قال الكواكبي "من أقبح أنواع الاستبداد ..استبداد الجهل على العلم .واستبداد النفس على العقل "... وورد في نهج البلاغة ... الاستبداد بالشيء، التفرّد به. ونوجز تعريف محمد عبده للمستبد بأنه الذي يفعل ما يشاء .. ويحكم بما يقضي هواه، وافق الشرع أو خالفه.. إن كل السياسات الرسمية لأية حكومة في العالم عندما تعمد الى الحد من ثقافة النقد البناء ...وعندما تحاول توصيف الناس على نمطها شكلا وقلبا ...وعندما تشكك في كل ما هو جميل من حضارة شعبها المخالفة لعقلياتهم المتحجرة ...وعندما تبحث لنفسها عن قداسة وهمية بالإساءة لغير المتطابقين مع نهجها ...وعندما تربط أزماتها وإخفاقاتها بوهم المؤامرات والتواطؤات الداخلية والخارجية ...وعندما يتطاولون على التعدد والتنوع الذي هو من بديع الخلق الإلهي كان ماديا أو فكريا أو عقديا أو سياسيا بمحاولة تكرار انفسهم وجعل الناس على شاكلتهم ؟؟...وعندما يعمدون الى إلغاء كل أنواع العلاقات والروابط الانسانية والاجتماعية والثقافية ليعوضوها بهواهم وتخيلاتهم ...وعندما يستبلدون المجتمع المدني ليختزلوه في أنفسهم ومن معهم ... فإنهم في حقيقة الأمر لا يسعون إلا إلى إلغاء الآخر وإقصائه من كل مجالات الحياة والعمل وإحلال أتباعهم في كل تمفصلات الادارات والمجتمع ليكون الناس إمعات ورعايا طيعين.. وتكون آليات السلطات المنتخبة والمعينة منفذة للأوامر ..ومسايرة لتوجهاتهم وكافرة بمن يرى أحسن مما يرون أو يخالفهم ...إنهم باختصار يعتقدون أن الشعب يجب أن يكون لهم ومعهم لأن ذلك هو جوهر مساعيهم ...إنهم يريدون كذلك أن يفكروا بالنيابة عن الناس لأنهم في نظرهم لا حق لهم في التفكير المتحرر من التسلط والتقليدانية والاستنساخ الفاشل ... إن تردي وانحطاط العديد من الدول العربية والاسلامية وانزلاقها بسبب الركوب الاستبدادي على الارادة الشعبية في الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة ..أدى الى الإساءات التي - وثقها التاريخ بالسواد والدماء والآلام في أكثر من حقة وعهد وسلطة ...- والتي نراها طالت الانسان بالبوادي والحواضر وأضرت بالقدرات والثروات ،وتعمل من أجل إقبار كل الاحلام وتكسير الإرادات وتدجين المعارف والافكار ..... إن الله خالق كل شيء أمرنا بالعدل والاتزان والوسطية في أمورنا وحياتنا ..وأوجب علينا توقير الناس واحترامهم ...وعرف لنا الظلم والظلمات ..ولم يجبر الناس على أي أمر من أمورهم وهو القادر على فعل ذلك بمقتضى الخلق الذي يختص به ..بل ترك لهم الخيرة في كل الامور ..ونهانا على أن نكون مستبدين ..بل فرض علينا مواجهة التسلط والقهر ... إن ما لا يمكن قبوله شرعا وعقلا هو أن يستغل البعض ما جاءت به الرسالات السماوية والأنبياء من أفكار وتشريعات عادلة، وأن يوظف بانتهازية مذاهب ونظريات ديموقراطية بدعوى محاربة الاستبداد وإقرار العدل، وهو يسعى ليعوضه باستبداد آخر قد يكون أكثر خطورة و إيلاما ممن سبقه لأنه استغل الناس وحسن نيتهم ورغبتهم في التخلص من الطغيان والعسف ... ومن هنا يمكن أن نسجل أن أصحاب الاستبداد وأتباعه لا يتوقفون حتى يهيمنوا على المجال الفكري والمذهبي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي ...الخ ..أي حتى يخضعوا لإرادتهم وفق متمنياتهم كل ما في البر والبحر والجو... والأمر الغريب أن كل المستبدين بمختلف الأمم وبعض « الأديان» يتفننون في البحث عن مبررات لمعاناة المواطنين، ويحصرونها أحيانا لغاية استبدادية لتفسير الانحطاط السياسي والأزمات الشاملة بتهاون الحكام والناس في أمور الدين ..أو عدم توقيرهم لمن يحكم ..وأن لا خلاص إلا بالخضوع للحكام والتفاني في الطاعة المطلقة ...ولكم أن تنبشوا في تاريخ الاستبداد منذ ما قبل زمن فرعون وهامان الى هولاكو والديكتاتوريات الحديثة الى المعاصرة، مرورا بنماذج لحكام تخصصوا في قطع الرؤوس والأيادي والألسن وسبي النساء الحرائر العفيفات ..وما قطع رأس سيدنا الحسين وقتل سيدنا الحسن أحب الناس الى رسول الله بمبررات كاذبة تهدف الى الاستفراد بالتحكم والسلطة ..إلا مظهرا بشعا للمستبدين الذين إن لم يقمعوا أو يقطعوا الرؤوس في حقبة أو محطة ما ،فإنهم لم يجدوا فقط الفرصة السانحة لفعل ذلك ..ولنتأمل الخطابات بمشارق الأرض ومغاربها ثم لندقق النظر في الافعال والممارسات التي تطبق بها السياسات وتقصى بها كل قوى التغيير في أفق محوها من خرائط الفعل العمومي لنفهم ما حصل وما يخطط له ...ولن نغفل في هذا السياق الاستبداد الذي يعتمد أساليب انتهازية تستهدف إخضاع الناس باستغلال فقرهم وحاجتهم ..وآلامهم وآمالهم مع إشباعهم بالمتمنيات والآمال والاحلام ..وتشكيكهم في كل ما هو جميل وجعلهم مستسلمين منقادين بعلة الرضى والقناعة ؟؟..وهذا النوع أخطر لأنه يستعمل التضليل الذي لا يأتي من ورائه أي خير ......و لهذا يرى الكواكبي أن الاستبداد بأشكاله المختلفة:- «الديني - السياسي - الاقتصادي...» - هو أساس كل أنواع الفساد وأن نتائجه دائما تكون سيئة ... إن المحللين النفسيين والاجتماعيين يدركون أن هناك من لديه قابلية ليصبح مستبدا، يتحين ويستغل كل الفرص ليكون كذلك ..وإن لم تتح له يمارسها في بيته وموقع عمله .. باختياره للمستضعفين ليعيث فيهم تجبرا وعنترية وتكبرا واستهزاء وتحقيرا ... إن علماء الشريعة الاخيار النيرين وكذا علماء السياسة المناضلين يؤمنون بحتمية التغيير ، وإن الاستبداد مهما تفنن وتنوع وتقوى، لا يؤدي وفق سنن الله وسنن الكون إلا الى التحرر والانعتاق طال الزمن أو قصر .... إن القاعدة العامة التي لن يختلف عليها عاقلان هي أنه لا يمكن للمستبد أن يكون عادلا وذلك لأن الظلم هو من أقوى نتائج الاستبداد ..فظلمه كما يطال الافراد يعم الناس كافة إلا أنصاره وأتباعه وأحيانا قد يتضررون منه كذلك ..إن المستبد لا يمكن أن يحقق ما يريد إلا بإلزام وإرغام الشعب بكل الوسائل ..من دغدغة العواطف الى التهديد ثم القمع المباشر وغير المباشر... إن المتشبعين بالاستبداد لا يقبلون النصح والنقد البناء، ولا يحبون من هو أفضل منهم معرفة وتجربة وخبرة ويتشاءمون لدرجة الكراهية والحقد والكيد من التغيير والديموقراطية والحرية والكرامة .. ونختم بالحديث التالي: قال رسول الله «ص « (أَلا أُخْبِرُكم بِخِيارِ أُمَرَائِكُم وَشِرَارِهم؟ خيَارُهم: الذين تُحِبُّونَهم، ويُحِبُّونَكُم، وَتَدْعُونَ لَهُمْ ويَدْعُونَ لَكُمْ، وشِرَارُ أُمَرائِكم: الذين تُبْغِضُونَهُمْ ويُبْغِضُونَكم، وَتَلْعَنُونَهُمْ، ويَلْعَنُونَكُمْ) رواه الترمذي، وصححه الألباني. وقال ص: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها».