قال إبراهيم الخطابي ( 319ه-388ه) في «بيان إعجاز القرآن» إن الناس انقسموا إلى طائفتين إذ زعمت طائفة «أن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان كما زعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، وفي كيفيتها يعرض لهم الإشكال، ويصعب عليهم منه الانفصال، ووجدت عامّة أهل هذه المقالة قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به».. واضح من كلام الرجل أن الإعجاز القرآني، يأتي من مستوى الاشتغال الدلالي اللغويّ، أي إنّه نصّ له معنى، وهذا المعنى لا يتحقّق إلا انطلاقا من الأداة اللغوية الموظفة في النص. والحال أن المستويين معا يحضران بقوة في النص القرآنيّ. وقد زادت سلطة المقدس من تعميقهما، مما جعل الاعتناء بهما حاضرا طوال مراحل إنتاج الفكر الديني الإسلامي. غير أنّ المرحلة الأولى من حياة النصّ القرآنيّ، تميزت بهيمنة البحث في المستوى اللغويّ، أي بالنّسق اللغويّ الّذي يتأسّس عليه. في حين كان الاهتمام بالمستوى الدلاليّ وما يحمله من تطلّع إلى الغيب والمستقبل حديثا، بعد أن استنفدت الدراسات البلاغية واللغوية كل معينها، وتراجعت بعض الحقائق التي اعتبرت مطلقة فيما يخص اللغة، أمام التطور المهول والمفاجئ للعلوم في سائر نواحي الحياة.
1 – في الإعجاز اللغوي عدّت «الفصاحة» قضية مركزية في الحضارة العربية الإسلامية، بحيث ظلت موضع فخر واعتزاز من قبل العرب، حتى صارت معيارا من المعايير التي يتم اعتمادها في التمييز بين النصوص، وبين الخطباء والأدباء. والحال أنها تظل مجرد معيار لغويّ يجعل من لغة ماّ نموذجا مثاليا للحكم على لغات أخرى، أو لهجات أخرى، كما الشأن في الثقافة العربية. إذ يعرف الدارس جيدا أن عصر التدوين، الذي تلا نزول الوحي، قد اعتمد معيار الفصاحة لبناء الأفق المعرفي الذي كان محكوما بالنص المقدس. وهكذا، تم استثناء العديد من القبائل، خصوصا تلك التي كانت تجاور الأمصار الأخرى، بدعوى اختلاطها بمجتمعات لغوية أخرى، ومن ثم احتمال أن تكون أصيبت باللحن. وفي ذلك يقول الفارابي «ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم»، لهذا استمرت «الفصحى» لغة أهل البادية حتى القرن الرابع الهجري، وقد كتب ابن جني قائل «وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا، لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا». إنّ هذا المعيار المتعلق بمفهوم الفصاحة قد جعل من اللغة عبارة عن نسق سانكروني جامد، لا يقبل بالتحول والتغير الذي تحدثه مجموعة من العوامل الثقافية. كما أن "التجميد" قد أنتج لغة نموذجية، هي لغة لها ارتباط بالنص المقدس وبالتاريخ المقدس، ولغات/عاميات ترضخ للتحولات الثقافية التي طرأت على المجتمعات العربية عبر التاريخ. لأن اللغة "كائن" منفلت، ولا يمكن التحكم فيها وإخضاعها بصورة فاشستية. ولعل هذا من العوامل التي كانت من وراء تكوين نمط من الوعي العربي، مادامت اللغة أداة الفكر، وهي بذلك تخترق وعينا، وتحمل تصوراتنا عن الأشياء والعالم -أنظر ما قاله الجابري في تكوين العقل العربي- فوحدها اللغة العربية من أعرق اللغات، ووحدها التي حافظت على بنيتها لما يزيد على 17 قرن من الزمان. فصارت اللغة العربية "الفصيحة" أقرب إلى أن تكون لغة واصفة- ميتا-لغة- تستعمل من أجل التواصل في سياقات معرفية، داخل الجامعات والمنتديات، واللقاءات الرسمية، لكن في المقابل، يتم التواصل في الحياة اليومية والحميمة بالعامية التي تكون أكثر التصاقا بأهوائنا وهمومنا ومشاعرنا. فصرنا أمام نوعين من الأنساق اللغوية، واحد يحمل تاريخا وحضارة ومن ثم نمطا من الوعي الحضاري الذي يتنفس في ثقافة إسلامية وعربية تبعد عنا بما يزيد على العشرة قرون، وآخر تفرع عن "العربية الفصيحة" وتواصل مع حضارات ولغات أخرى في تبادل وتواصل دائمين. إذن، هذا الانفصام الذي حدث، وما نتج عنه من تشظي الوعي، من جهة، وولادة عاميات من جهة أخرى، قد تمكن في الواجهتين، من الحفاظ على المقدس، وما يحمله من إرث ديني استثمر في مداه الأبعد من أجل تعميق مفهوم الفصاحة، والإعلاء من قيمة "العربية الفصحى"، واستهجان العاميات. كما أن ابتعاد العاميات عن الأصل "الفصيح" وتوليدها لعدد من الأنظمة الدلالية والصور البلاغية الخاصة، قد زاد من تعميق الهوة بينها وبين "العربية الفصيحة". بحيث إن هذا الانفصام قد بدأ يطفو إلى السطح منذ فجر الإسلام، مادامت اللهجة القرشية مهيمنة في النص القرآني؛ يقول الفارابي في كتاب الحروف «كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا وإبانة عما في النفس. والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي». إن القرآن قد أكسب هذه اللهجة بعدا مركزيا لتصبح هي "اللغة" المعيارية التي يتم اعتمادها، إذ إن المعيار الجغرافي للتدوين لم يكن له من معيار في العمق سوى خدمة النص القرآني الذي سيج من أجل حمايته من اللحن، مادام هو المرجع في "الدين واللغة"، وإن اعتمد على القبائل التي تسكن أواسط الجزيرة إلى شيء من جنوبيها أي بلاد العالية. تعد فصحى قبائل العرب، وهي قبائل الحجاز وكنانة وهذيل وغطفان وهوازن وسليم وطيء وتميم وأسد وقيس، وعنهم «نقلت العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد فإنّ هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي التراكيب والتصريف. ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين». الواضح، إذن، أن عملية الانتقاء لم تكن بريئة، مادام المعيار لم يكن واضحا، ومادام معيار البداوة الذي التصقت به الفصاحة، على اعتبار أن العرب تكلموا العربية بالسليقة، لم يكن موضوعيا، ولا صادرا عن خلفية معرفية أخرى غير النص القرآني. لهذا تم توظيف معيار الفصاحة، كما هو حاضر في النص الديني. أضف إلى ذلك أن عملية الجمع-التدوين- ما كانت لتتم لو لم تكن من أجل خدمة القرآن وتوحيد نصه. لأن شعار الإسلام ظل "التوحيد" وهي بنية نسقية تحكمت في كل الحضارة العربية/الإسلامية، وقد ظل هَمُّ العلماء والحكام هو العمل على أن يكون النص القرآني محور كل التقاطعات، وهو الأصل في كل البنيات من أجل توحيد كلمة المسلمين من التفرق الذي يسببه اختلاف مصاحفهم * محمد آل ياسين؛ الدرساات اللغوية عند العرب. دار مكتبة الحياة 1980* وقد عبّر الغزالي ببلاغة عن هذه المركزية حين قال : "أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين"وقد شدد في كتابهالإحياء قائلا «"القرآن يحتوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد وطالع»، ثم قال ابن مسعود «من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن». إن هذا السياق الثقافي العام هو الذي كان من وراء ظهور كل العلوم التي عرفتها الثقافة العربية الإسلامية. ومن هنا نقف عند بعض العلوم التي تأسست على القرآن لخدمته في البدء والمنتهى؛ ونميز بين علوم اهتمت بالبنية اللغوية، أي النص من حيث هو لغة، وأخرى اهتمت بالبنية الدلالية، أي المحتوى الذي حمله النص القرآني.