غفوت من نوم عميق. الظلام يسود المكان. أدرت عيني يمينا ويسارا. لا ضوء يأتي من بعيد كأني في قبر أو بئر مهجور. حررت يدي من استقامتها، سرحتها في الزوايا. كل شيء مغلق. ثمة نمل يخترق التراب ويقيم كوة. بالكاد أسمع أصواتا تأتي بالقرب مني، أدعية وروائح تشبه الموت. ضاعت الأصوات بين الروائح والأقدام. علي أن أخرج من هنا. كان التراب نديا، تابعت سير النمل بعينين مغمضتين. نبشت في التراب لتوسيع الكوة التي تخرجني من هذا المكان الذي لا أعرفه. أين أنا؟ متى قدمت إلى هنا؟ لاجواب. فقط ريّضت أصابعي كي تحفر أكثر. بدا لي جسدي كالنملة. أستطيع بذكائها الفائق الخروج من هنا. تذكرت كافكا اللعين في روايته «التحول». محوت الفكرة قبل أن تشتعل في رأسي، وأنا أحفر حتى وصلت الى بر الأمان. الحفرة كانت صغيرة. تسللت بكثير من الألم الى الخارج. نفضت جسدي من التراب، وقلمت أظافري بأسناني وخرجت. الليل يسود في المكان، انتبهت لحارس المقبرة وهو ينظر إلي باندهاش. غطى وجهه براحة يديه . في الجانب الآخر أناس يركضون خلف شيء ما، لم أكن اعرفهم. اعتقدت أن أهل سلا غيروا مواعيدهم من العصر الى العشاء. استقليت الترام في اتجاه العاصمة. كنت وحدي في العربة بعد أن خرج الجميع مسرعين الى عربة أخرى. لم أقل شيئا . الناس هكذا حين يرون شيئا ما يفرون. لست فزاعة كي يتهربوا مني. هذا شغلهم. المسألة لا تهمني قلت في داخلي. والترام يصل الى محطة الرباطالمدينة، نزلت منه، تذكرت موعدا مع كاتب شاب قادم من مكان بعيد. يعجبه الجلوس في حانة طنجة وأنا طويتها في يوم ما حين قدم البوليس السري لاعتقال أحد المشعوذين الجدد. أذكر أنني حررته من قبضتهم وسخرت منهم بقصيدة كتبتها على قاموس البَرْمانة البدينة، كان بواب الحانة واقفا كما لاعبي كرة السلة في أمريكا، طويل القامة، أسود البشرة، أسنانه تلتمع وتشير الى أي شيء تخاله. رآني وركض في اتجاه المجهول وأنا أسخرمن فراره. كاد أن يسقط في الطريق. فتحت الباب. الدخان يلف المكان ويرقص في الضوء ويرتاح على السقف. جميع الزبناء ينظرون إلي وفي فمهم كأس من الاندهاش.خرج الجميع والنادل يتبعهم. أعرفهم كلهم. أولاد الق…لم يسلم علي أحد. كنت أعتقد أنهم سيفرحون وسيمطرونني جعة ونبيذا وويسكي ولكنهم هربوا. واحد يجلس في الكونطوار.. يشرب الجعة ويكتب على المناشف الموضوعة في الجانب. كان الرجل يشبهني. أحاول التلصص عليه لكن لحيته تحجب الضوء الفاتر المنبعث من السقف. البَرْمانة مسحت الجهة الأخرى من الكونطوار وقدمت طلباتي وطلبات الملتحي الذي يشبهني في الجهة الأخرى. أنا الآخر أرغب في الكتابة. عادة ما كنت أحمل حقيبتي. اليوم الوحيد الذي نسيتها فيه. لا يهم الأوراق موجودة في كل مكان، والأقلام تختلف حرارتها، مثلما تختلف الأصابع التي تحملها. أخذت ورقة من الكأس الذي توضع فيه كمنشفة يمسح بها الشارب أصابعه أو كأسه سيان. القلم يتحرك بين أصابعي بحرية كأنها لا تستطيع القبض عليه.. أعدت الكرة من جديد. أحكمت عليه، وكتبت الكتابة منشفة. أعطيت الورقة للبرمانة وقلت: احتفظي بها، هذا سعدك أيتها الجميلة. البرمانة تزيل القناني من الكونطوار وتضع أخرى مكانها. كانت المسكينة تذعن لطلباتي. الرجل الذي يشبهني حياني بعينيه الزرقاوين. رفع كأسه تحية، المرأة تنظر إلينا كما لو كنا منشفتين تناسختا في السماء أو في الارض. أعدنا إليها الطمأنينة ودعوناها للشرب معنا فالليل مازال طويلا. لم تقل المسكينة إن سقف وقتها انتهى ولكنها راضية بما ستحكيه الغيوم في السماء. قلت للشخص الذي يشبهني من أنت؟ قال: أنا هو أنا. وضحكنا كما الأطفال تماما. قال: في الحانة يا صاحبي لا أحد يسأل عمن تكون. أنت كل شيء ولاشيء. الأساسي هنا هو ذوبان الكآبة والغضب والتوتر، وتذويب هذا يفترض السخرية من نفسك وأنت تمشط شعرك ومن الآخرين الذين يبحثون عن إيقاع هارموني بين قميصك وربطة عنقك وبين لغتك ولمعان حذائك. اشرب يا صاحبي، ولا تنظر إلى عقارب الساعة. قلت: وماذا تكتب؟ قال: الخراب لا يُكتب. أنا فقط أمحو ما كتبه الآخرون. لأول مرة شربت كثيرا ولم أتبول. لم أسأل البرمانة عن ذلك. هي خبيرة في كل شيء، في اللغة والعلوم والألوان والملابس والشفاه وكل شيء. انتبهت الى المرآة الموجودة قبالتي، لحيتي مازالت مصففة بأناقة لافتة، عيناي مغطتان بالسواد تبزغ منهما الزرقة، واسعتان سعة البحر، يخفيان الكثير من المكائد والمصائب والخيانات التي عشتها بين العمل والحانات. أنا العارف بالآدمي حين وقوفه قبالتي. قالت لي أمي يوما ما: إن فيك شيء من جدك الأكبر. لم تحدد المرحومة هذا الشيء ولم أسألها ساعتها كأني أعرف البركة التي تحملها عيناي. في الأزمات أجد نقودا في الشارع أو في مراحيض الحانات. اليوم وجدت حقيبة صغيرة في عربة ترام. فيها أكثر من خمسمائة درهم. لم أقل هذا الكلام للرجل الذي يشبهني. قلت له: ما الذي تعنيه بمحو الكتابة ، قال انس ما قلته لك، ودعني أتبول على العالم في مبولة طنجة. الأفضل للواحد منا التبول على كل الذين يعكرون مزاجه أحياء أو موتى سيان، قال الرجل الذي يشبهني. انتبهت الى أني كنت عاريا كما ولدتني أمي. ثوب شفاف يفضح أكثر مما يحجب. الآن عرفت لِمَ يركض الناس ويهربون. ولِمَ أفرغت الحانة بوضعي الجديد. قال الرجل الذي يشبهني: أعرفك والجميع يعرف أنك مت قبل يومين أو ثلاثة، وأنك خرجت للتو من المقبرة. سبحان الله الذي يحيي العظام وهي رميم. انتظرني قال وتسلل الى الخارج. تبنيت فكرة المحو منه، وطبقتها بيني وبين البرمانة. محوت الصمت الساكن بين القناني الموضوعة على الكونطوار. حدثتني عن أزمتها وصداع الأولاد والزوج الذي طلقها منذ زمن، والأم المريضة وصداع الشغل والسكارى الهاربين من مشاكلهم، وأنا الهاربة من صداع الرأس. الكل يلتقي في طنجة، ينممون ويسردون حكاياهم، هذا كل شيء يا أستاذ. أيقظتني كلمة استاذ وذكرتني بالليالي الخوالي التي أتحدث فيها باللغة العربية، حتى أني كنت معروفا عند الجميع بالأستاذ. عاد الرجل الذي يشبهني من الخارج، أزال عن جسدي بعض المزق من ثوب لا لون له . مدت له البرمانة قطعة من الثوب الأبيض وآنية بها ماء ساخن ومسح جسدي كله. نشفني بفوطة صغيرة حملها معه ثم ألبسني مثلما يلبس هو بذلة سوداء وقميصا أبيض وربطة عنق سوداء مكسرة بالأحمر والأبيض. خطوط صغيرة موزعة بفوضى أضافت لسواد ربطة العنق جمالا خاصا كما الحروف اليابانية. ارتديت الحذاء كما تعودت المقاس واحد. نظرت الى المرآة وبدا وجهي يستعيد بشاشته. مسحت المكان بسرعة .شربت ما تبقى من القناني وخرجت. تبعتني البرمانة ومدت لي الخمسمائة درهم التي وضعتها على الكونطوار. أخفيتها في جيبي. لأول مرة صادفت هذا المنظر، ربما هي الأخرى اعتقدت أني خارج للتو من المقبرة. سلام الموتى في الحلم معناه أنك قادم إليهم. تكلم مع الميت في الحلم ولا تصافحه. مازالت الرباط سهرانة مع عشاق الليل، ومازال ليلها يرقص احتجاجا قبالة البرلمان. ومازال برلمانها إسنفجة تغري الجميع. وأنا أمقت الإسفنج والبرلمان معا. تبول الرجل الذي يشبهني على مبنى البرلمان، واتجهنا مسرعين نحو أمكنة أخرى. لا أذكر تفاصيلها، ولكن الشيء الذي بدا لي ونحن نخترق صداع السكارى والموسيقى وانبهار الجميع وهم ينظرون إلي باندهاش. حل الصمت في المكان. دوي الموسيقى ينكسر بدخان السجائر، وصوت المغنية يتوقف، كأن صخرة ما سدت حنجرتها. وقف البعض منحنيا لي. كنت أعرفهم. فنانون وصحفيون وأساتذة، وموظفون. كان الشيء الذي يجمعهم هو الخيانة والسرقة، ومعرفة اصطياد الهبات. يقومون بكل شيء ممنوع، وفي الصباح تراهم وقد غسلهم رذاذ العاصمة، وأزال من حناجرهم الثمالة. يدخلون الى مكاتبهم يقظين عارفين من أين تؤكل الكتف كما يقول العامة .لقد فضحتهم يوما في إحدى الحانات بحي المحيط ومنذ ذلك الوقت تبرموا كلما رأوني. تلعثم الواحد منهم، والآخر تساءل عن الأصل والنسخة، والصحفي منهم خلص الى كوني الشبح الذي يخيف العاصمة. خرج الجميع مهرولا وخائفا ولم يتبق من المكان سوى نساء يبحثن عن الحكايا. حكايتي أنا الذي هو أنا. غدا سيشيع الخبر في كل مكان. سيبحث عني البوليس كي يعيدني الى المكان الذي تحررت منه. أعرف مصائدهم ومقالبهم سأختفي كما يختفي القنفذ في شوكه، ولن أظهر إلا في الليل، أجوب الشوارع، وأزور الأصدقاء الذين أحبهم، أشرب كثيرا حتى أتقيأ على هؤلاء الخونة. الرجل الذي يشبهني يرقص مع امرأة تلتمع عيناها بالغواية والجنس. يشدها من خصرها. وهي تحرك ردفيها بمهل. نهداها يهتزان ويرتجان على صدره. قبلها بحرارة تاركا ريقه في أحمر الشفاه. أنا الآخر كنت أرغب في الرقص لكن قدماي لا تقويان على الحركة. الليل اقترب من نهايته وأنا أجوب العاصمة وحدي، بينما الرجل الذي يشبهني خرج رفقة تلك المرأة الى مكان لا أعرفه. تذكرت صديقتي فاطمة التي ترسم الجسد الأطلسي بدقة فائقة كما لو كانت تسرد أنوثتها. هي تسكن بالمدينة المحايثة لنهر أبي رقراق. أعرف شقتها. اتكأت على عصا وجدتها صدفة، واتجهت الى المدينة الأخرى. لم تعد لي القوة كما كانت في السابق. في السابق كنت مشاء أمشي من حي إلى حي بعيد دون أن أحس بالعياء، ودون اكتراث بالكلاب والمشردين والبوليس. لم أصل الى المدينة الأخرى إلا بعد عصر اليوم الموالي. توقفت بالقرب من عمود ضوء مراقبا العمارة التي تسكن فيها صديقتي. ستخرج من عملها الى البيت، تلك عادتها. رمقتها من بعيد، ترتدي البياض كأرملة. رأتني هي الأخرى، وعانقتني. اختفت في عيني، وقادتني الى شقتها. أعطتني المفتاح، وبصعوبة انفتح الباب. ولم تسألني عما حل بي هذ الأسبوع، فقط قلت لها كان لدي موعد مع الكاتب الشاب القادم من الريف، لكنه لم يحضر. قالت: ارتح قليلا هذا بيتك. فالجميع يبحث عنك. العائلة والبوليس وبواب الحانة والجيران وحارس المقبرة. وصورك معلقة على صفحات الجرائد، والرجل الذي يشبهك اختفى هو الآخر، إنهم يرغبون في إعادتك الى المقبرة. هم يكرهون حضورك هنا أو هناك. سمعتهم يقولون ها نحن طوينا مشاكسا عنيدا كجبال الريف تماما. كنت أسمع وأسخر من كلام لم يرسله الليل الى الظلام. أسخر وأسخر ولم أحرر صديقتي فاطمة من عيني الزرقاوين. اتكأت على أريكة محدثا شخيرا عنيفا. في الصباح، وقبل خروج فاطمة الى عملها، وجَدَتِ الأريكة رمادا. حارت في الأمر ولم تحك حكايتي. بل حملت الرماد الى البحر ورمته كأن البحر هو المكان الوحيد المتبقي له.