كانت قصة عميقة في مبتدئها .. انطلقت حديثا و تفكيرا وسط مجموعة صغيرة من المثقفين المهووسين بالمغرب و تاريخه.. بآسفي وما فيها.. إلى أن انتهت لما انتهت إليه.. لم يكن أحد يعتقد، حتى أشد المتشائمين نبرة أن العيطة في آسفي ستفقد صوتها الحقيقي وتنهار انهيارا فنيا فظيعا سيلحظه الأوفياء لهذا النمط الغنائي الأصيل، قبل الدخلاء الذين باتوا يُنَظّرون ويتحدثون بكل الغباء الممكن والانتهازية المقيتة عن العيطة ومهرجانها في آسفي.. ذات تسعينيات من القرن الفائت، كان ما يزال هناك نفس حقيقي لأسئلة الثقافة والنضال التقدمي، كان هناك أيضا من ما يزال تشده العيطة والعيوط كقضية وتاريخ حقيقي .. بَانَ الراحل محمد بوحميد كباحث مُتَوَلّه ومأخوذ بالغناء الشعبي والعيطة العبدية أساسا.. – حتى لا نقول الحصباوية التي هي جزء من كل – بدا وحيدا في بداية الأمر.. وكأنه كان يرافع في أمر مشبوه يمثل الانحلال والتفسخ الأخلاقي .. ألم تحول السلطة يومها شخصية الشيخة وجسدها إلى «شيء» يصلح للظهور في مناسبات رسمية ذات الحفلات الفجة والمنافقة .. وفي أسوء الحالات والصور.. كتلة لحم تصلح للمنادمة في ليل المُدام اللذيذ.. !.. التحق أو تحديدا لاحق الفكرة من نبعها، شاب قادم من فيافي النضال داخل اليسار وفي حزب حقيقي وتاريخي اسمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. حسن نجمي الذي حل بآسفي بحثا عن أجوبة معلقة لن يفك طلاسيمها و«غوصها».. سوى شلة مميزة من أبناء الاتحاد الاشتراكي الحزب والجريدة ومعهم بطبيعة الحال الراحل بوحميد.. وهذا الكلام نقوله لأول مرة باقتصاد ودون الغوص في التفاصيل.. ولا ذكر الأسماء.. فقط نريد أن نتفرج على الأراجيف وأصحاب الأكاذيب والملفقين والمدعين الذين نبتوا في سنوات الفراغ هاته التي مرت بها البلاد على جميع المستويات… وهم اليوم يتحدثون عن العيطة وكأنهم أنبياؤها، وخدامها الأوفياء…؟ !.. لكن لحسن الحظ انتهى الأمر بتأطير أكاديمي وبحث علمي قاد الصديق والزميل حسن نجمي لتهييء رسالة دكتوراه حول تاريخ ومسار ومنابت هاته الجميلة المحبوبة العذراء التي تحمل اسم العيطة، رسالة ستترك للأجيال القادمة ولجمهور الباحثين ممن يوظفون الرصانة والموضوعية في تفكيك الوقائع والأحداث الوطنية. بكل الوضوح الممكن و التبجيل الواجب للتاريخ .. فكرة مهرجان العيطة كانت فكرة اتحادية قحة و صرفة وبدأت ببعد فكري وثقافي لافت هدفت إلى الإعلاء من قيمة هذا النمط الغنائي و استرجاع الاحترام الحقيقي للعيطة كمكون مركزي في الثقافة الشعبية المغربية بعد ما لاقته من تحقير و تهميش نهاية القرن 19 وبدايات القرن العشرين على يد السلطة في المغرب وأتباعها زمن القيدالية و قمع الإيالات.. والكلام في هذا الكلام طويل لا يسعف المقام والمقال للغوص فيه.. مهرجان العيطة في آسفي فقد اليوم صوته.. بل إن العيطة فقدت بَحَّتَها وحلت العشوائية بدل المتون و«لعتابي» .. واحتل الضجيج الموسيقي والصراخ فضاء المهرجان في صورة تقول إن القائمين على التنظيم و التهييء لهذا الموعد السنوي في مدينة تاريخية .. لا يهمهم سوى البرمجة والحصول على التمويل السمين وتمرير ثلاثة أيام من العذاب الفني و البهرجة المملة وجمع النطيحة والمتردية و سقط الأذان .. وجعل ذلك وتحويله إلى جمهور عاشق .. والحال أن الأمر لا علاقة له بالجمهور ولا بالفن ولا بحب العيطة .. لو استيقظ بوحميد وعاد من لحده .. وعاد الدعباجي وفاطنة بنت الحسين و لبصير من قبورهم .. لَشُدهوا من هول ما يقع من فظاعات و قلة حياء تسم المسؤولين عن هذا المهرجان الذي يقدم كل شيء رديء إلا الاحتفاء والجواب عن سؤال العيطة كتاريخ و فن عريق لدى المغاربة .. لكل هذا وفي مجموعه.. جل المثقفين والمهتمين والباحثين والصحافيين الذين لا يحبون ولا يَلِغون من وفي «مرقة» الميزانيات يتوحدون خلف كلمة واحدة.. إنه العبث ولابد أن يتوقف هذا اللعب الصغير.. آسفي وعيطتها أكبر من كل هذا الغباء وهذه الانتهازية التي تكره هذا الوطن الذي يحبه الوطنيون الأحرار ..