كانت المكتبة، وستظل، أكثر من مكان تلتقي فيه الكتب، فحسب «إيطالو كالفينو»، المؤلفون يؤلفون الكتب لتقف جنب بعضها في رفوف المكتبات؛ بل ستظل مكانا ساحرا للقاءات، للتناظر والمفارقة. كأن كل شيء يخرج بطريقة سحرية من الكتب: الشخصيات من الروايات والمسرحيات والقصص، والأفكار من كتب الفكر والتأمل، والأغاني والصور من كتب الشعر. يحدث ذلك كأن المكتبة دغل هائل وصموت. ويحدث أيضا أن تلتقي كاتبا قرأت كتبه التي في متناول اليد. كاتب مألوف يصبح اللقاء معه اعترافا أرضيا، لأن قراءته فقط دون اللقاء به اعتراف سماوي. يوم الأحد التقيت عبد الله العروي في مكتبة خاصة بالكتب المستعملة؛ مكان شعبي، مهمل، دون ترتيب وضيق، وهذا سرُّ اتساعه. فضاء حي ومتسع بلغاته وأوراقه الغزيرة التي تجعله مثل الدغل. لما رآني صاحب المكتبة، إبراهيم، قال لي: اصعد إلى فوق، هناك كتب جديدة، هناك عبد الله العروي. ظننت أنه يقصد كتب عبد الله العروي. فأجبته: هل تقصد كتب السيد عبد الله العروي أم هو شخصيا؟ قال: لا، هو بلحمه وعظمه. أجبته: لنتركه يبحث وسط الكتب، ففي البحث داخل المكتبة سلوك هو من صميم الخلوة الرومانسية. إلى جانبي شخص اعترته الحماسة للصعود، ومن طريقة استعداده تبين أنه سيصعد ويخترق الفضاء العلوي الضيق، أو الدغل الفوقي المحتشد، بهياج، فما كان علي سوى كبحه وأنا أتوجه إلى القول: لنترك السيد العروي يبحث وسط الكتب، فنحن نخجل منه ونقدر وجوده بيننا. تراجعت الحماسة. بعد صمت ضئيل سمعت صوت أقدام على السلم الخشبي الذي يشبه الشريان. إنه السيد عبد الله العروي وهو نازل وفي يده مجموعة من الكتب. أفسحت له الطريق، أطرق ومر أمامي دون رفع البصر. بادلته الإطراقة، التي في تأويلي تشبه التحية، بإطراقة منّي، لكني حين أطرقت نظرت إلى كتاب بين يديّ، وهو سيرة فرنسية حديثة لغوته، رأيت صورة غوته يمشي ويحني رأسه إلى الأسفل. ولما رفعت رأسي كان السيد العروي قد اختفى. التفت إلي الشخص الآخر وعلق: لقد أصبح الأستاذ العروي رجلا مسنّا. قلت: لا، التعبير الأصح أنه في الذروة. ثم صعدت إلى الطابق العلوي المعلق، ومباشرة وجدت أمامي كتاب «الحب المجنون» لأندري بروتون، و»كيف نقرأ بريخت»، و»الإيديولجيا العربية المعاصرة»،كتاب السيد العروي الذي بدا لي مثل أسد ميت، بعدما عراك طويل مع المؤلف. فأخذتها كلها ونزلت عبر الشريان إلى الدغل السفلي. عندها أحسست أن العالم شريان، دون عناء شعري في قول ذلك، ونحن داخل الشريان نجري ونلتقي ونفترق، لكن عطر الذكرى وسحر المصادفة هي كلية من كليات الكائن.