يبدو أن ما فعله هذا الكائن المجهري (كورونا المستجد) في العالم حتى الآن، لا يجب أن نستهين به أو نحشره في زاوية الوباء أو الجائحة التي أصابت العالم الذي سيتخلص منها أو ستقضي عليه وانتهى الأمر، أو نقلبه سخرية وتزجية للوقت كما فعلنا نحن المغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يكشر لنا عن أنيابه. بل لابد أن يعيدنا للتفكير بطريقة أفضل في الكثير من الأفكار التي لم ننتبه لها أو لم نعطها حقها، كأن نتمعن أكثر على ضوء هذه الجائحة في أهمية “عامل الفراشة” في الفيزياء المعاصرة وامتداده لاحقا إلى الفكر والعلوم الإنسانية، وأن نتخلص أيضا من رتابتنا الفكرية ووثوقيتنا الزائدة فنفكر بجدية أكثر في ‘اللامتوقع”، الذي هزم من خلال هذا المثال، مراكز البحوث المستقبلية وفاجأها هي أيضا. فمن كان يتوقع قبل شهر فقط أن مدن العالم ستتحول إلى مدن أشباح فارغة من الحياة وكأن الشمس لم تشرق..؟ ومن كان يتوقع أن تتوقف الطائرات والقطارات وتغلق المدارس والمطارات والموانئ، وتتوقف بطولات كرة القدم المجنونة..؟ من كان يتوقع أنه سيأتي يوم نقطع فيه مع الكثير من تقاليدنا ، فلا مقهى نحتسي فيه فنجان صباحنا، ولا جرائد نقلب صفحاتها بحثا عن الجديد ولا مساجد ولا كنائس ولا حانات… من كان يتوقع أننا سنضطر اضطرارا إلى أن نسجن أنفسنا وأسرنا في بيوتنا، ليس تنفيذا لحكم محكمة ولكن لأن هذا الفيروس/السراب يطاردنا..؟ من كان يتوقع..؟ ليس هذا مجرد تخييل روائي أو سينمائي، بل هو واقع نعيشه اليوم لحظة لحظة، ومن المؤكد أن الكثير من الثوابت واليقينيات والبديهيات، ستتعرض للمساءلة بشكل قاس ومثير، وليس مجرد وهم أن الكثير من الأوضاع والحقائق ستتعرض للانهيار والسقوط، ليجرفها نهرٌ من الأسئلة انطلق، ولا يبدو أن له نهاية.. فكيف لكائن مجهري مثل فيروس كورونا المستجد أن يربك حسابات وخطط وتقاليد أكبر القوى السائدة في العالم، ويكشف عن ضعف وهشاشة النظام الرأسمالي المتوحش الذي ما انفك يُسوِّقُ لعنجهيته وقوته الزائفة بينما هو الآن يتفكك في صمت؟ وكيف لنظام التفاهة هذا، بلغة ألان دونو، أن يسترد أنفاسه ويستثمر هذه التجربة لصالحه مستقبلا ضد إنسانية الإنسان؟ ثم كيف لهذه الطمأنينة والوثوقية التي استبدت وهيمنت على العديد من الأيديولوجيات والمنظومات الفكرية والممارسات السياسية والسلوكات الاجتماعية أن تستمر وقد زعزع أسسها وخلخل منطوقها ومسكوتها، كائن أصغر من أصغر حشرة فوق الأرض؟ وتبعا لذلك، كيف للكثير من المفاهيم والمصطلحات والقيم والتقاليد، أن تصمد أمام هذا القصف المتواصل في امتحان عسير، على الفكر النقدي أن يتصدى لمعالجة آثاره وامتداداتها في الفكر والحياة معا. هل يتعلق الأمر بتحقق نظرية ابن خلدون حول نشأة وتطور وانحطاط الحضارات، أم كارل ماركس الذي توعد الرأسمالية بالزوال، أم هي بداية نهاية العالم التي “بشرنا” بها قبل سنوات فوكوياما؟ وهل ستكون جائحة كورونا المستجد آخر مسمار في نعش الاتحاد الأوروبي بعد البريكسيت وخروج بريطانيا، وقد ترك عضوه إيطاليا تغرق لوحدها في الوباء، بينما ظل الحلفاء، في الاتحاد وحتى في الحلف الأطلسي، يتفرجون على سقوطها الكوروني إلى أن سقطوا في نفس الفخ وهاهم يعانون من نفس السقوط؟ تتداعى الأسئلة في نهر جارف لا يتوقف كلما زاد انتشار الفيروس وزاد عدد ضحاياه، لأننا نعيش بكل تأكيد زمنا تاريخيا فارقا، لا تسعفنا في تفكيكه واستيعاب امتداداته وتحولاته كل الترسانة الفكرية والمفاهيمية التي راكمتها الإنسانية عبر العصور، ما لم نتسلح بالكثير من الجرأة النقدية والمعرفية على حد سواء.