راكم الروائي والناقد المغربي أحمد المديني منجزا ثرا على مستوى الكتابة الإبداعية والنقدية العربية. وكما في جميع أعمال المديني الإبداعية والنقدية، يعد مؤلفه النقدي الأخير «السرد بين الكتابة والأهواء »، الصادر هذه السنة2019، امتدادا لأعمال نقدية سابقة رصد فيها المديني تطور المتن السردي العربي وتحولاته النوعية في المشرق والمغرب على ضوء مفاهيم شكلت روائز في مشروعه النقدي أهمها: المغايرة ، الاختلاف، الحداثة، التجريب والتحول. يعود الكاتب والناقد والروائي المغربي أحمد المديني في عمله الأخير الموسوم ب»السرد بين الكتابة والأهواء»، كدأبه في كل أعماله في الرواية والنقد، الى اجتراح أسئلة الكتابة والسرد، لكن بمنظار الجدة ومن زوايا غير مطروقة سابقا، إذ يعمد المديني في هذا الكتاب الى إعمال التصور النظري والمقاربة المنهجية لمصطلح السرد دون إغفال نقطة مهمة تطفو ضمنيا أو ظاهريا أثناء عملية الكتابة، والمرتبطة بالذات والرغبات الجوانية، أو ما يطلق عليه التخييل السردي. وكما عودنا صاحب «ممر الصفصاف» الذي لا يتوقف عن استثارة «العنف في الدماغ»، يطرق المديني في كتابه الأخير «السرد بين الكتابة والأهواء» الصادر عن منشورات «دار الأمان»، موضوع السرد التخييلي العربي، في إطار مشروع نقدي بدأه المديني مع ثلاثية «تحت شمس النص» في 2002 و»تحولات النوع في الرواية العربية «في 2014 و»كتابة أخرى..سرد مختلف» في 2016 ، أخضع فيها المديني مجموعة من النصوص الأدبية، في الرواية والقصة، للاستقراء والتحليل والتأويل، متسلحا بعدة نظرية نقدية لتفكيكها وإعادة بنائها، مركزا على التمظهرات البنائية الشكلية لها بغاية الوقوف على عوالمها والتيمات الكبرى التي تعنى بها. يسعى الكتاب الى قراءة الرواية والقصة كشكلين من السرد التخييلي الذي يعلي البحث الى مراتب فوق الواقع عن طريق استثارة الخيال والحدس من أجل خلق الشيء ونقيضه، وهو ما يجعل، بنظره، الرواية جنسا أدبيا إشكاليا وليس نثرا ساذجا لمحكيات خالية من الرؤية والدلالة. وقد عمل الأستاذ المديني على الوقوف على سمات التحول في مسار الكتابة الروائية كشكل من أشكال إعادة رسم الواقع وموقع الإنسان داخله، بعيدا عن المنحى التأريخي التحقيبي، حيث اعتبر في هذا الصدد أن السرد التخييلي انتقل من مرحلة المسودات وتقليد النماذج الغربية الى اختراق صفحة سرد راكد بظهور باراديغمات جديدة غير مسبوقة رغم المقاومات التي واجهها هذا الاختراق لصالح الكتابة الكلاسيكية، فظهرت «نصوص قلبت رأسا على عقب المعمار الروائي وعوالم الرواية وشواغلها، وشجون أشخاصها والتيمات المعنية بها (ص14). خصص المديني في القسم الأول من الكتاب، بابا لتمثلات الحداثة في السرد التخييلي العربي، وفيا لدأبه الذي يميز جل كتاباته المنتصرة للحداثة وتجلياتها، وكاختيار جمالي وأفق سردي واع بممكنات التحرر عبر الكتابة. فالحداثة في السرد العربي عند المديني تبدو جلية من خلال التوجه إلى مقاربة اليومي عبر تخييل لا يقف عند تمثل الواقع ونقله، بل ينطلق من تجربة جوانية تتداخل فيها الأهواء والرغبات النفسية للروائي، وتتوجه الى هذا الواقع. وهي حداثة تتحقق من خلال النص فقط، شكلا ومضمونا، مشيرا في هذا السياق إلى «أن كل خطاب في الحداثة خارج النص، جله ضرب من التكرار المسف». إذ بهذا المعنى تصبح الحداثة كتمثل داخل السرد، موقفا يفصح عن وعي فكري وجمالي بعيدا عما يقيدها ويجعلها حبيسة مستويين من النظر: من يرى أنها مجرد لعب شكلي، أو من يجمدها كموقف ثابت، وهي حداثة لا تنفصل عند المديني عن معركة الحداثة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة. يتساءل المديني عند حديثه عن تمثيلات وتمثلات الحداثة في السرد العربي عموما، والمغربي بالخصوص، عن إمكانات وحدود امتلاك الكتاب المغاربة زمام التعبير بواسطة اللغة وبلغة التخييل في إطار المنهج الحداثي، خصوصا في فترة الكتابات التي عاصرت الحركة الوطنية وصولا الى الثمانينات، مستنتجا أن الأدب المغربي، حينها، شهد هيمنة المؤسسة ( الدين، الحركة الوطنية،…) بالإضافة الى هيمنة الرؤى الجماعية الفوقية المحكومة بسلطة التقليد والماضوية، ليخلص الى أننا نعيش حداثة الانفصام: مصطلحات و»فرقعات» مفاهيمية منفصلة عن الشروط التاريخية الحاضنة لهذه الكتابة ، ومفتقدة لأدوات الحداثة. ومع ذلك يرى المديني أن «رهان الكتابة يبقى جزءا من رهان التحديث الأكبر»، مشيرا في نفس الوقت الى التفاعل الحاصل اليوم في الكتابات المغربية مع نماذج التجديد والتحولات الجمالية في الآداب الخارجية، ما يمكن معه القول «إننا بصدد بلورة تخييلنا الخصوصي من وحي ثقافتنا في صيرورتها» ص 44 تجليات التجربة الذاتية في المتن المغربي يفرد المديني في كتابه «السرد بين الكتابة والأهواء» بابا لحضور التجارب الذاتية في الكتابة الروائية ومستويات هذا الحضور، إذ يعتبر «أن التجربة الذاتية» في الرواية مكون من مكونات هذا الجنس الأدبي بل يعد من تجلياتها الكبرى، إذ حضور الكاتب لا جدال فيه مع الأخذ بعين الاعتبار مسافات التباعد الضروري التي يقتضيها وضع المؤلف السارد، أو هوية الجنس الأدبي، ثم عنصر التخييل الذي لا يستقيم الحديث عن الرواية دونه. يتوقف المديني في هذا الباب عند مصطلح «السيرة الذاتية»، معتبرا إياها التمثيل الأهم والأقدر في الرواية العربية على نقل تجربة الفرد، بما تمتلكه من حيازات شكلية جعلت منها « شكلا سرديا منبثقا من شجرة السرد الكبرى» ص52 . ويقدم مثالا على حضور هذا الذاتي في عملية السرد التخييلي بتجربة البدايات الروائية المغربية ، تجربة التهامي الوزاني في «الزاوية» وعبد المجيد بن جلون في «الطفولة» ومبارك ربيع في «الطيبون» و»سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب ، ليصل إلى خلاصة مفادها أن تجربة الذات في السرد التخييلي في الأدب المغربي اتخذت منحى تصاعديا نقلها من مستوى العفوية والفطرة الى «سرد قابل لاحتواء حياة تنقل بوسائط وصور تنتسب الى عُدة الأدب» كما يلمس ذلك في كتابات عبد القادر الشاوي آنذاك وخاصة كتابه «أنا وأخواتها»ص65. يقر المديني في نهاية هذا الباب بأنه لا توجد تجربة ذاتية في الرواية العربية بالمعنى الصحيح ما لم يتحرر الإنسان، وتتوفر له شروط التعبير عن فرديته كإنسان. وحين تتوفر هذه الحرية « حينها فقط ستكتب الرواية تجربته» ص66. التجريب: حقل المديني بامتياز يولي المديني في تجربته الروائية، منذ «العنف في الدماغ» أهمية كبرى لهذه الأهواء- الاختراقات باعتبارها مؤكدة لحتمية تجدد الابداع، هو المؤمن بقدرة التجريب كاختيار جمالي وإبداعي على اجتراح مقومات إبداعية مغايرة. وهو الاختيار الذي يظل معه القارئ في حاجة الى تجديد قواعد وآليات تلقي نصوصه. فالمديني حافظ على قدرة خلاقة على تجديد نصوصه وتنويع خياراته الفنية والموضوعاتية حتى وصفه يوما الناقد محمد الداهي ب» المتعلم الأبدي». ففي كل عمل يقترح الأستاذ احمد المديني تحولا متواصلا في البناء واللغة والرؤية ، ساعيا بذلك الى تكسير نمطية السرد. يمكن القول إن التجريب عند المديني ليس غاية في حد ذاته، لكنه تجريب ينحو باتجاه تحرير العبارات من مسكوكيتها، وإبداع كتابة تنتصر لقيم الحداثة والتنوير. لهذا وكما يقول في ص 75 في الباب المعنون ب»صنعة التجريب ومسار الكتابة» فإنه رغم كتابته لمجموعة من النصوص الأدبية المتفرقة في الستينات والتي كات ينشرها بالجرائد، ظل إحساس عميق يخامره بأنه لم يكتب نصه بعد، وأن ما كتبه لم يكن إلا مجرد «بروفة» فقط إلى أن عثر على النص الذي يحمل بصمته ونعني به مجموعته القصصية الأولى «العنف في الدماغ» سنة 1971. يرصد المديني بهذا الصدد مسار ومناخ هذا العمل الذي تزامن مع التحاقة بمجموعة «أنفاس» الأدبية رفقة مصطفى النيسابوري، عبد اللطيف العلبي، المليحي، محمد شبعة، واحتكاكه بهم والتعرف على توجهاتهم الفكرية الموسومة بالتمرد والتجديد، وهو ما حفزه على قلب التصور التقليدي في الإبداعية العربية والثورة على المفاهيم المكرسة، فكان أن فجر كل هذه الرغبات في «العنف في الدماغ» باقتراح من التشكيلي محمد شبعة الذي كان قد أسس لحظتها «منشورات أطلنط»، لتفتح المجموعة الباب أمام كتابة قادرة على تحريك الواقع و»زحزحة التراكمات الجليدية» ما جعله يعتبرها» معالم لتجربة مغايرة هي التي وسمت بالتجريبية وكانت ، يقول المديني، رائدة ومؤسسة لما التحق بها وجاء بعدها. وكانت مساوقة لحركة تجديدية رسمت خطوطها تدريجيا في خريطة السرد العربي» ص88. ثقافة الاعتراف ينتشلنا أحمد المديني في الجزء الأخير من الكتاب من صرامة النقد ومفاهيمه إلى هشاشة الإنسان المبدع وانفعالاته وتفاعلاته مع الواقع والآخر، إذ يضم الكتاب في الجزء الاخير من قسمه الثاني، شهادات إنسانية عن الراحلين محمد شكري ومحمد زفزاف، وهي شهادات لا يمكن إلا أن نعتبرها ترجمة بليغة لثقافة الاعتراف التي دأب المديني على سنها تجاه رواد الأدب المغربي في القصة والرواية، ممن بصموا خريطة الإبداع المغربي وأسسوا لتجربة متميزة وفارقة في المشهد الأدبي المغربي والعربي، وهي ثقافة تجد تجليها المادي في إشرافه على جمع وتنسيق كتب عن هؤلاء، غايتها الأولى الاعتراف بما أسس له الرواد والوفاء لذاكرتهم، ومُرامها الثاني الحفاظ على الذاكرة الثقافية الابداعية في المغرب ونذكر منها كتابا «صنعة الكاتب» عن الراحل محمد زفزاف وكتاب «شاعر في السماء» عن الراحل أحمد المجاطي. في شهادته التي تضمنها الكتاب، نقرأ بعضا من الحياة اليومية لزفزاف الإنسان، البسيط، المواطن، المثقف، ثم الإنسان الضعيف أمام جبروت المرض والموت، غير متسلح في هذه المعارك إلا بشعلة الأمل التي تظل جذوتها متقدة في نفس المبدع. أحمد المديني في هذه الشهادة يعود بنا الى بداية علاقته بالراحل محمد زفزاف بالدار البيضاء، رفقة الراحلين أحمد الجوماري وأحمد المجاطي وإدريس الخوري والراحل البشير جمكار. كما يستحضر إحساس الراحل زفزاف بوطأة الحياة وقساوتها في هذه المدينة الغول، وهو ما جعله، يقول المديني، يصرف هذا الضغط في مجريين: مجرى ذاتي ومجرى إبداعي. كان زفزاف طيلة الثلاثين سنة التي عاشها بالدار البيضاء» يبني شخصيته بترافق مع تكوين إنتاجه القصصية والروائي بتؤدة وتصميم ونظام» ص328. كما حافظ على استقلالية المثقف عن التجاذبات السياسية والايديولوجية ، و»لم يسمح لأي جهة بأن تستغله شخصا ونصا، ظل متمسكا بحريته وبها يهتدي ومن أجلها وبها يعيش. طبعا كان في صف الحركة التقدمية وآمن بمثلها وقيمها، لكن انتماءه كان لحزب الفقراء مطلقا وبلا تقييد» ص 330. الشهادة الثانية التي يتضمنها الكتاب هي عن الراحل محمد شكري، وينحو فيها المديني اتجاه آخر بالتركيز على صاقاته وعلاقاته الإنسانية مع العديد من الكتاب المغاربة «محمد زفزاف، المديني، إدريس الخوري) والأجانب (جان جنيه ، ميلر، حميد سعيد، بول بولز) بعيدا عن الكتابات التي تعمل على أسطرة هذه الشخصية التي عاشت على امتداد السبعينات ملتقى عديد من الشخصيات الوافدة على طنجة. يحكي المديني عن شكري الذي عايشه : البسيط، المرِح، الذي أثقلته الصداقات المزيفة كما أثقلته الديون المتوارثة عنها، قبل أن ينتقل الى شكري الكاتب، النموذج لعصامية فريدة أنتجت كتابات فارقة خلقت شهرة هذا الكاتب، وأولها «الخبز الحافي» الذي يعتبر المديني ما جاء بعده من كتابات «الخيمة» ، «زمن الأخطاء» تنويعات وتفريعات عنه توسع ما اختزل فيه. يتناول المديني بالقراءة والتحليل أيضا، عددا من النماذج السردية العربية والمغربية في هذا الكتاب، متوقفا عند أهم ملامحها (عبد القادر الشاوي، أحمد بوزفور، مبارك ربيع، حسن رياض، محمد الاشعري، عبد الكريم الجويطي، ياسين عدنان، سعيد بنسعيد العلوي، المويتاني عبد الله ولد محمدي، مي خالد، حمور زيادة، سعود السنعوسي، رشاد أبو شاور سعيد مكاوي.هدى بركات….) معتبرا أنها تعكس فقط «خريطة مصغرة لسرد عربي مجدد ومتحول رؤية».