نستعمل كلمة السماء، هنا، بمعنى مصدر الوحي ومصدر الرحمة («ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، حديث) ومصدر الحياة والنعم («... نزَّلنا عليهم بركات من السماء...»، أي المطر الناتج عن السحاب)... من جهة؛ وبمعنى العلو المطلق؛ أي علو الله سبحانه وتعالى، من جهة أخرى. فالسماء تعني، إذن، الربوبية والألوهية وما يرتبط بهما من توحيد وتفرُّد. أما السياسة، فهي تعني تدبير شؤون الدولة والمجتمع عن طريق ممارسة السلطة؛ وهذا المفهوم للسياسة يقتضي، في الدول الديمقراطية أو التي في طور البناء الديمقراطي، وجود سلطة رقابية (أو مضادة)، تمارسها المعارضة، سواء كانت مؤسساتية (برلمان، أحزاب، نقابات...) أو مجتمعية (مجتمع مدني، صحافة، حركات جماهيرية تتخذ من الفضاء العمومي مجالا لتبليغ رسائلها الاحتجاجية أو المطلبية...). وبمعنى آخر، فالسياسة تعني إما النضال من أجل قضية أو ممارسة فن الإدارة. وبهذا المعنى، فهي بعيدة كل البعد عن الطهرانية والقداسة...وغيرهما من القيم الروحية. وقد يتساءل القارئ، بعد هذا التعريف المقتضب لكلمتي «السماء والسياسة»، عن الداعي للربط بينهما وجعلهما عنوانا لمقالة رأي. كما قد يرى البعض في هذا الربط نوعا من التعسف لكون الكلمتين تحيلان على مجالين بعيدين عن بعضهما البعض بعد السماء (السماء، هنا، بمعنى العلو والارتفاع عن سطح الأرض ) عن الأرض. وسأحاول أن أبين سبب هذا الربط ودواعيه في السطور الموالية. لكن قبل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن عطف كلمة السياسة على كلمة السماء لا يعني التطابق؛ بل، يعني التقابل؛ أي الجمع بين الشيء وضده. فالسياسة، في هذه الحالة، تتناقض ومفهوم السماء الذي أوردناه أعلاه. ذلك أن مجال السياسة لا علاقة له بالتوحيد والعقيدة والعبادات التي هي من صميم العلاقة بين العبد وربه؛ وإنما مجالها هو تدبير الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها والاهتمام بمصالح الناس، بما فيها المرافق الضرورية لممارسة الشعائر الدينية. لكن تسييس الدين بإخضاعه للمواقف السياسية والمصالح الحزبية الضيقة وتديين السياسة بإخضاعها للهوية العقدية ولتوجهات الأذرع الدعوية...، أنتج ما أسماه الأستاذ «مصطفى المتوكل» «أئمة الضلال في السياسة والدين.. « («الاتحاد الاشتراكي»، 13 فبراير 2015). وعلى أي، فهدفي، من هذا المقال، ليس هو الخوض في علاقة السياسة بالدين (أو الدين بالسياسة)؛ بل أود فقط تقديم قراءة شخصية وخاصة للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا على ضوء بعض المعطيات الطبيعية والمستجدات الطاقية. يعتقد بعض البسطاء من الناس أن ل»بنكيران» كرامات وحظوة ربانية. ويكفي أن تخالط بعض هؤلاء لتفهم لماذا يعمل البعض على استدامة الجهل وغياب الوعي وترويج الخرافة، الخ. والاعتقاد في «كرامات» «بنكيران» مبعثه تواري شبح الجفاف وتراجع أسعار النفط في عهد هذه الحكومة... ولا شك أن أنصار حزب العدالة والتنمية و»جيشه الإعلامي» قد بدأوا يفكرون (وربما قد شرعوا في التنفيذ) في استغلال هبات السماء بجعلها من كرامات «الولي الصالح» الشيخ «بنكيران» ومن أفضاله على البلاد والعباد. وهذا ليس لا مستبعدا ولا مستغربا من الذين يوظفون الدين في السياسة ويستغلون الجهل والأمية والفقر لكسب أصوات الناخبين البسطاء الذين يسهل تضليلهم بالشعرات ودغدغة عواطفهم بما يتصل بالمعتقدات والمقدسات. ومن خارج الأنصار والأتباع، هناك (حتى من الخاصة) من يرى أن هذه الحكومة محظوظة، مقارنة، مثلا، مع حكومة التناوب التوافقي التي كان عليها أن تواجه معضلة الجفاف وآثاره الاقتصادية والاجتماعية؛ فالأمطار أعفت حكومة العدالة والتنمية من مواجهة آثار الجفاف، وانخفاض سعر البترول مكنها من تخفيف الأعباء المالية التي تمثلها هذه المادة الحيوية سواء بالنسبة لميزانية الدولة أو بالنسبة للدورة الاقتصادية. وسواء تم الحديث عن الكرامات أو عن الحظ، فإن الأمر لا يخرج عن نطاق التفسير الغيبي لظاهرة الأمطار ولحدث تراجع أسعار النفط. وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا ننظر إليه من نفس الزاوية، لكن برؤية مغايرة وقراءة مختلفة؟ ومن هذا المنطلق، فإنه بالنظر إلى القرارات المجحفة التي تتخذها حكومة بنكيران والتي يتضرر منها، بالأساس، أصحاب الدخل المحدود والفئات الهشة في المجتمع(مع الملاحظة أنه، مع ذلك، يصفها أصحابها بالقرارات الشجاعة ويردد أنصار حزب العدالة والتنمية ذلك مثل الببغاء، بمناسبة أو بدونها)، فإنه لا يمكن إلا أن نرى في الأمطار وفي تراجع سعر النفط لطفا إلهيا بهذا الشعب الذي ابتلي بحكومة من أسوأ الحكومات التي عرفها المغرب. وهذه القراءة هي قراءة سياسية واقعية وإيمانية، مناقضة للقراءة الإسلاموية المستغلة للدين والمضللة للعقول البسيطة والساذجة...فالألطاف الإلهية لا يمكن أن تكون مع حكومة تقول ما لا تفعل (وهو مقت كبير عند الله) وتفعل ما لا تقول؛ وهو العمل على إرضاء المؤسسات المالية الدولية، ضدا على مصالح الفقراء والفئات الوسطى ذات الدخل المحدود؛ أي السواد الأعظم من مجتمعنا (وهو، أيضا، وزر وإثم مبين). فمن خلال استقراء بعض الوقائع التدبيرية والقرارات الحكومية المجحفة في حق ذوي الدخل المحدود، أرى في هطول الأمطار وانخفاض سعر البترول تدخلا ربانيا للتقليل من آثار هذه القرارات ولحماية هذا الشعب المسلم والمسالم من جور حكومته وتخبطها وضعفها. فالله سبحانه وتعالى يحب هذا الشعب؛ وللتخفيف من معاناته مع هذه الحكومة التي تعمل بعكس ما وعدت به وما تردده دون كلل ولا خجل، فقد أغدق على بلادنا الأمطار ليبعد على المغاربة شبح الجفاف المخيف؛ ومن لطفه على هذه الأمة أيضا، فقد يسر لها الاستفادة من تراجع أسعار النفط، لما لهذه المادة من آثار على ميزانية الدولة وعلى ميزانية الأسر؛ وإن كانت الحكومة قد جعلت استفادة الأسر ضئيلة جدا بسبب عدم تطبيق حقيقة الأسعار في تسويق هذه المادة وعدم حرصها على انعكاس التخفيض النسبي لسعر المواد البترولية على أسعار المواد الاستهلاكية الأخرى، بما فيها أسعار النقل. لقد خدع حزب العدالة والتنمية المواطنين بشعارات (من قبيل الإصلاح والتغيير وأساسا محاربة الفساد والريع، الخ ) وجدت صداها لدى الناخبين، خصوصا بعد الأمل في التغيير الذي أحدثه الحراك المغربي المتمثل في حركة 20 فبراير؛ ذلك الحراك الذي سرَّع عجلة الإصلاحات الدستورية. ورغم أن حزب العدالة والتنمية ناهض حركة 20 فبراير، فقد كان المستفيد الأكبر من نتائجها لكون الناخبين اغتروا بالشعارات التي رفعها وانخدعوا بالمرجعية الدينية التي يدعيها، فمنحوا له ثقتهم وبوؤوه الصدارة في المشهد السياسي المغربي.غير أننا سنقف على حقيقة زيف تلك الشعارات، بعد أن أصبحت الفئات العريضة من المواطنين تواجه وضعا أسوأ مما كانت عليه. فالإصلاح تحول إلى ما يشبه الإفساد والتغيير اقتصر على الإجهاز على المكتسبات، بما فيها المكتسبات الاجتماعية والحقوقية والثقافية والسياسية... فأصبح التغيير يعني النكوص مصحوبا بالحنين إلى الاستبداد؛ مما يشكل تهديدا حقيقيا لبنائنا الديمقراطي الفتي. أما شعار محاربة الفساد، فقد تحول إلى شعار «عفا الله عما سلف»؛ وبهذا، تم الإقرار بالعجز وإعلان الاستسلام أمام ظاهرة الفساد والإفساد. وقد كشف تقليص صلاحيات الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة الرغبة في التطبيع مع الفساد وليس محاربته. وغير خاف ما يشكله الفساد من عرقلة لنمو الاقتصاد الوطني وما يمثله من تشجيع لاستفحال ظاهرة الفقر والهشاشة، من جهة، وظاهرة الغنى الفاحش، من جهة أخرى. ومن لطف الله وفضله وإحسانه أنه لم يبخل على هذا الشعب بما ليس لهذه الحكومة دخل فيه، وهو الأمطار وانخفاض سعر النفط. فتخيلوا، لا قدر الله، لو لم تكن السنوات الفلاحية جيدة واستمرت أسعار البترول في التصاعد لتصل إلى مائتي دولار أو أكثر للبرميل، كما كان متوقعا، ما ذا كان سيكون وضع هذا الشعب المسكين مع هذه الحكومة التي لا تعرف إلا الاستقواء على الضعفاء بإثقال كاهلهم بالزيادات المتتالية في الأسعار ورهن مستقبل الأجيال القادمة بإغراق البلاد في الديون الخارجية ...؟ ويحضرني، هنا، السياق الذي جاءت فيه حكومة بنكيران (دستور جديد، بعد الحراك الديمقراطي، بصلاحيات واسعة لرئيس الحكومة...) والسياق الذي جاءت فيه حكومة التناوب التوافقي (السكتة القلبية التي كانت تهدد البلاد ودستور 1996 ذو الصلاحيات المحدودة جدا بالنسبة للوزير الأول) بقيادة المجاهد «عبد الرحمان اليوسفي» (الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي آنذاك)، أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية. وشتان بين السياقين والرجلين !! ففي الوقت الذي انصرف فيه اليوسفي مع فريقه الحكومي إلى العمل في صمت (رغم أنه كان يقود ائتلافا حكوميا من سبعة أحزاب) من أجل إخراج البلاد من الوضعية المتأزمة التي كانت توجد عليها، حيث تم فتح أوراش مهيكِلة كبرى لا زال المغرب يعيش عليها وعلى مردوديتها إلى اليوم، شغل بنكيران نفسه بالخصومات التافهة وبالسجالات الفارغة والمعارك «الدونكيشوطية»، مقحما فيها التماسيح والعفاريت والشياطين... ولغة الشارع؛ إذ نزل بالخطاب السياسي إلى درجة الصفر، شكلا ومضمونا؛ بالإضافة إلى العمل على إفراغ الدستور الجديد من محتواه؛ كما دشن، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، سلسلة من التراجعات على المكتسبات التي تطلبت من الشعب المغربي وقواه الديمقراطية تضحيات جسام خلال سنوات الجمر والرصاص. ليس الهدف، هنا، القيام بمقارنة بين حكومة بنكيران وحكومة اليوسفي ؛ فهذا أمر قد تطرقت إليه، منذ ما يزيد عن سنة، في مقال بعنوان « بين حكومة «اليوسفي» وحكومة «بنكيران»: هل يستوي الذين ... والذين ...؟ لذا سأكتفي بتعامل الرجلين مع عاملين طبيعيين يهمان «السماء والسياسة»، موضوع هذا المقال، حتى يدرك القارئ الفرق بين من يمارس السياسة من أجل حل مشاكل الناس وخدمة مصالحهم وبين من يمارسها وعينه على أصواتهم الانتخابية في المقام الأول. لقد واجه «اليوسفي» شح الأمطار ببرنامج محاربة آثار الجفاف الذي استفاد منه العالم القروي وهوامش المدن، في حين واجه «بنكيران» الفيضانات التي ضربت هذه السنة أقاليمنا الجنوبية بلامبالاة غير مفهومة؛ مما يؤكد، مرة أخرى، أنه يفتقر إلى صفات رجل دولة. ففي الوقت الذي كان عليه أن ينتقل إلى عين المكان كتعبير عن تضامنه مع المناطق المنكوبة وكحضور رمزي في عملية الإنقاذ، فضل الانتقال إلى الشمال لترأس تجمع حزبي؛ وكأن ما وقع في أقاليمنا الجنوبية من فيضانات غير مسبوقة وخسائر فادحة في الأرواح والبنيات الأساسية، لا يعنيه في شيء. وهو، على كل حال، سلوك مستهجن، سياسيا وأخلاقيا واجتماعيا... ومع ذلك، سوف لن يجد «بنكيران» وأعضاء حزبه أي حرج في تبخيس عمل الذين سبقوه. وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي «نجحوا» فيه. فحتى وهم يفسدون ما بناه غيرهم، فإنهم لا يتورعون عن تسمية ذلك بالإصلاحات الكبرى. وهكذا، فبدعوى الإصلاح، رفعت هذه الحكومة الدعم عن المواد التي كان يدعمها صندوق المقاصة دون التفكير في الآثار الاجتماعية الوخيمة لهذا القرار ودون إيجاد بديل لهذا الصندوق الذي أحدث من أجل الحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلكين، وذلك بضمان استقرار أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية. صحيح أن صندوق المقاصة يحتاج إلى إصلاح؛ لكن الإصلاح لا يعني الإعدام. فإعدام هذا الصندوق لا يعني سوى شيء واحد؛ هو أن الحكومة عاجزة عن الإبداع وتلجأ إلى الحلول السهلة دون اكتراث بالفاتورة الاجتماعية الثقيلة لقراراتها غير المحسوبة العواقب. خلاصة القول، ما تسميه حكومة بنكيران بالإصلاح يعود بالضرر على الفئات الفقيرة ومتوسطي الحال الذين يشكلون الأغلبية العظمى في مجتمعنا؛ وبالتالي، فهو ظلم وجور في حق هؤلاء. وبما أن الإسلام يحرم الظلم، فقد وقعت الحكومة التي يرأسها ملتحي في المحظور وأتت أفعالا تنافى ومقاصد الإسلام. وبما أن حزب العدالة والتنمية يدعي المرجعية الإسلامية، فالأمر لا يخلو من إشكال واستغراب. لكن هذا الاستغراب يزول حين نعلم أن الدين عند الأحزاب الإسلامية ليس إلا وسيلة للوصول إلى السلطة بأيسر السبل وأقصرها. ولهذا، فهي تستغل الدين سياسيا، دون مراعاة لحرمته وقدسيته. وهذا هو الحال مع حكومة بنكيران وحزب العدالة والتنمية.