يستدعي الحديث عن كتاب الدكتور كمال عبد اللطيف «أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب» ملاحظات أهمها: أولا: أنه كتاب فريد، بمعنى أننا لا نعرف غيره من الكتب تناول المسارات الفكرية لأهم رواد ومنتجي الفكر الفلسفي في المغرب خلال العقود الأربعة الاخيرة من القرن الماضي، مجموعة ومرصوفة في متن واحد، خصوصا ونحن ندرك كيف كان أفراد الجيل الأول يصبون اهتمامهم على بناء مشاريعهم الفكرية الخاصة، متجنبين في ذلك أي تقاطع مقصود ومفكر فيه مع مشاريع أخرى. ثانيا: أن الكتاب اتجه نحو بناء مجموعة من القضايا وتركيب جملة من الأسئلة «اعتماداعلى نصوص أنتجت ضمن دائرة الخطاب الفلسفي في دلالته العامة والمفتوحة»؛ فهو إذن كتاب متفاعل وليس كتابا للحواشي والتفسيرات كما هو دأب عديد من الكتابات التي امتهنت شرح وتفسير متون الآخرين على طريقة كتابة الحواشي والشروح عند المفسرين والمحدثين التقليديين، بحيث يجوز القول إن الكتاب هو نفسه جزء من المسارات التي تعرض لها، باعتبار أن الأستاذ كمال عبد اللطيف يتميز بحضور وازن في الحركة الفكرية المغربية والعربية، فهو عندما يكتب عن هذه الحركة يأخذ القارئ الى داخلها بشكل يصعب معه التمييز بين العارض والمعروض. ثالثا: أن الدكتور كمال عبد اللطيف اتجه في مؤلفه الى التعامل مع الإنتاج النظري الفلسفي في المغرب، على فرض أن هذا الإنتاج حقق تراكما كافيا يسمح بالنظر إليه كمنظومة تنبني على توطين القول الفلسفي في فكرنا المعاصر في دلالاته العامة والمفتوحة. هذا الكتاب إذن هو عبارة عن «إلماعة» ذكية لهذه النهضة الفلسفية التي تشكلت ملامحها من خلال المسارات الفكرية لرواد ومنتجي الفكر الفلسفي في المغرب بما لها وما عليها. والحقيقة أنه لا يدرك أهمية هذه النهضة الفلسفية المغربية، ولو بنوع من التجاوز، إلا من اطلع على الأحوال الفكرية الغربية السابقة عليها، ومن اطلع على حال الدراسة والتدريس بجامعة القرويين التقليدية قبل إنشاء جامعة محمد الخامس الحديثة. تكتسي هذه الملاحظة الأخيرة أهمية خاصة، لأننا كقراء وكمهتمين بالإنتاج الفكري المغربي، دأبنا على النظر الى فلاسفتنا ومفكرينا كما لو أنهم يمثلون» جزرا» فكرية متباعدة ومستقاة بعضها عن بعض، ولا شأن لإحداها بأخرى. هناك إذن هذا الوعي وهذا الاجتهاد في اقتراح قراءة موحدة للإنتاج الفلسفي النظري في المغرب، وهي في تقديرنا أهم حسنات ومميزات هذا الكتاب. ونحن نذكرلا كيف تعودنا النظر الى الإنتاجات الفكرية في عصر النهضة في المشرق العربي كبناء وكتوجه فكري (نهضوي)، وكيف تعودنا النظر بالمقابل الى اجتهادات العروي والجابري ولحبابي وغيرهم باعتبارها اجتهادات فردية متفرقة، وليس كمنظومة فكرية وكفكر جمعي. لا أخفي أنني قرأت الكتاب بعد صدوره بعدة سنوات، لأنه نفد من السوق في وقت قياسي، ولم يتم التفكير في إعادة طبعه أو لأن « الإعلام الثقافي» ، إذا جاز لنا هذا التعبير، بدأ يعرف ركودا ملموسا عند صدور الكتاب في بداية الألفية الثالثة، أو لأن الكتاب صدر في فترة بدأ يطغى فيها الفعل السياسي بشكل واضح وصريح على كل الأفعال والممارسات الأخرى. وأقصد هنا حدوث وقائع سياسية ذات آثار ودلالات عميقة، خاصة منها «الانقلاب على المنهجية الديموقراطية» والتهيئة، ضدا على منطق التاريخ، لدخول لاعبين سياسيين جدد لساحة الصراع السياسي. وبالفعل، فلا أحد ينكر أن «هبوطا» فكريا ملحوظا طرأ في المغرب بتزامن مع هذه الوقائع السياسية، مازالت آثاره شاخصة الى اليوم. لكنني بقدر استمتاعي بقراءة هذا الكتاب، بقدر ما نشأ لدي هذا الإحساس الغامض بأن المشروع الفلسفي الذي اجتهد مفكرون وفلاسفة مغاربة في بنائه خلال العقود الخمسة الماضية، مهدد بالانقطاع، مما يجعل من علامات التحول والتغير في الأسئلة والمحاور والاهتمامات الفكرية لمغرب الألفية الثالثة، موضوعا فكريا جديدا يحتاج الى تأسيس جديد في الفكر والسياسة والتاريخ والمجتمع. ولعل منبع هذا الإحساس هو التوجس من انتقال الانهمام بالمسارات الفكرية والفلسفية للمغرب الى الانهمام بمآلاتها، بسبب هذا «الانقطاع» الذي تلوح بعض علاماته في الأفق، وإلا من يستطيع اليوم أن يداري توجسه من ألا تتكرر كل الأسماء التي بنت هذا الصرح الفكري المغربي على امتداد العقود الخمسة الماضية في المستقبل المنظور؟ ماهو إذن هذا الكتاب المولد لكل هذا الزخم من الأسئلة القلقة؟ يقارب الكتاب، بصفة إجمالية ومختزلة، الأسئلة الفلسفية التي تبلورت في الفكر المغربي في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، وما عنيت به من قضايا كبرى تهم المجتمع المغربي في مجال الفكر والسياسة والمجتمع والتاريخ، لكن قارئه والمطلع عليه يجده أغنى من ذلك بكثير. ولعل أهم مايثير انتباه القارئ ويجذبه في مستهل الكتاب ومقدمته، هو هذه الشحنة العاطفية المجللة بثقافة الاعتراف التي حيى بها الدكتور كمال عبد اللطيف روح الأستاذ المرحوم نجيب بلدي، وذلك بإهدائه الكتاب، تقديرا منه، على حد تعبيره، لأياديه البيضاء على درس الفلسفة في الجامعة المغربية وداخل أول شعبة للفلسفة في كلية الآداب بالرباط. والكتاب، كما سبقأن ألمحنا الى ذلك، عبارة عن بناء وتركيب لمجموعة من القضايا والأسئلة التي تبلورت في الفكر المغربي خلال العقود الماضية، وهو ينطلق من التسليم ب «الفاعلية النظرية الكبرى للفلسفة في التاريخ، التاريخ العام والتاريخ المحلي والقومي، حيث تنشأ القضايا وتنسج النصوص الفكرية الفلسفية بهدف المساهمة في التفكير وإعادة التفكير في الإشكالات النظرية والتاريخية التي ترتبط بواقعنا في أبعاده ومستوياته المختلفة»، إذ «لم يعد أحد يجادل في الدور التنويري والنقدي للخطاب الفلسفي في التاريخ”. يؤكد التقديم العام الذي استهل به المؤلف كتابه على أن الأمر يتعلق بمحاولة في تركيب وبناء منظومة فكرية من الإنتاجات التي تعرض لها الكتاب، ولا يتعلق برصد الأبعاد الأكاديمية، أو الأبعاد البيداغوجية لمنتجي الفكر الذين اهتم الكتاب بمتابعة إنتاجاتهم كأساتذة وكمدرسين جامعيين. لقد طرحنا على أنفسنا ونحن نطالع كتاب «أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب”، سؤالا قد يتبادر لذهن أي قارئ: هل كانت لنشأة هذا الفكر بداية محددة؟.. ولعله سيكون من باب الإجحاف جوابا عن هذا السؤال، التأريخ لبدايات التفكير الفلسفي في المغرب بكتابات محمد عزيز الحبابي، وعدم الالتفات لكتابات المصلحين السياسيين المغاربة كعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني وعبد الله ابراهيم وعبد الخالق الطريس، والذين نعثر في كتاباتهم «على ملامح واضحة لجملة من الأفكار والمبادئ الفلسفية، التي تنبئ عن كفاءة عالية في الفهم والتأويل وعلى مفاهيم موظفة لترتيب تصورات تتوخى إصلاح الواقع السياسي وإصلاح مدونة الفكر السياسي على وجه الخصوص».وقد اعتبر الاستاذ كمال عبد اللطيف أن هذه «الممهدات” السياسية لنشوء فكر فلسفي مغربي ساعدت على تهييء الطريق نحو تمثل أوسع وأفضل لمفاهيم الدرس الفلسفي في فكرنا المعاصر. وبرغم أن الدكتور محمد عزيز الحبابي كان سباقا للعمل من أجل توطين القول الفلسفي في الفكر المغربي المعاصر، فقد كان الجهد الأبرز والأكثر قوة هو الذي ستعكسه كتابات الاستاذ عبد الله العروي »ضمن إشكالية محددة تتعلق ببناء تصور نظري لكيفيات تجاوز التأخر التاريخي في المغرب وفي العالم العربي، بل وفي العالم الثالث» ولا أظن، حسب اطلاعي المتواضع، أن في هذا الحكم اي اجحاف. لكنني أود هنا أن أفتح قوسا أشير فيه لسؤال ظل يستبد بي خلال قراءتي للكتاب، ووددت لو أجد جوابا شافيا عنه من خلال تناول المؤلف للمسار الفكري للاستاذ محمد عابد الجابري، وهو السؤال الذي يظل يربك أنصار الفكر المغربي المتحرر قبل خصومه، بحثا عن تأويلات وأحكام نهائية جازمة، أو بعبارة أوضح عن مشروع فكري انتقالي جديد. والمرجح عندي أن كتابات محمد عبد الجابري تدعونا إلى تدقيق التراث الفكري الاسلامي وتمحيصه بقدرما تدعونا إلى تجاوزه. وأنا هنا لا أخفي أنني قرأت الفصل حول الجابري قبل غيره من الفصول، ليس من باب التفضيل، ولكن ربما لأنه يظل يغذي عقلي ووجداني بأسئلة متجددة باستمرار. وبالفعل فقد أجاب الاستاذ كمال عبد اللطيف في مؤلفه عن السؤال الذي ظل يعتمل بداخلي عند حديثه عما سماه ب»البياضات» في خطاب الجابري. من منا لا يتملكه ذلك الاحساس بوجود بياضات مقصودة في كتابات الجابري وخطابه، خاصة من المتتبعين المستعجلين الذين يودون الحصول على أجوبة نهائية تساعدهم على انتقالات فكرية سريعة؟ ولكن لا أحد، حسب ما أعلم، امتلك الجرأة الكافية للإفصاح عن ذلك. الأستاذ كمال عبد اللطيف بحسه السياسي، علاوة على حسه الفكري والفلسفي، وهو القارئ الشامل للفكر النظري الفلسفي، مشرقا ومغربا، كشف عن ذلك بكثير من الجرأة والصراحة: إن في كتابات محمد عابد الجابري بياضات، ولتأكيد زعمه يقول ما نصه: »إن قراءته التامة بمقدمات فصوله وخلاصاتها، وكذا الانتقال الى لحظات توقفه عن إصدار الاحكام، نجد لها موقعا في بياضات خطابه، تجعلنا ندرك المغامرة البحيثة الجادة المتضمنة في هذا العمل». ينقسم الكتاب الي أربعة محاور: 1 – محور تمهيدي سعى الكاتب من خلاله توضيح الحاجة الماسة للفلسفة كفكر نقدي. 2 – محور ينصب على الإنتاج الفلسفي المغربي الذي أنشأ لنفسه بؤرة استقطاب، هي التفكير في الحداثة وبناء مشروع نقد العقل، وفيه تم الوقوف على المساهمة الفكرية لأربعة باحثين في الفكر الفلسفي المغربي: محمد عزيز الحبابي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري وعلي أومليل. ولعل ما أثار انتباهنا في هذا المحور، وما أشرنا إليه، هو حرص الدكتور كمال عبد اللطيف على تركيب تصور عام للإنجاز النظري للباحثين والمفكرين الذين اعتنى بفكرهم «بغاية بناء الأسئلة والمفاهيم والقضايا التي عملوا على إنشائها وتركيبها”، بدليل مقاربته لها بواسطة الاسترجاع الذهني المباشر، واعتمادا على نتائج انخراطه، هو نفسه، في قراءة ومناقشة هذه الانتاجات الفكرية على امتداد عدة عقود. 3 – أما المحور الثالث، فهو الذي سماه المؤلف ب «توسيع وتنويع دائرة الكتابة الفلسفية»، وفيه انصب الاهتمام على معاينة الإسهام الفلسفي كما نشأ وتشكل في العقدين الأخيرين من القرن العشرين»، من خلال نصوص وكتابات كل من طه عبد الرحمان، محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، سالم يفوت، محمد وقيدي، سعيد بنسعيد العلوي، بنسالم حميش، عبد المجيد الصغير، محمد المصباحي على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر والإحاطة الشاملة. وهنا لابد من الاشارة الى أن ما اعتبره المؤلف في هذا المحور «حيوية نظرية ملحوظة في الفكر الفلسفي المغربي» لا تنفي توجسنا من المآلات التي قد تؤول إليها هذه الحيوية، وحجتنا في ذلك هذا الضغط الشديد الذي تمارسه موجات دوغمائية مضادة، مرتبطة بصيرورة تاريخ محاصر وثقافة مغلقة. 4 – وما أدل على الوجود الفعلي لهذه المواجهة الصريحة من إفراد المؤلف للمحور الرابع من كتابه للحديث عن” مشروع مواصلة الدفاع عن الحداثة والفكر التاريخي النقدي»، مما يشير الى وعيه بالمخاطر التي تهدد الفكر الفلسفي والنقدي في المغرب. ويكفي النظر الى أوضاع الجامعة المغربية وحال التدريس بها للتأكد من تغول هذه الدوغمائيات المضادة. يجب الاعتراف بأن هناك صعوبة حقيقية في تقديم محتوى هذا الكتاب لأنه عبارة عن كتاب متعدد، أو لنقل إنه عبارة عن كتب متعددة في كتاب واحد. ونرى أنه سيكون من المفيد الوقوف عند فصل نعتبره أكثر جذبا للقارئ، وهو الذي عنونه المؤلف ب «العروي في مرآة الجابري، والجابري في مرآة العروي». هل هناك فعلا آية مرآة عاكسة بين المفكرين؟ يمكن الجواب عن هذا السؤال بالنفي والإيجاب في الوقت ذاته، لأنه هناك بالتأكيد تقاطعات بين المشروعين الفكري للرجلين، يقول الدكتور كمال عبد اللطيف: « إذا كان الجابري وهو يحاور العروي يقف معه في نفس الخندق، فلأن الخلاف بينهما لم يكن حول الأسس والمبادئ والمنطلقات، قدر ما كان خلافا في التفاصيل والجزئيات”، ونود أن نشير هنا الى غياب ذلك التناظر الذي يحلم به أي قارئ بين الرجلين، برغم أن الفيلسوف (الجابري) كان مبادرا للنظر في كتابات واجتهادات المؤرخ (العروي) بينما ظل هذا الأخير ينظر الى نفسه والى مشروعه الفكري وحده. وكيفما كان الحال فما يحسب للجابري في تلك الفترة، أي فترة منتصف السبعينات التي نشر فيها مقالاته حول مؤلفات العروي، أنه كان يرى من مسؤولياته السياسية، ربما، المساهمة في خلق دينامية فكرية مغربية تنظر الى الثقافي بما هو سياسي، وتنظر الى ماهو سياسي بما هو ثقافي، وأن محاورته للعروي تدخل في هذه الإطار، لكن الملاحظ بعد ذلك أنه لم يعد لمناقشة أفكار العروي بالإسم. لم يكن القراء والمتتبعون والمهتمون إذن هم المخطئون في النظر الى الرجلين كجزيرتين فكريتين متباعدتين، أو كعالمين منفصلين، بل هما من أنشآ هذا الوضع. يقول الدكتور كمال عبد اللطيف متحدثا عن الجفاء الحاصل بين هذين المفكرين «في اللقاءات الثقافية العابرة بينهما، لا يمكن أن نتحدث عن حوار أو خلاف معلن، إن الصمت الذي يملأ هذه اللقاءات إذا ما حصلت، وحصل معها تبادل الحديث، يوجب الجفاء، الجفاء المتبادل والمشخص في بناء كل منهما لمسافة محددة مع الاخر»، لكنه يعود ليبرر هذا الجفاء، بالمعنى المجازي وليس بمعنى الخصومة الشخصية، بقوله إن فضاء الفكر الجامع بينهما وثقل الموروث التاريخي الضاغط على الحاضر، يمكن أن يبرر جوانب من هذا الجفاء، وذلك بحكم الاختلاف الحاصل بينهما في بعض المنطلقات والتصورات، وبحكم بنيات التكوين الشخصية المختلفة». إن ما أثار إعجابنا في هذا المحور بالذات، هو ذلك التمرين الذهني الذي مارسه الدكتور كمال عبد اللطيف في موضوع العلاقة بين مشروع كل من العروي والجابري، وهو حسب علمنا المتواضع، ربما، عمل غير مسبوق تتجلى أهميته في إعفاء القارئ غير المتخصص من مشقة إجراء تمارين ذهنية مضنية ، بحثا عن نقط الاتصال والانفصال في المشروعين الفكريين كنموذج وكمثال. وبالفعل، فقد بذل الكاتب جهدا كبيرا في إبراز وجود هذا الصرح الفكري والفلسفي المغربي من خلال أهم ملامحه. يقول الدكتور كمال عبد اللطيف: »إن الكتابة الفلسفية المغربية في مسار تأسيسها الأول لا تشكل أي استثناء في تاريخ الفلسفة المعاصرة؛ إنها تمثل جهدا في الانخراط النظري في حقول التأمل الفلسفي وتبني بهذا الانخراط طريقتها الخاصة في التركيب النظري المطابق لأسئلة محددة، وتاريخ موصول بالتاريخ الانساني». إننا «نجد أعمالا لا تتجه نحو توطين دروس الفلسفة باستيعابها ضمن أفق إشكالي محدد: أفق التفكير في التأخر التاريخي الحاصل في المغرب وفي العالم العربي، التفكير المسلح بأدوات تاريخ الفلسفة (المفاهيم والمناهج) والهادف إلى إنشاء أطروحات قادرة على المساهمة في الجدل التاريخي الذي نفترض لزوم أنعاشه وتطويره للتمكن من بناء المفاهيم، وبلورة القيم المطابقة لأسئلة وحاجات زماننا في مختلف أبعاده. إن ما سميناه نحن بناء هو ما سماه الكاتب حضورا فلسفيا يبرز في «المرجعية الفلسفية المولدة لاختيارات محددة في السياسة والتاريخ والتراث، كما يبرز في المفاهيم المستخدمة كوسائل لتركيب صور الواقع، والاقتراب من مجاهله، وهو يتجلى في نمط الكتابة ونظامها، وذلك ر غم تنوع الكتابات وتنوع المقالات التي تندرج ضمن خانة الكتابة الفلسفية”. ولكن هل قال الأستاذ كمال عبد اللطيف كل شيء حول أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب؟ أليست هناك أسئلة مغيبة في مقاربته لهذا الفكر؟ يصعب الجواب عن هذا السؤال بالنفي أو بالإيجاب، لأن الأهداف التي سطرها الباحث في مقدمة كتابه لم تكن هي القيام «بمسح شامل لمختلف تجليات الكتابة الفلسفية في فكرنا خلال الفترة الزمنية موضوع البحث، بل بتوضيب وإعادة توليد للأسئلة التي طرحها الفكر المغربي في مجمله، برغم أن الإحالات همت نصوصا واجتهادات فردية. أما إذا كان الكاتب يلجأ في بعض الأحيان الى الاكتفاء بالاشارة الى بعض القضايا، فلأنها لم تكن تتوافق مع الترتيب الذي وضعه منذ السطور الأولى للكتاب، والتي تحتاج، ربما، الى أبحاث مستقلة، ولذلك سيكون من المستساغ جدا الحديث عن حدود مرسومة وفق ترتيب معين، عوض الحديث عن أسئلة غائبة. وقد عدد الباحث المواضيع التي لم يهتم بها في هذا العمل بكل أريحية، بحيث قال: -” لم نهتم في هذا العمل ببرامج الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا - ولم نهتم بالتأليف المدرسي والجامعي - ولم نفكر في افاق الدرس الجامعي في علاقاتها بالمجتمع - ولا في الوسائل والأدوات النصية المتاحة لطلبة الفلسفة. لم نفكر في هذا العمل أيضا في الأدوار التي لعبتها بعض المؤسسات والمنابر الثقافية في تعزيز درس بل دروس الفلسفة في فكرنا». وهذه في تقديري ليست حدودا، بل مشاريع لأعمال بحثية أخرى، مطروح على الفكر الفلسفي المغربي العودة إليها والوقوف عليها، بما يلزم من جدية وعمق. مجمل القول في آخر هذه الملاحظات السريعة حول مؤلف الدكتور كمال عبد اللطيف أنه مرجع هام بكثير من المقاييس، ليس فقط بالنسبة للمتخصصين، بل لعموم القراء والمهتمين بالشأن الفكري المغربي والعربي بصفة عامة. وسيكون من باب الادعاء القول إن من السهل تقديم كتاب بهذ الزخم الفكري متعدد المداخل والمقاربات، بحيث كان أقصى ما نطمح إليه هو إثارة الانتباه لكتاب صدر في ظرفية استثنائية في التاريخ السياسي المغربي (2003) طغى فيها السياسي بشكل واضح علي كل ماهو ثقافي وفكري. إن ما يميز طريقة الكتابة عند الأستاذ كمال عبد اللطيف، أن أفكاره عادة ما تكون مرصوفة بشكل يصعب اختزالها أو «تقطيعها»، ومن ثم صعوبة تقديم كتبه، ذلك أن كل فكرة عنده ترتبط بأخواتها مثل حلقات في سلسلة فكرية متراصة. «عن مجلة المشروع»