هل كان علي أن أذهب إلى المقبرة، وأن أبحث بين حجر وشاهدة عن مفازة عشب أؤلف بها فقرة حب في رثائك؟ وهل ستتسع العبارة لتشمل كل الذين يحجون إليك؟ كيف لي أن أصقل العبارة، وفي شهر فبراير يمشي الدم طازجا فوق التراب الطازج من نفسك الاخير؟ لي جواب آخر لك. لست أدري لماذا لا نجيد فهم بعضنا في الحياة، ثم فجأة تجعلنا الموت أشقاء الأرض وتوائم ذئبة الإيديولوجيا التي أسست روما الفاضلة في خيالنا. أعرف فقط أنني أحببتك، بكل ما فيك من إزعاج،، وما فيك من قوة اللسان، وبما فيك أيضا من تراب قريب قريب من قلبي. كنا نوزعك دوما في القلب أنت وعمر. هذا يليق بالموت، وهذا يليق بالصمود الأسطوري. هذا سيزعجهم بالموت، وهذا سيزعجهم بالحياة.. هكذا كنا نوزع القلب، مثل غيمة شاردة، بين شقيقين، ونحن نصدر من جهة الشرق البعيد إلى قمة العزلة، في نيتنا الطيبة وفي قدرتهم على خداعنا.. من طباشير الثلج إلى وجدة المجيدة.. التي يبدو السحاب فيها فاكهة الأرض قبل أن تلتقطه أمه السماء. لم أحضر جنازتك أخى، كما لو أنك أعفيتنا بطيبوبتك من زحام الوقت، من أن أمشي مثل حظ بطيء بين القبور وبين البحر ? الشاهدة، أو أعفيتني من لحظة يفضح القلب فيها هويته العميقة. أنا من هناك، أنا عاصمة الألم والجليد والشموس الباردة، يليق بي الغياب عندما يحضر حزنك.. يليق بك الرحيل عندما يكثر الغياب في الفكرة، وفي القيمة وفي الأرواح الطريدة، رغم أن الوقت في حاجة ماسة الآن إلى كلمات مثل المودة، والحب والإخلاص والشجاعة، فإن الظلال، يا أخى، الظلال هي التي تقود الوقت، لا الحاجة إلى النبل. مثل قصيدة شفافة في ديوان بول إيلوار، كنت تعاكسني بدون أن تعرف أنك تعاسكني، وكنت الصوت الذي ينبع من الجهة الأخرى للكلام، ويحاورني، لكني كنت دائما أستعير وهجك لكي أضيء أخطائي.. كم أحببت أن أناديك أخي، لعل يوسف يصبح أقل عرضة للجب، وأقل عرضة للقتل الأخوي.. وأقرأ عنك الآن ما قاله إيلوار العظيم«..عيناي غير مجديتين وأنا لا أتحرك، كل الجسور مقطوعة، ولن تمر منها السماء؟ قاتلت ولم تكن لك سوى أسئلتك البسيطة.. ما هي يا ترى أسلحتي لكي انتصر، ولا تجد سوى القلب وشراسة اللسان، تلك الشراسة التي تعطي الضوء للكلمات مهما كانت معتمة. أقرأ الآن رسالتي إليك في مناخ المرض، وبعد فضل الألم الطويل، يوم اعتمرت سماء فوقنا بهية وصحت فيك:سلامتك أبا محمود عمر يومها كنت قد عرفت أخوتنا، هذه العلاقة المبهمة التي لا تحتاج إلى لقاء لكي تكون، كنت دائما أخي ولم أخاطبك. حتى اللحظات النادرة التي حدثتك فيها، كان الطاغي هو الذاكرة. تذكر، ولا شك، عندما اتصلت بك، عند كتابة سيرة عمر دهكون، التي لم تكتمل لأسباب يعرفها فقه الصمت السياسي ولا نعرفها. لم تتركني أنتزع منك اعترافاتك، وذهبنا بعيدا في الحديث عن سلاح الثورة، وحدثتني عن »الليبيدو« الذي أفشل غيفارا. بصوتك، بكلامك الجهوري، أقنعتني أن الثورة فشلت لأن الرغبة استيقظت في جسد بشري، فسبقت القبلة القنبلة. انتبه معي يا أحمد، كل الطريق التي عمدتها بدمك وصراخك، لم توصلنا إلى بعضنا. لقد استبدلنا، في لحظة تقوقع إيديولوجي الطبقات بالمسام، واستبدلنا الحياة بأفكار نصبغ بها ذهننا. ونصبغ بها الأفق الذي نراه لكي لا نرانا، رفاقا ونرانا إخوانا. في كل رصاصة كانوا يطلقونها كانوا يعتبرون أنهم يرسلون خطابا حضاريا. وكنا لا نقدم سوى جلدنا يا أخي. جلدنا يا أخي الذي من تراب وترس وحناء ورمل وفريش. لماذا أذكرك اليوم كما لو أن البلاد مصابة بالحنين إلى براءتها، ومصابة بالشمس التي أضاعتها في لحظة انفلات سياسي؟ لأنني مصاب بأخوتنا يا أخي. مصاب أيضا بالمجد الذي زرعته، وزرعه عمر وزرعته السلالة في دمنا. عندما اطلعنا على سيرتك الأولى، وقال فينا أحد أنهم اختطفوك من مدريد رفقة سعيد بونعيلات، قلنا إن الدولة ركعت أمامك ، وجثت حتى أنها استسلمت لما فيها من خوف منك ولما فيها من حيوانية. كم افتخرنا أننا منك ، يا أحمد، حتى في اللحظات التي تكون فيها قاسيا علينا. حتى في اللحظات التي كانت قناعتك القوية تطردنا من عدن الهوية، حتى عندما كانت شراستك النضالية تبعدك عنا، كنت فينا ، وكنت حديثنا. كم مرة تحدثت عنك وتحدثنا عنك، ألف ، مئات الآلاف ، لا أذكر. لكن أذكر أننا لم نفهم جيدا أنك كنت ترى أن الإفراط في النقد هو الذي يسمح لنا بأن نظل شبابا، ونتقدم في عمر الديموقراطية في نفس الوقت. شقيق عمر بنجلون، كنا نقول ثم نضيف، لكنه أيضا أحمد بن جلون، الذي يذهب بعيدا في انسجامه العقائدي، حتى ولو ابتعد عنا. كنت تغرق في انسجامك الخاص، ثم تبتعد عنا، كما لو أنك تتعمد أن تغفلنا ، نحن »الإصلاحيون« الذين كنا نقدر أن الأرض تبدأ دورتها في رأس فكرة إصلاحية. أنت الآن وحيد وحر، أرض بكاملها تحت الغطاء، بلاد بكاملها في الذاكرة ، وجيل بكامله يتأمل نفسه في حالتك الآن، لست أدري لماذا لا نفهم بعضنا في الحياة ونفهم بعضنا جيدا في الإيديولوجيا؟ لست أدري أيضا لماذا ، برغم كل الأعداء ورغم كل الإقطاع ورغم كل العتاقة، لم نتوحد في الألم، وكنا نسارع دوما إلى اختلافنا، كما لو كنا عطاشى يسارعون إلى سراب؟ لماذا افتقرنا إلى بعضنا إلى هذا الحد يا أحمد؟ لماذا نسينا في غمرة الخلاف أن الاعتزاز بدم الذين فقدناهم جميعا هو الذي يحمي الجماعة ويحمي كرامتها؟ أؤمن يا أحمد أن مناضلا بدون قلب ، كائن خطير ، بل مشروع رجل سلطة وضيع. كنت طيب الأمل ، وقتها ، كنت أريد أن أقتنع بأن الكلمات قادرة على أن تهزم المرض، كما في اعتقاد سحري عتيق عولت كثيرا علي وأنا ألوح لك . «سلامتك أبا أحمد، سلامتك من تكلس الوقت ومن جسدك المصاب، سلامتك من تكلس العواطف، وسلامتك من الزمن التقليدي الذي يحاصرنا مثل حالة اختناق». كان ذلك منذ أربع سنوات مضت، وأربعة شهور من فبراير الثائر.. وقتها كنت لاعب نرد، بين القدر والبيولوجيا، وأنا أتمنى إليك أن تعود « مشافى يا أخي، وقتها قلت لك بملء القلب: عد حتى يظل الاختلاف حيا، يدلنا على ما فينا من مشترك. عد لصديقي محمود، ولي» وقتها عدت بالفعل، لكي ترتب الغياب الكبير وتحجز لك مقعدا في الابد، بعد أن كنت قد اطمأننت بأن كل القلوب مليئة بك.. هناك يا أخى فن في أن تكون ميتا ، تجيد الرحيل، لا تلتفت وأنت تبتسم لترى أنهم كانوا هناك، إخوتك كانوا هناك من كل أطياف اليسار والوطنية يا عزيزي.. كانت عيون خفيفة، نعم خفيفة تنظر إلى السماء وتجمع النجوم الأخيرة، كما في استعارة سماوية تجعل من الموت أكثر أفعال الحياة حيوية.. يموت أجمل ما فينا يا أحمد يموت أجمل من فينا حتي أنا عدنا نشك أننا ربما ، الأحياء أسوأ ما فينا.