالمغرب، ويمكن تلخيصها في غياب عدد لا بأس به من القوانين المنظمة لهذه المهنة. – اختلف الفنانون التشكيليون في مسألة الدعم المخصص من قبل المؤسسة الوطنية للمتاحف (والمقدر ب8600 مليون سنتيم). ما موقفك من هاته المبادرة؟ للتوضيح فقط، أنا لست منخرطا أو فاعلا نقابيا، ولا أمثل إلا نفسي، هذا من جهة، من جهة أخرى، أعتبر هذا الدعم الذي خصصته المؤسسة الوطنية للمتاحف بادرة إيجابية، شريطة أن تتم فيه هذه العملية بطريقة موضوعية وديمقراطية، على أساس أن المسألة في رمتها لا تتعلق بشراء التحف الفنية فقط لصالح هذه المؤسسة، بل هو دعم سخر لمساعدة التشكيليين المغاربة الذين يعيشون وضعية هشة شريطة أن تتوفر في العمل المقاييس الجمالية والفكرية، بينما الاختلاف في تدبير شأن هذا الدعم لا علم لي به، ما دامت المؤسسة لم تصرح إعلاميا بطريقة صرفه وكيفية توزيعه، وما عدا ذلك يبقى كل ما قيل كلام تذروه الرياح. – كلمة أخيرة : تعزية في الفقيد سي عبد الرحمان اليوسفي. بكل صدق، واختزال، كان السي عبد الرحمان اليوسفي مناضلا حقيقيا، ناضل من داخل حزبه وخارجه، وسخر حياته لخدمة وطنه، وسياسيا حقيقيا، جعل من سلوكاته وممارساته نموذجا لكل الأجيال، وربط السياسة بالأخلاق، تلك الأخلاق التي ضاعت اليوم في خضم الصراعات على السلطة والمال. انتهى