خورخي لوي بورخيس (1899-1986)، ابن محامي أرجنتيني، صار فترة سنوات العشرينيات، أحد الوجوه البارزة للحياة الأدبية في بيونس آيرس، فأصدر (دراسات ونقد أدبي). مع نهاية سنوات 1930، شرع في تأليف الحكايات التي منحته بعد الحرب شهرة عالمية. سنة1955، فقد بصره، لكنه مع ذلك سيواصل الكتابة عبر وسيلة الإملاء، حتى وفاته عن سن السادسة والثمانين. اضطر بورخيس، كي يكسب قوته، إلى الاشتغال منذ سنة 1938، كمستخدم في مكتبة توجد في ضاحية بيونس آيرس، فبورخيس الشاعر والناقد المعروف، شرع لحظتها في كتابة مشروع قصصه المتخيلة مثل (العمل النافذ لكتبي بئيس). كتابه (قصص خيالية) الصادر سنة 1944 في الأرجنتين، هو مؤلف ضخم، يضم أربع عشر قصة، أقام ديكوراً عجيباً، يندرج داخله كل عمل بورخيس. عالم ذهني، زاخر بالإحالات الأدبية والعوالم الطوباوية الغريبة جداً وكذا التأملات الميتافيزيقية والمتاهية. يصف بورخيس عالماً، يشكله عدد لانهائي من الخزانات الزاخرة بالكتب المدهشة، والأمر في العمق، ليس إلا كاريكاتورية لرؤيته للعالم. إذن، لتسليط الضوء على جانب من مسار الكاتب العالمي، نقدم هذا الحوار مع جون بيير بيرنيس، أستاذ الأدب الأسباني في جامعة السوربون. كان قد التقى بورخيس سنة 1975، في مدينة بيونس آيرس. أشرف على نشر الأعمال الكاملة لبورخيس التي دخلت مكتبة لابلياد أو الخالدين. كما أصدر مؤلفاً تحت عنوان: خورخي بورخيس، الحياة بدأت (2010). أما الجزء الأول عن السيرة الذاتية لبورخيس، فقد نشره عام (2013). يعتبر بيير بيرنيس، أحد آخري الأصدقاء الحميمين لبورخيس، لذلك فشهادته في هذا السياق، تشكل أفضل إحاطة بالمتخيل المتميز جداً للكاتب الأرجنتيني، المتشبع حد الدوار بالمرجعيات الأدبية. عالم متاهي، سيكشف عنه مؤلفه (قصص خيالية) ،أشهر منجز قصصي في القرن العشرين. o – لقد أعاد بورخيس، بصحبتكم قراءة كل متنه، في أثناء رقاده بالمستشفى في جنيف، قصد تحضير الطبعة النهائية إلى مكتبة لابلياد، غير أنه لم يكن منجذبا جدا نحو نصه قصص خيالية؟ n – ولا باقي أعماله الأخرى، فقبل وفاته بمدة قليلة، انتهى به المطاف كي يهمس إلي: «أظن بأني لم أكتب إلا عملين هما: تقرير برودي (1970)، ثم كتاب الرمل(1975)، أما ما تبقى فهي مجرد مسودات ينبغي نسيانها». معتبراً كل عمله مثل تمحيص تدريجي. في كتاباته الأخيرة، لم يستعمل إلا معجماً محدوداً جداً. أعتقد في العمق، قد توخى اختزال جميع كتبه، في جملة واحدة .لكن أن يرى كل مؤلفاته، موضوعة على رفوف مكتبة لابلياد، فلم يذهب تفكيره بتاتاً نحو هذا السعي! غير، أنه أخيراً وجد نفسه «متجاوراً مع أصدقائه، كما كرر القول، يعني بجانب دانتي وشكسبير وسيرفانتس ومونتين». o- مع ذلك فكتابه قصص خيالية، هو من منحه شهرة عالمية… n -نعم، لكنه لم يكن راغباً في هذا العنوان. لاسيما أنه من اقتراح روجي كيوا Roger Caillois، الذي أشرف على إصدار هذا العمل في الأرجنتين سنة 1944، قبل ترجمته إلى الفرنسية سنة 1955، ضمن منشورات غاليمار، فكان ذلك بداية الاعتراف به عالمياً. بورخيس، الذي التقى كيوا في الأرجنتين مدة الحرب، سيعد الأخير مثل (مكتشفه)، لكنه أيضاً يضمر له مشاعر الكره، فقد اتصفت علاقتهما بالندية، منذ تعارفهما. أيضا، يعتقد بورخيس بأن عنوان (قصص خيالية)، عام وفضفاض جداً، وكان يفضل عوضه زخارف، وكان على استعداد إن اقتضى الأمر، كي يقبل عنوان (خيالات وزخارف)، لكنه لم ينجح في إقناعهم بذلك. o – إنه عنوان سطحي شيئاً ما، قياساً لعمل جد مدهش، فأكثر من كونها مجرد تخيل، تعد تلك القصص المقتضبة تجليات فكر في غاية التعقيد والأصالة، بحيث أبدع بورخيس جنساً خاصاً به، فكيف نعرفه؟ n – نتكلم غالباً عن حكايات (عجيبة)، لكن هذا يبدو إلي بالتأكيد مختزلاً جداً. فحتى نهاية أعوام الثلاثينيات، لم يكتب بورخيس غير القصيدة والنقد الأدبي. سنة 1938، عاش صدمة على واجهتين: توفي والده، وقد كان هائماً به. ثم من ناحية ثانية، كاد بورخيس وقتها أن يفقد حياته، بعد تعفن دمه نتيجة حادث متهور على سلم، أدى إلى جلف فروة رأسه. عندما استفاق من الغيبوبة، قال مع نفسه بأنه سيحاول مواصلة عمل أبيه الذي كتب حكايات صغيرة شرقية. هكذا كتب (بيير مينار كاتب كيشوت) Quichotte، ثم النصوص الأخرى التي شكلت مؤلفه (قصص خيالية). لقد كان هذا منعطفاً جوهرياً في إنتاجه الأدبي، لكن بالنسبة إليه فهي مجرد نقطة انطلاق. o- الذي ميز سرديات بورخيس، فيما وراء إطارها الشرقي غالباً، بل الغريب في جميع الأحوال، يكمن في إحالاته الأدبية المتواصلة، فقد كان بورخيس بحق، قارئاً كبيراً… n -ينبغي العلم، أنه حتى خلال حواراته العادية، لا يتوقف بورخيس عن الاستشهاد بشكل شبه حصري، بمرجعيات أدبية مفعمة بالرموز في الغالب. مع أصدقائه الأكثر حميمية، كالكاتب (بيو كاساريز) وزوجته (سيلفينا أوكامبو)، اللذين يلتقيهما كل يوم تقريباً، فمارس معهما بلا توقف هاته اللعبة: أحدهما ينشد مقطعاً شعرياً، وعلى الآخرين إتمام القصيدة. لم يكن بورخيس، يعيش إلا وسط الكتب، لقد قضى شبابه محبوساً بين زوايا خزانة كتب لأبيه، ثم بالتأكيد نعيد التذكير بأنه اشتغل عاملاً في مكتبة صغيرة متواجدة في ضاحية المدينة، بعد وفاة أبيه لدواعي الحاجة المالية، بحيث قرأ لحظتها من بين أشياء أخرى، نص الكوميديا الإلهية. تمتع بورخيس، بذاكرة استثنائية، فمختلف ما يقرؤه يحتفظ به في رأسه، ليس فقط نصوص الإسبانية بل الإنجليزية أيضاً، اللغة التي اطلع بواسطتها على أشياء كثيرة. أستحضر في هذا السياق، أنه طبق على نفس اللعبة التي أشرت إليها: كان يستشهد ببعض المقاطع، متعمداً أن يحدث فيها تغيرات صغيرة، مترقباً ما إذا كنت سأنتبه للأمر أم لا، بمعنى كان يختبرني! وحينما، شرع في الكتابة، فقد صارت طبعاً الكتب عناصره المفضلة. o- حتى لحظة إبداعه للمفهوم في ديباجة الجزء الأول من كتابه قصص خيالية، سيكتب بورخيس «هو هذيان شاق ومنهك، أن تؤلف كتبا ضخمة… ، لقد فضلت تدوين ملاحظات على كتب متخيلة». هكذا سيبدع إن صح القول، مفهومه عن (الغريب الأدبي)، والذي سيبلغ أوجه مع نص (مكتبة بابل) الأكثر رمزية ربما ضمن باقي حكايات الكتاب… n -لقد فضل بورخيس القول عن نفسه بأنه هو ذاته (كتبي بابل). لقد وصفت حكايته هاته، عالماً متفرداً تشكله مكتبات لانهائية زاخرة بمؤلفات عجيبة. لكن ليس هذا في العمق سوى كاريكاتورية نظرته إلى الكون الذي لا يتجلى بالنسبة إليه سوى عبر الكتب. عندما فقد بصره سنوات الخمسينيات، تكفلت أمه وكذا أقاربه، بوظيفة أن يقرؤوا له، ومن ثم لم يشعر بأي صيغة من صيغ الانزواء، ولم ينعكس عليه الوضع سلباً أو يشعر بثقله، لذلك يقول: «المكتبة هي العالم»، إنه عالمه في جميع الأحوال. o – مع ذلك لا يعد كتابته سوى (إعادة كتابة)؟ n -التأويل بسيط، فبورخيس يعد بأن كل شيء قد كتب آنفاً في التوراة، الذي قرأه في سن صغير جداً. إذن، منذئذ لم يعد كل الأدب بالنسبة إليه سوى كتابة ثانية. في عمله قصص خيالية، فإن حكايته عن (بيير مينار)، الكاتب المبدع الذي أعاد تأليف (دون كيشوت) خلال بداية القرن العشرين، تعد حكاية عن ذاته. عندما كان طفلاً، فقد انجذب نحو سيرفانتيس Cervantés، وقد قرأه بداية بالإنجليزية. o – لكن ربما الأكثر إثارة، يحيل على مفهومه للأدب، باعتباره صياغة ثانية، يهمل كل مفهوم كرونولوجي. قصصه، هي مجرد مفارقات تاريخية، وكتابة مغايرة للتاريخ، هي رجات للتاريخ الأدبي تحدث الدوار. ألم يكن الأمر، مثل لعبة؟ n- بالتأكيد، لم يحب بورخيس فقط اللعب مع القارئ، لكنه أخبرني بجدية واضحة، أن الآيات الأخيرة من الكتاب المقدس(سفر الجامعة)، ليس بحسبه سوى إعادة صياغة لبعض الأبيات الشعرية عند مالارميه. لا يدخل، الزمن قط بين طيات الاعتبار في رؤيته الأدبية، التي لم تكن خاضعة لشيء من العقلانية. إنه يشتغل أولاً وفق حس التداعي، ومراسلات أدبية مدهشة غالباً، تظن بأن جميع الكتب كانت في العمق مرتبطة الواحدة بالأخرى، لذلك قال لي قبل موته «لم أكتب غير سطور معدودة، حول هذا الكتاب الكبير الذي يكتب ثانية من طرف الجميع».