كل التشريعات المقارنة تحد من حرية المريض فيما يخص خضوعه للعلاج من عدمه بل وحتى في تحديد مساره العلاجي الأوبئة تقيّد حقوق المرضى التي تنصّ عليها أخلاقيات مهنة الطب دفن الجثث، الوفيات المشكوك فيها، ضحايا العنف، حقوق المرضى… أسئلة الطب الشرعي في زمن الكورونا طرح التعامل مع جثث الموتى، سواء التي أصيب أصحابها بفيروس كورونا المستجد أو تعلّق الأمر بوفيات «طبيعية»، أو المشكوك فيها، جملة من علامات الاستفهام، تتعلق بالتشريح والغسل والتشييع والدفن، خلال هذه الجائحة الوبائية التي تمر منها بلادنا. أسئلة لها صلة مباشرة بتخصص الطب الشرعي الحيوي والبالغ الأهمية، لكنها لا تقف عند حدود إشكاليات التعامل مع الجثث، بل تشمل كذلك ضحايا العنف، الأسري وغيره، وضحايا حوادث السير والشغل، إلى جانب محور أساسي لا يتم الانتباه إليه في ظل الوضع الصحي العصيب الذي فرضته جائحة فيروس «كوفيد 19»، وهو المتعلق بأخلاقيات مهنة الطب وحقوق المرضى، الذي لا يُثار نقاشه للعموم، والمرتبط بحق المريض في اختيار الطبيب المعالج، والمؤسسة الصحية التي يرغب في الاستشفاء فيها، واحترام إرادته في اتباع البروتوكول العلاجي وتناول أدوية بعينها من عدمه؟ علامات استفهام، طرحناها على الأستاذ هشام بنيعيش، رئيس معهد الطب الشرعي بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد بالدارالبيضاء، الذي قدَم من خلال الحوار التالي جملة من الأجوبة والتوضيحات بخصوصها الأستاذ هشام بنيعيش o أي دور للطب الشرعي في مواجهة الفيروس والحدّ من انتشاره؟ n يمكن اعتبار هذه الجائحة العالمية المتسببة في مرض كوفيد 19 تحدّيا حقيقيا لكل التخصصات الطبية، إذ لايزال الفيروس المسبب لهذا الداء لم يبح بكل أسراره وإن بدأت المعارف الطبية المرتبطة به تتراكم يوما بعد يوم. إن الطب الشرعي وإن لم تكن له مهام علاجية، فإنه يلعب دورا مهما إلى جانب الطب العام وتخصصات طبية أخرى في مجال التشخيص وفي الجانب الوقائي، كما يمكن له أن يقوم بدور أساسي في التراكم المعرفي المرتبط بهذا المرض عبر عمليات تشريح جثث المتوفين بهذا الداء. وفي هذا الصدد، وعلاقة بمجال التشخيص، يجب التنبيه إلى حالات الوفيات التي قد تحدث في المنازل أو بعد نقلها إلى المستشفى، قبل أي تشخيص لسببها، فالطبيب الذي يقوم بمعاينة هذه الجثث واستجواب أقارب المتوفين والإطلاع على ملفاتهم الطبية يكون بإمكانه من موقعه، رصد الحالات المحتمل إصابتها بهذا المرض، ذلك أنه في آخر تحيين لوزارة الصحة لتعريف حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، شملت الحالات المحتملة الأشخاص المتوفين الذين ظهرت عليهم قبل وفاتهم أعراض التهاب تعفني حادّ إذا لم يتم تشخيص سبب تلك الأعراض، أو كانوا مخالطين لشخص مؤكدة إصابته بالفيروس، أو كانوا ضمن مجموعة من الأشخاص عانوا من نفس الأعراض. وعليه، إذا استجاب المتوفى إلى إحدى معايير الوفاة المحتملة نتيجة فيروس كورونا المستجد، سواء كانت الجثة بمنزل أو بالمستشفى أو في أي مكان آخر، فإنه يتم ربط الاتصال بالسلطات الصحية المختصة، وتأخذ عينات من حلقه للتأكد من الإصابة أو نفيها، وهناك فعلا عدة حالات، تم تشخيص الإصابة فيها بهذا المرض بعد الوفاة، مما أتاح إمكانية عزل ومراقبة مخالطي الهالك حسب المساطير المعمول بها. أما فيما يخص الجانب الوقائي المتعلق باحتمال انتقال العدوى من جثث المتوفين بهذا المرض إلى الأحياء و خاصة الأقرباء والمهنيين المتعاملين معها، فإنه وخلافا لفيروس إيبولا وللبكتيريا المسببة للكوليرا التي تكون جثث ضحاياهما شديدة العدوى، فإن احتمال انتقال فيروس كورونا المستجد يكون بالأساس عند اﻧﺒﻌﺎث رذاذ ﻣﻦ إﻓﺮازات اﻟﺠثة أو ﺳﻮاﺋﻠها وقد يحدث ذلك أثناء ﺗﺤﺮﯾﻚ اﻟﺠﺜﺔ أو مناولتها أو غسلها كما قد يحدث عند تشريحها، ولقد سبق للجمعية المغربية للطب الشرعي أن أصدرت توصيات للتعامل مع جثث المصابين المؤكدين أو المحتملين بفيروس كورونا المستجد. توصيات من أهمها التشديد على ضرورة استعمال القائمين على تجهيز هذه الجثث لمعدات الحماية اﻟﺸﺨﺼﯿﺔ اﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ وﻓﻘﺎ للاحتياطات اﻟﻨﻤﻮذﺟﯿﺔ، كما هو الحال بالنسبة للقفازات والرداء المانع ﻟﻠﻤﺎء الذي يُستعمل مرة واحدة، واﻟﻜﻤﺎﻣﺎت، وواﻗﻲ اﻟﻌﯿﻨﯿﻦ، مع الحرص على تنظيف اليدين ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺤﻮ اللازم ﻗﺒﻞ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﺠﺜﺔ ومحيطها وﺑﻌﺪه، وﺿﻤﺎن اﺣﺘﻮاء أية ﺳﻮاﺋﻞ ﺗﻔﺮزهﺎ اﻟﺠﺜﺔ ﻣﻦ “الفوّهات” مع التقليل من ﺗﺤﺮﯾﻚ اﻟﺠﺜﺔ ومناولتها إﻟﻰ أدﻧﻰ ﺣﺪ ﻣﻤﻜﻦ. وإلى جانب ما سبق تمت التوصية بوضع الجثة في حقيبة محكمة الإغلاق ثم في التابوت مع التعجيل بالدفن، لكن دون إغفال ﺣﻘﻮق أﺳﺮة اﻟﻤﯿﺖ في إلقاء نظرة الوداع عليه من دون لمس الجثة أو تقبيلها، كما ﯾﺠﺐ التعامل مع الأغراض الشخصية للمتوفى غير ذات قيمة ﺑﻮﺻﻔﮭﺎ نفايات ﺳﺮﯾﺮﯾﺔ واﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﮭﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺴﻠﯿﻢ وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻤﺘﻄﻠﺒﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﯿﺔ. تدابير تشمل كذلك تنظيف اﻷﺳﻄﺢ البيئية، اﻟﺘﻲ ﺗﻢ تجهيز اﻟﺠﺜﺔ ﻋﻠﯿﮭﺎ، ﺑﺎﻟﻤﺎء واﻟﺼﺎﺑﻮن أوﻻ أو ﺑﻤﺤﻠﻮل تنظيف ﺗﺠﺎري، وﺑﻌﺪ ذلك ﯾﻨﺒﻐﻲ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﻌﻘﻢ يحتوي ﻋﻠﻰ هﯿﺒﻮﻛﻠﻮرﯾﺖ اﻟﺼﻮدﯾﻮم (ﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﺒﯿﯿﺾ) ﺑﺘﺮﻛﯿﺰ 0.1 ﻓﻲ اﻟﻤﺋﺔ ﻛﺤﺪّ أدﻧﻰ، أو ﻣﺴﺢ اﻟﺴﻄﺢ بالإيثانول ﺑﺘﺮﻛﯿﺰ 70 ﻓﻲ اﻟﻤﺋﺔ وﺗﺮﻛﮫ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻄﺢ ﻟﻤﺪة دقيقة ﻋﻠﻰ اﻷﻗﻞ. أما فيما يخص مساهمة الطب الشرعي في نشر التراكم المعرفي حول فيروس كورونا المستجد فإن ذلك يتم أساسا عبر التشريح الطبي لجثث المتوفين بهذا الداء، إلا أن ذلك يتطلب غرف تشريح تتوفر على ﺘﮭﻮﯾﺔ ﻛﺎﻓﯿﺔ ﺑﻤﻌﺪل ﻟﺘﺪﻓﻖ الهواء ﻻ ﯾﻘﻞ ﻋﻦ 160 ﻟﺘﺮا في الثانية، أو ﻓﻲ ﻏﺮف ﻋﺰل ﺳﺎﻟﺒﺔ اﻟﻀﻐﻂ ﯾﺘﺠﺪد ﻓﯿﮭﺎ الهواء 12 ﻣﺮة ﻓﻲ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻋﻠﻰ اﻷﻗﻞ، وﯾﺘﻢ اﻟﺘﺤﻜﻢ ﻓﻲ اﺗﺠﺎه تدفقه ﻋﻨﺪ اﺳﺘﺨﺪام التهوية اﻟﻤﯿﻜﺎﻧﯿﻜﯿﺔ. هذه المواصفات لا تتوفر حاليا في مستودعات الأموات التابعة للمستشفيات، لذلك أوصت الجمعية المغربية للطب الشرعي بعدم اللجوء إلى التشريح في حالات الوفيات غير الطبيعية إلا في حالات الضرورة القصوى وبتنسيق مع النيابة العامة. o هل يتم دفن ضحايا “كوفيد 19” في مقابر خاصة أم بجوار جثامين أخرى؟ n دفن جثث ضحايا فيروس كوفيد 19 يتم بطريقة عادية، لأن هذه الجثث لا تصبح معدية بعد دفنها، وليست هناك أية توصية من منظمة الصحة العالمية لدفن الجثث بطريقة مختلفة عما هو جاري به العمل، بل إن خطر الإصابة الوحيد هو انتقال العدوى بين من يعملون على تحضير إجراءات الدفن إذا كان من بينهم مصاب بالفيروس، لذلك فإن المخالطين للضحية قبل وفاتها وجب عليهم الالتزام بإجراءات العزل ولا يحضرون مراسم تشييع الجنازة، التي يجب أن تقتصر في كل الأحوال على فرد واحد أو اثنين على الأكثر. o في الطب يُطرح الجانب المتعلق بالأخلاقيات المرتبطة بالممارسات الطبية سواء فيما يتعلق باختيار الطبيب المعالج أو الدواء المعالج به وغيرهما، فكيف يتم تدبير هذا الشق في زمن هذه الجائحة الوبائية؟ n إن الجوانب الأخلاقية التي تحكم علاقة الطبيب بمريضه تكون بالفعل على المحك في حالة حدوث وباء عالمي، إذ أنه يجب التوفيق بين حرّية المريض في اتخاذ القرارات المتعلقة بصحته وضرورة المحافظة على الصحة العامة، لذلك فإن كل التشريعات المقارنة تحدّ من حرية المريض فيما يخصّ خضوعه للعلاج من عدمه بل وحتى في تحديد مساره العلاجي. ويجيز القانون الخاص بحالة الطوارئ الصحية للسلطات المختصة عندنا، اتخاذ أي قرار بالعزل الصحي أو الاستشفاء داخل أي مؤسسة صحية تابعة للقطاع العام أو حتى الخاص، إذا ما كان هناك بروتوكول تعاون للوحدة الطبية الخاصة مع السلطات الصحية في هذا الصدد. ويبقى في بعض الأحيان لدى المصاب بعض الهامش بين اختيار وحدة استشفائية عمومية أو خاصة إذا ما كان الاستشفاء في هذه الأخيرة متاحا، وإن لم يكن ذلك ممكنا فإن السلطات الصحية هي من تحدّد مكان العزل أو الاستشفاء بما يقتضيه حسن تدبير الجائحة. o في ظل الأوضاع الحالية، كيف يتم التعامل مع ضحايا العنف ومع الجثث المشكوك في وفاة صاحبها؟ n لقد لاحظنا في العيادة الطبية الشرعية تراجعا مهما في حالات العنف الوافدة علينا للحصول على الشواهد الطبية الشرعية، هذا الانخفاض الذي همّ كذلك ضحايا حوادث السير وحوادث الشغل ناتج عن الحجر الصحي الذي أدى إلى تقلص حركة السير وتوقف أو نقصان النشاطات المهنية بصفة عامة. لقد ساهم الحجر الصحي في نقص الاختلاط بين الناس وتوقف الأنشطة الليلية المصاحبة بالاستهلاك المفرط للكحول وهي من أهم العوامل التي كانت تؤدي إلى العنف. أما فيما يخص العنف الزوجي أو المنزلي، فإن كانت التقديرات ترجّح ارتفاع معدلاته مع إجبارية تساكن أفراد العائلة الواحدة تحت سقف واحد خلال الحجر الصحي، فإننا سجلنا تراجعا مهما في عدد النساء والأطفال ضحايا العنف الذين تم استقبالهم بالوحدة المندمجة للتكفل بالنساء والأطفال ضحايا العنف بالمركز الإستشفائي ابن رشد، إلا أنه لا يمكننا الجزم بتراجع حالات العنف الزوجي أو الموجّه نحو النساء بصفة عامة، إذ قد يكون الحجر الصحي في حدّ ذاته، والذي يجعل الضحية تحت مراقبة دائمة للمعتدي كما يصعّب أمر تنقلها خارج البيت، أحد الأسباب التي تعيق ولوج ضحايا الاعتداءات المنزلية إلى الخدمات الطبية الشرعية، إضافة إلى الخوف من ولوج المؤسسات الإستشفائية المستقبلة لمرضى كوفيد 19، لهذا فأنا أنصح ضحايا العنف المنزلي بعدم التواني في طلب المساعدة والإرشاد من جمعيات المجتمع المدني العاملة في مجال مناهضة العنف ضد النساء والأطفال، التي دائما ما تربطها شراكات مع الوحدات الإستشفائية المندمجة للتكفل بالنساء والأطفال ضحايا العنف. كما أنصح الضحايا بتوثيق الإصابات الناجمة عن العنف عبر أخذ صور فوتوغرافية وتصوير فيديو لها إذا ما تعذر عليهن الحصول على خدمات طبية شرعية في آجال قريبة، وإذا ما كان هناك أي خطر محقق فلا يجب التردد في طلب تدخل المحيط والسلطات الأمنية. أما بالنسبة للوفيات المشكوك فيها، فإن معرفة سببها والطبيعة الطبية الشرعية، لها يبقى الهاجس الأكبر للطبيب الشرعي ويتقدم على غيره من المخاطر، فإذا توفرت لنا معطيات تجعل إصابة المتوفى بفيروس كورونا المستجد محتملة لأنه يستجيب لمعايير الحالة المحتملة إصابتها بمرض كوفيد 19 حسب توجيهات وزارة الصحة الصادرة في 24 مارس 2020، فإننا نقوم بإبلاغ السلطات الصحية المختصة بغرض القيام بأخذ عينة من داخل الحلق عبر الأنف كما أشرت سالفا، وفي حالة سلبية التحليل، يتم التعامل مع الجثة كما في الحالات العادية. أما في حالة تحليل إيجابي، ولم تكن هناك أية شكوك أخرى وراء الوفاة، تعتبر الوفاة طبيعية وتنسب عند تحرير شهادة الوفاة إلى مرض كوفيد 19، في حين إذا كانت الوفاة ناتجة عن عنف أو تحيط بها شكوك أخرى، فإنه يتم التنسيق مع النيابة العامة المختصة لتحديد ما إذا كانت هناك ضرورة ملحة لإجراء التشريح.