يلزمنا كتابا بأسره حتى نعقّب و نعلّق على " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بالعربية "(1) لعبد الفتاح كيليطو.هذا القارئ الشّغوف و المثير للشّغف يُثبّت في هذا المؤلّف فنّ تقاسم للمعرفة يلوح ناجعا بقدر ما يبدو بارعا و ماهرا. تتمثّل فضيلته الكبرى في عرضه، و برشاقة، لفكر غير متبجّح أو صلف يحثك على التأمّل و أنت برفقته، يدعوك أن تترك النّفس يجتاحها قلق شفّاف حيث الحلم ليس مختنقا بحجّة برهانية. لدينا، لمّا نقرأ عبد الفتاح كيليطو، الإحساس الذي هو في العمق قليل الوجود بأنّ الكاتب يحترمنا، يطلبنا لنكون إلى جانبه، يقودنا بطيبة خاطر على أثره في مملكة بابل لإنجاز اقتحامات مضيئة لأنّها بالتأكيد مشروعة. يلزم بهذا الخصوص إيلاء اهتمام خاص للفصل المعنون ب"الديك المنخدع" ( في فجر الرواية العربية ) الذي يقودنا انطلاقا من رواية لجورج سيمنون " زبناء أفرينوس "، و التي تدور وقائعها بأسطنبول حيث " يلقي أحدهم أبيات شعر باللغة التركية أو الفرنسية " (ص54)، إلى " الساق على الساق " للشدياق. إذا كان الشدياق ( 1804 _ 1887 ) قد جاب العالم، فإنّ كيليطو يجوب الآداب القديمة و الحديثة مترصّدا إيّاها. لمّا سيقول : " إنّها الأرض ! "، يكون قد رسّخ لدينا شغفه بحلّ الطلاسم كما لو أنّه عالم آثار ذو سحر مطمور، أو مهندس معماري ذو سحر منظور. كيليطو مفتون بالأدب، و مع ذلك تراه يحدّق مباشرة في عيونه. ليست الدّعابة بغائبة. و هي كذلك حينما يكتب " أودّ أن أطمئن أصدقائي الإيطاليين. من المحتمل جدّا أنّ دانتي لم يتأثّر بالمعري. و مع ذلك فليس بعيدا عن الصواب كل البعد القول بأنّ المعري قد تأثّر بدانتي ، و حتى و إن كان قد عاش أربعة قرون قبله " (ص63). " أتكلّم جميع اللّغات ، لكن بالعربية"، هذا العنوان المتفرّد يدين به كيليطو، كما يعلن، إلى كافكا. فقد كتب هذا الأخير في يومياته: " أترون، إنّني أتكلّم اللّغات جميعها، لكن بالييديش " (ص29). هنا أيضا يفكّر كيليطو متبسّما حين يستحضر واصلا بن عطاء سلف جورج بيريك كاتب رواية " الاختفاء " التي تستغني عن حرف e. واصل الذي ليس من أصول عربية، لم ينجح في نطق الرّاء من دون لثغة " تمكّن من حلّ لمعضلته بأن أسقط من حديثه جميع الكلمات التي تشمل الحرف الملعون (...) كان " أوليبيانيا "(2) قبل الأوان، و قبل ظهور الكلمة ذاتها " (ص 31). سيعرف المغرمون الصّدوقون بالأدب كيف يفكّرون مليّا في جوهر ما يقوله كيليطو، مثلما يتأمّل هذا الكشّاف للينابيع الازدواجية اللغوية المغربية : " لن يُحكم عليك أو لك بسبب اللغة التي اخترتها،و إنّما بسبب استعمالك إيّاها، و الطابع الشخصي الذي وسمتها به " (ص43). إنّ كاتب " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بالعربية "، كان أستاذا للآداب بالرباط، و درّس بباريس و هارفارد و بريستون، و لذلك ليس من المدهش أن يقترح مواضيع أطروحات. هكذا، حين قرأ أطروحة عبد الجليل الحجمري " في مغرب الزمن الفرنسي " (1973)، استخلص : " فبعد مغرب الزمن الفرنسي، ربّما وجب أن نكتب ذات يوم فرنسا الزمن المغربي " (ص75) لأنه " في الوقت الذي كان غابرييل شارم يدوّن فيه رحلته إلى المغرب سنة 1886 أي على عهد الحسن الأول، كان الناصري يؤرّخ لهذا السلطان في الاستقصا " (ص 74). هذا التقصّي الأدبي عند كيليطو ليس فقط دعوة مثمرة للقرّاء، بل إنّ قيمته تكمن في هذه الشراسة الوديعة للفطنة الشخصية و لفطنة الآخر : إجمالا، أن تقرأ " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بالعربية" هو أن تمنح لنفسك ذريعة تخيّل كتاب له كعنوان " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بتشلحيت "، و لكن أيضا و بشكل أكثر راديكالية " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بالإسبرانتو( لغة دولية ) ". أيّ أسف وحيد لي و أنا أطالع عمل كيليطو ؟ لقد أخفى في الفصل المعنون " بارث و الرواية "(3) ( من شرفة ابن رشد، ص 45 49 )، الاستحواذات المغربية لبارث، مع أنّ Incidents تصوّرها و لكن من دون أدنى تلميح للزّفرات الجنسية لهذا الكتاب المطبوع بعد موت مؤلّفه. سنحبّ في هذا الكتاب الغزير لكليطو ما كتبه عن عبد الكبير الخطيبي و ادمون عمران المليح، و ستكون لنا رغبة لاكتشاف كتاب ميشيل بوشار " شفافيات الدمناتي "، كما لإعادة قراءة " فانتازيا " عبد الوهاب المؤدب. سنستلذّ رهافة القراءة التي يقدّمها كيليطو عن" لعبة النسيان" لمحمد برادة، و سنسير على أثره بكلّ حبور و هو يضيء لنا عملي عبد الله العروي و أحمد الصفريوي. يلزم، على الخصوص، أن نحتفظ في أذهاننا بالسّطور الأخيرة من " أتكلّم جميع اللّغات، لكن بالعربية " (4): " و السّؤال: بأيّ لغة تكتب ؟ لن يكون له معنى إلاّ إذا استُكمل بهذا السّؤال الآخر، المُهمل باستخفاف : بأيّ لغة تقرأ ؟ " (من شرفة ابن رشد، ص 55). و لأنّ عبد الفتاح كيليطو يكتب بالعربية كما بالفرنسية، فهو يتيح لنا برهة أن نفكّر بصرامة و أن نحلم بولع. هوامش : *-أخذنا هذا المقال عن: Le Soir , 11 mai 2013 1 الإحالات على الترجمة العربية التي أنجزها الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال،2013 2 أولبو Oulipo جماعة من الأدباء يحدّدون أنفسهم " كجرذان يضعون لأنفسهم متاهات يسعون إلى الخروج منها ". من بينهم ريمون كونو، و إيطالو كالفينو و جورج بيريك ( هامش صفحة 31 ). 3 لم تتضمّن الترجمة العربية ثلاثة أبحاث و هي : البحث الأول : "عن الترجمة" و هو منشور كمقدّمة لكتاب عبد السلام بنعبد العالي : "في الترجمة"، دار توبقال، 2006. البحثان الثاني و الثالث : بارث و الرواية و لغة القارئ، منشوران ضمن كتاب " من شرفة ابن رشد " 2009. عدم إدراج هذه البحوث في الكتاب الأخير لكيليطو - رغم نشرها - قد يكون أفقده بعض التوازن و أصاب بنيته ببعض الخدوش. ثمّة سؤال مشروع يفرض نفسه : إذا كان كيليطو أعاد نشر هذه المقالات، لماذا أحجم المترجم عن فعل ذلك ؟ ( المترجم ). 4 _ هذه هي فعلا السطور الأخيرة في كتاب كيليطو باللغة الفرنسية و لها في هذا المقام بالغ الدلالة و المغزى !