(هل أنت هنا؟) وهو يكتب الجملة، سمعها آتية من المطبخ. توقف عن الكتابة مندهشا وأسرع الى زوجته في المطبخ: هل قلت شيئا حبيبتي؟ نعم سلت إن كنتَ هنا. بالطبع أنا هنا. أين أكون؟ -ظننت أنك قد تكون خرجتَ. ورجع الى المكتب، وتابع الكتابة: (هل أنت هنا؟ -لا لست هنا. أنا هناك -عفوا. حسبتك هنا….) كان ينقل إلى الورق ما يعيشه في الواقع، مع بعض التغييرات الضرورية للبناء الفني. اكتشف مع الوقت أنه يحلم وهو يكتب. يغير في واقعه بما يجعله أجمل…أحلى..أو حتى أسوأ، لأنه قد حلم بالأسوأ أحيانا، ولأن واقعه قد يحلو بالأسوأ أحيانا. (الشجرة تترنح) أية شجرة هذه التي تترنح؟ من هناك؟ أسرع إلى المطبخ: هل قلتِ شيئا حبيبتي؟ لا، لم أقل شيئا. خيل لي أنني أسمع صوتا. الجيران ربما. ورجع إلى المكتب، فسمع مرة أخرى: (الشجرة تترنح) عليه أن يُدخل هذا الصوتَ في القصة التي يكتبها ليُخمده. يضعه في آخر القصة؟ سيبدو طافيا على السطح كإصبع زائدة. ينبغي أن يجعله في أول القصة. وربما خلالها أيضا. على هذه الشجرة أن تتحرك قبل أن تترنح. عليها أن تصادق كل أشخاص القصة. أن تتجاوب معهم، وتصبح جزءا من هويتهم. هل يجعلها تترنح؟ ولماذا تترنح؟ لأنها في مهب الريح؟ تتمايل إذن. في الترنح نوع من التداعي. المترنح آيل الى السقوط. في مهب العاصفة؟ ربما. أو تحت فأس الحطاب؟ ربما. ربما زلزال؟ ربما. ولكنها تترنح على أية حال. هل قلتُ إنها إحدى شخصيات القصة؟ كلا. لابد أن تكون هي الشخصية الرئيسية. (الشجرة تترنح). تتبعتُ الصوت حتى مصدره في الخارج. وجدت على الرصيف شجرة غريبة…هي صفصافة، ولكنها ليست طويلة نحيلة مجردة كالصفصاف الأخضر، بل واسعة متشعبة الأغصان. وأوراقها بلونين: ظهر أخضر داكن الخضرة وبطن أبيض. لكنها ساكنة. لا ريح تحرك أوراقها ولا صوت يصدر عنها. قلت لها: هل أنت التي تترنحين؟ لم تجبني. جلست على إفريز دكان أمامها وأخذت أحدثها: هل تعرفين؟ كانت لي، وأنا طفل، شجرة مثلك. أعني مثلك شجرة، لكنها ليست من نوعك. كانت شجرة بلوط. كنت إذهب إليها حين أكون وحيدا، وأحادثها مثلما أحادثك الآن. هل تعرفين؟ كان لها أطفال صغار جدا. ولهم طرابيش. كانوا يتساقطون من أغصانها في حجري ويلعبون معي. كنت أسميها (الكريشة). وكانت تبتسم لي وتحدثني عن الآفاق البعيدة التي تنظر إليها من فوقي… وعن الغيوم والرياح.. وعن الشمس والبيت الذي تدخله وتنام فيه حين تغيب. كانت شجرة حكيمة ومرحة معي. لم أكن أعتبرها أما أو جدة أو زوجة أب. كنت أعتبرها صديقتي. وحين أمضغ ورقة من أوراقها، وأنا شارد أحلم ببيت الشمس، لم أكن أشعر بأطراف الورقة الشائكة ولا بمرارة طعمها.. كأني كنت أمضغ الغيوم والرياح، وآكل مع الشمس عشاءها. كنت أجلس في ظل الكريشة المطرز بالشمس، عرضة لنسيمها الغربي المنعش… وأجدني فجاة، وأنا في حضن الكريشة، داخل حلم لا ينتهي. رفعت رأسي وانتبهت لما حولي، فوجدت الصفصافة بجانبي، منحنية علي، كأنها تسمع حكايتي. ابتسمت لها، وأخذت ورقة من أوراقها، وبدأت أمضغها وأنا شارد أحلم: رأيتُني تلميذا في القسم، مع عدد من التلاميذ الأشجار. وكانت معلمتنا غيمة، وتدرسنا النحو. تقول لنا( ضرب زيد عمْرا) فنقول جميعا: (باس زيد هندا). تضحك الغيمة وتنفجر رذاذا يغمرنا. ننفض أوراقنا الخضراء ونمشطها ونحن نقول: ( باست هند زيدا) فتضحك الأستاذة الغيمة وتنفجر» كراميل». نتقاسم الكراميل، ونعطي منه لزيد ولهند. ونرسل بالإشارات قبلا طائرة لمعلمتنا العليا. (الشجرة تترنح). سمعت الصوت فانتبهتُ ورأيت الصفصافة تترنح فعلا. أرعت إليها وعانقت جذعها غليظ القشرة واسع المحيط. كنت أحاول أن أثبتها، لكني فشلت. يا إلهي.. كنت أظن أنني أكتب ما أعيشه، فإذا بي أعيش ما أكتبه. والشجرة تتفتح لي وتحتويني. الشجرة تَلْقَح بي. وأنا أتشجر.. أتفتح..أنا أترنح. من مجموعته الجديدة «إني رأيتكما معا»