حين تتحول العدسة إلى مؤرخ فني كبير.. حين تسرق اللحظات ليس لتوقف الزمان ولكن لتعيد للوجدان كينونته.. تنفخ فيه روح الحياة المزهوة بكل ما هو جميل ونبيل.. بكل ما يجعلك تقف باحترام وانت مبهور لترفع القبعة وتنحني ببهاء ممتثلا للمشاهدة والإنصات.. هكذا جعل الفنان الفوتوغرافي المبدع أحمد بن إسماعيل آلة تصويره معشوقة دائمة محمولة على كثفه الأيسر لتجاور قلبه حيث تتناغم مع نبضات حبه التي تحولت إلى قصة عشق أبدية.. بين وضوح النهار وأثار الليل، بين الوجوه المشرعة في الساحة، في الدرب، في الشارع، في المقهى، في المسرح، في السينما، في كل هذا الكون الممتد من القلب إلى القلب.. عشق فسيح في عالم لا يلجه إلا من ينبض بالحب، ويتملى بالجمال، ويتقن فن العيش ليسكن قلوب كل العاشقين، ممن تحدثت عنهم الأساطير ، أو حتى تلك التي قد تحتاج لمعرفة كنهها وانت تتسلل في علو إلى سدرة منتهى الحب.. أحمد بن إسماعيل وهو يعبر كل تلك الدروب والازقة الضيقة شكلا، والشاسعة حبا، من حيه بدرب سيدي بن اسليمان في المدينة العتيقة مراكش، فلا يعبرها رغبة منه، أو تغريه روائح توابلها، وطلاء جدرانها، وزليج سقاياتها، وقرميد أقواسها، وطيبوبة وبساطة سكانها، إنما تقوده محبوبته، عشقه، لممارسة شغبه/ حبه الفني في التقاط كل ما هو بديع،.. أحمد بن إسماعيل حتى عندما افتتن بالريشة والصباغة والألوان، وأبدع فيها ببصمته الخاصة، لم يفارق ملهمته، عشقه الأبدي، آلة تصويره، هذه الآلة التي سنرافقها حبا فيها وعشقا لها، من خلال ما أنجبته من تحف فنية بعد إذن الفنان المبدع أحمد بن إسماعيل، لتُفشي لنا الكثير من الأسرار، وتعيد الحياة للكثير من القصص، وتروي لنا كل الروايات عن شخوص ورجال وأماكن وفضاءات، سواء في مراكش وساحتها الشهيرة أو عبر جغرافيا الحب لهذا الوطن، والتي سكنت أحمد وآلة تصويره حتى الجنون.. وهو ما ستميط اللثام عنه هذه الحلقات:
“اللي مابقا كيشوف مزيان .. دواك عندي : دير شويا دلكاربون في عينيك ليلة كاملة .. حركهم بمسمار مصدي …. كنعطيك الكرانطي تشوف من هنا مليون كيلومتر..” عبارات كان يكررها طبيب الحشرات في حلقته التي تستهوي الكثيرين.. هذا ما ذكرتنا به هذه الصورة التي التقطها أحمد بن اسماعيل لطبيب الحشرات سنة 1990.. رغم لباسه الرث والوساخة التي غالبا ما تعتليه، إلا أن طبيب الحشرات له قدرة كبيرة في نسج حكيه بخصوصية وبعبارة ترتبط بالحشرات وكل أشكال تلك المهملات من المسامير والحديد الصديء والزواحف لتكون قاموسه أو بعبارة أصح هي الأشياء التي تشكل أبطالَ وشخوصَ حَكْيِهِ، وهو الأمر الذي يجعل حلقته مكتظة بالمعجبين بفنون حكيه الممزوجة أحيانا بروائح الخمور التي تطفح منه.. أيضا يعتمد على تلاوة “إقرأ” لكنه يغير شخوصها حين يكون معلما.. أو يقرأ نشرة اخبارية تتحدث عن وصول شخصيات كبيرة من رؤساء دول أو مشاهير وكأنه مذيع، وبأسلوب مثير وعجيب وقدرة فائقة على نسج حكاياته من قاموسه الخاص.. ومن اللحظات الجميلة والمثيرة في حلقته عندما يتحدث عن السلك الدبلوماسي بالمغرب من خلال المتحلقين حوله ، فيصف هذا بسفير فرنسا ان رأه انيقا، وهذا سفير السينغال ان هو ببشرة سمراء، وهذا سفير الصين إن كان ذا عينين ضيقتين.. لكن من هو طبيب الحشرات؟؟؟!! كثيرون يرونه مجرد مشرد تائه يتسكع بين الساحة والأقبية المظلمة من مقابر ودور مهجورة.. إنها حكاية لمأساة إنسان عاش البؤس، ومن بؤسه خلق فرجة للناس.. إنه ابن أسرة بمنطقة تلوات بقبائل كلاوة بجبال إقليمورزازات، كان يعيش تحت رعاية جده من أمه الذي كان فقيها وتتلمذ على يديه وحفظ القرآن عنه، غير أنه كان وبعض أقرانه يدخنون مخدر الكيف الذي كان يُزرَعُ أنذاك بشكل عادي في عدد من مناطق المغرب خاصة منها الجبلية، وعندما اكتُشِف أمره اضطر أن يفر، وكانت الوجهة هي مراكش، وهناك لم يجد من مأوى سوى ساحة جامع الفناء.. تلقفه أحد كبار المشردين يقال له :”الفار” وهو من حومة باب ايلان، وأصبح الإثنان متلازمين بين الساحة والأسواق القريبة، يبحثون عن خبزهم اليومي بأي طريقة.. في إحدى المرات جاء أحد الخليجيين إلى نادي البحر الأبيض المتوسط المجاور للساحة وترك سيارته مفتوحة وبها بدلته وحقيبة مالية ، ولجها طبيب الحشرات دون تردد، لبس البدلة وأخذ الحقيبة المالية وتوجه مباشرة رفقة صديقه “الفار” إلى إحدى الحانات بحي جليز، استمتعا وشربا أرفع أنواع الخمور لكن أمرهما اكتشف فتم اعتقالهما.. بعد خروجهما من السجن بأيام، كان ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي، سقطت أمطار غزيرة ولم يجدا سوى الخندق الخاص بالتليفون فولجاه وسارا في سراديبه، عجبهما الأمر، غير أن أحدهما لمس حبالا أو شيئا ما مرتبط بمنبه الإنذار المرتبط ببنك المغرب فاعتلى صوت صفارات الإنذار المدينة، وهو ما أدى إلى اعتقالهما. لقيا تعذيبا شديدا، وهو ما سيؤثر على نفسية البشير طبيب الحشرات طيلة حياته، ومنذها بدأ حلقته بساحة جامع الفناء، لكن دون أن يتخلى عن تسكعه، وبقي دائما بألبسته الرثة، لا تتحسن إلا في حالات ناذرة، وبين الحين والأخر يجد نفسه في مخافر الشرطة أو في سجن بولمهارز.. وقد تحدث عنه الكاتب العالمي خوان غويتيسولو: “اختار طبيب الحشرات طريق التشرد والتسكع، معظم لياليه كان يقضيها في المقابر ومراكز الشرطة أو في هولندا التي يقصد بها سجن ” بولمهارز ” بمراكش ، حينما يمل من المغرب تكفيه قارورة كحول لتنقله إلى أفخم فنادق الميريكان … وهي تلك الأقبية والمقابر والدور المهجورة ومخافر الشرطة..” هذه العبارات كان يثير بها الضحك في حلقته.. الحلقة التي يغادرها أحيانا دون إذن المتحلقين حوله فينتظرون دون عودة.. وحتى في موته لم يستأذن أحدا، فمن قائل أن الخمرة لعبت به فسقط من أعلى بناية جوطية سيدي ميمون، ومن قائل أنه تعمد أن يغادر لأنه صاح: باركا… باركا… باركا… فارتمى ومات.. لكن لا أحد يعرف الحقيقة.. الشي الوحيد الذي يعرفه الجميع هو أن طبيب الحشرات كان يصنع فرجته من عمق معناة بؤسه وتشرده الاليم..