الروائي التشيكي الأصل ميلان كونديرا لايطيق الروسي فيدور دستويفسكي ويتهم أفكاره بأنها احد العوامل التي أسهمت في وقوع الغزو السوفياتي لبلاده عام 1968م في أعقاب ما عُرف بربيع براغ. وقد اتهم كونديرا الروس،ودستويفسكي على وجه الخصوص، بالعيش بعقلية القرون الوسطي وبتغليب المشاعر على العقل يقول كونديرا : لايمكن أن يعيش الإنسان بلا مشاعر. لكن في اللحظة التي تتحوّل فيها تلك المشاعر إلى قيم ومعايير للحقيقة وتبريرات للسلوك المنحرف فإنها تصبح مخيفة. وعندما تحلّ المشاعر محلّ التفكير العقلاني فإنها تصبح أساسا للتعصّب وغياب الفهم .ويضيف كونديرا: « إن ما أزعجني في أمر ذلك الكاتب المثير للحيرة «فيدور دستويفسكي» هو أجواء رواياته التي يتحوّل فيها كلّ شيء إلي مشاعر، ثم لا تلبث تلك المشاعر أن تُرفع إلى مستوى القيم والحقائق ربما كانت دوافع سياسية أو وطنية خلف موقف ميلان كونديرا، لكن الروائي فلاديمير نابوكوف ( لوليتا ) وصف دستويفسكي ذات مرّة بأنه « كاتب يتمرّغ في وحل مغامرات مأساوية تحطّ بالكرامة الإنسانية «. ويقول في معرض حديثه عن رواية دستويفسكي « رسائل من العالم السفلي « ، إن هدف الكاتب من هذه الرواية هو إظهار أن كلّ إنسان هو مجرّد زبالة، وأنه لن يصبح في أيّ وقت إنسانا ،ما لم يقتنع بالفعل انه زبالة . Trash ) ( في هذه الرواية يأخذ دستويفسكي بطله إلي أدني درجات الانحطاط والحقارة - في رأي نابكوف - فقط كي يقوده بعد ذلك إلي الإيمان والخلاص «. من وجهة نظر مسيحية بحتة، ليس هناك ثمّة حرج في هذا. ولكن من الصعب بالنسبة للقارئ الذي لا يشارك دستويفسكي قناعاته المسيحية أن يري الأمر بهذه الطريقة،أما الكاتب الكبير تورغينيف فقد وصف دستويفسكي بأنه أكثر المسيحيين الذين قابلهم في حياته ميلاً للشرّ «. الذين يقدّرون موهبة دستويفسكي وصفوه بأنه كان من أكثر الأدباء الروس أصالة، ووصفه آخرون ببطل المضطهدين . كما حظيت أعماله بثناء نخبة مثقّفي القرن العشرين أمثال هيرمان هيسه وتوماس مان وفرانز كافكا ومارسيل بروست واندريه جيد وغيرهم، نصوص دستويفسكي تتضمّن مستويات دلالية عديدة . كما أن مستوي سرده،المتعدّد الوجوه هو الآخر،دائما ما يترافق مع حديثه عن الأخلاق أو السياسة . في « الإخوة كارامازوف « مثلا، يتناول إشكالية تناقض العدالة البشرية مع العدالة الإلهية .وفي « الممسوسون « ،يخبّئ رسالة رمزية علي هيئة نبوءة بحدوث ثورة في روسيا .وفي « الجريمة والعقاب « ، يثير فكرة القيامة بطريقة ميتافيزيقية . كان دستويفسكي ولايزال رغم غيابه ،كاتبا مثيرا للجدل، كما هو شأن كلّ الكتّاب العظام . والغريب انه لم يتمتّع بالكثير من إعجاب النقّاد وإشاداتهم بأعماله « أثناء حياته « كما لم تنشر الصحف مراجعات نقدية لرواياته إلا بالكاد ، وبعض من انتقدوا كتاباته، عابوا عليها افتقارها للجمال، وكان ردّ دستويفسكي علي ذلك انه كثيرا ما كان يكتب علي عجل أو تحت ضغط الحاجة ، وأنه كان يفتقر للوقت الكافي لتجويد الكتابة . وقد استغلّت أجيال من النقّاد هذه الجزئية بالذات للنيل من الكاتب قائلين إن جميع شخصيّات دستويفسكي تتحدّث مثل المؤلّف . بعض النقّاد يرون في حبكات روايات ديستوفيسكي قدرا هائلا من الفوضي، بينما يجدها آخرون مرعبة وتهدف للتأثير الرخيص علي القارئ ، وهناك من الكتّاب من وجدوا تحليلات دستويفسكي السيكولوجية مفرطة وثرثارة ،وشخصيّاته غير واقعية، بل مفتعلة .غير أن النقد الأكثر حدّة كان موجّها إلي امكانياته الفنّية . فقد قيل أن أسلوبه يميل الي الإسهاب والتكرار، أسلوب مصطنع أكثر من اللازم ويعوزه دائما اعادة الصقل والصياغة وهناك من ذهبوا إلي أن أعمال دستويفسكي تتضمّن عيوبا أخلاقية فادحة . فيها تشاؤما وهيستيريا وقدرا غير قليل من الطبيعة المهووسة.وأخذ عليه آخرون افتتانه بأشد حالات الإنسان تطرّفا . كما عابوا عليه التملّق والنفاق اللذين أظهرهما عندما قدّم المسيحية الأرثوذكسية في رواياته بصورة وردية.باختصار كما وصفة احد النقّاد : دستويفسكي كالقنفذ، يتناول فنّه قضيّة واحدة،وليس كالثعلب يمتلك عدّة كاملة من الألاعيب والحيَل . كانت حياة دستويفسكي مليئة بالخيبات والآلام والهزائم . فقد تحمّل ديون شقيقه المتوفّي ولجأ إلي القمار كمخرج من مشاكله المالية . كان أباً لثلاثة أطفال، ابنتان وولد .إحدي الابنتين توفّيت وهي صغيرة . والأخري أصيبت بانهيار عصبيّ لم تُشفَ منه أبدا . بينما توفّي ولده الوحيد بالحمّي دستويفسكي نفسه كان يعاني من نوبات الصرع المستمرّة التي أفسدت حياته . وقد كتب عنها كثيرا في أعماله . والده كان رجلا فاسقا وقاسيا . وقد قُتل هذا الأب في النهاية علي أيدي بعض من خدمه الذين كان يسيء معاملتهم . لم يكن دستويفسكي سعيدا . ولا موفقا في زواجه ، وقد وصف علاقته بزوجته آنذاك بقوله : كنّا تعيسين معا . لكن لم نستطع أن نتوقّف عن حبّ بعضنا البعض . وكلّما ازدادت تعاستنا كلّما أصبح كلّ منّا أكثر ارتباطا بالآخر «!! . كان دستويفسكي بارعا في لعب دور محامي الشيطان . ورواياته تتضمّن، برأي مخالفيه، فلسفات ومنظومات قيم عدائية .كما انه يقدّم شخصيّاته السلبية والشرّيرة بتعاطف مساوٍ لتعاطفه مع أبطاله المأساويين . آراء دستويفسكي السياسية والاجتماعية كانت، غالبا، متطرّفة . كان، مثلا، يعتقد أن أوربّا الغربية علي وشك الانهيار، وأن روسيا والكنيسة الارثوذكسية « التي لا يعيش المسيح خارجها « سيؤسّسان مملكة الربّ علي الأرض «. ومما يؤخذ علي دستويفسكي أيضا رفضه للعقلانية الأخلاقية والذي يتردّد صداه في العديد من رواياته . فهويري أن النعمة التي تصيب الفئات التي تقف مع الله، كالقدّيسين والبسطاء والخاطئين الصغار، ليست بسبب أعمالهم الصالحة أو ثمرة لكفاحهم، وإنما هي، وبشكل مطلق، بسبب قبولهم الذي لا نقاش فيه لأبوّة الله . غير أن هناك من يري أن فلسفة دستويفسكي الدينية تتناغم مع المعتقدات الأرثوذكسية التي كانت سائدة في عصره، بل وحتي مع بعض أفكار المثالية الرومانسية . ويري هؤلاء أن رفض مثل هذه الأفكار اليوم لا يجب أن يمنعنا من تقديرعبقرية الرجل والإقرار بمكانته الكبيرة قد لا تكون الكلمة الأخيرة عن دستويفسكي، النبيّ والمفكّر الديني، قد قيلت حتى الآن . لقد كان تحليله للعقلية التي تسبّبت في الثورة الروسية صحيحا وعميقا.لكنّه كان مخطئا في افتراضه أن الروحانية الروسية ستنتصرعلى ما اسماه « شياطين العدمية والنزعة الإنسانية الملحدة «. منذ بداية خمسينات القرن ما قبل الماضي، كان دستويفسكي يتمتّع بسمعة طيّبة باعتباره ضليعا في علم النفس . غير أن بعض تنظيراته السيكولوجية في ذلك الحين بدت لبعض الناس مفرطة وشاطحة . وكان هذا الانتقاد يُسمع بشكل متكرّر. وقد قيل إن شخصيّاته الممزّقة والسقيمة والهشّة لم تكن تمثل المجتمع الروسي، بل كانت « مجرّد إسقاطات لعقل كاتب مريض «. لكنْ ممّا لا شكّ فيه أن دستويفسكي كان يتمتّع بفهم عميق للبشر عندما يقعون تحت ظروف الضغط الكبير الناجم عن المعاناة والإحباط والرفض واليأس . كان يدرك، ربّما أفضل من معظم الناس، طبيعة الحالات النفسية التي يفرزها الفقر والإذلال والاستياء والغيرة والسخرية والقسوة وفقدان الكرامة . هل كانت وجهة نظره عن الرجال والنساء الروس في عصره متوازنة؟ هذه مسألة مختلفة.ومع ذلك، فالتفوّق في علم النفس ليس معيارا صالحا لقياس عظمة دستويفسكي .هو نفسه كان يتحدّث باستخفاف عن « علمية « النظريات السيكولوجية . بعض النقّاد يتهمّون دستويفسكي بأنه كان يخلق قصصه السيكولوجية في فراغ ويتجاهل منحها خلفية طبيعية واجتماعية . لكنّ هذه التهمة تبدو بلا أساس . فالقارئ المدقّق سيكتشف أن كلّ مشهد في رواية من رواياته يُقدّم بتفاصيل وفيرة ومختارة بعناية . وهذه التفاصيل تقوم بوظيفة المكان الذي تجري عليه الأحداث . وهناك من يشير إلى أن التفاصيل الدنيوية، كالملابس والطعام والشراب والأرض والمدينة، مفقودة من روايات دستويفسكي .وهذا قد يكون مجحفا . فهناك مادّة وفيرة بما يكفي لكتابة دراسة متكاملة عن الطعام والشراب في « الإخوة كارامازوف « ، أوعن تضاريس وطبيعة سانت بطرسبيرج في « الجريمة والعقاب «. على المستوى الشخصي، يمكن القول إن شخصيّة دستويفسكي نفسها تحمل سمات وخصائص بعض أبطاله . قال عنه احد أصدقائه مرّة : لا أعتبر دستويفسكي إنسانا طيّبا أو سعيدا . لقد كان شرّيرا وحسودا قضي حياته كلّها منفعلا ومتوتّرا «.