عن «دار الجمل» التي يديرها الشاعر العراقي خالد أبو المعالي، صدرت الترجمة العربية لرواية «بنين» لفلاديمير نابوكوف والتي أنجزها المترجم والصحفي محمد جليد بعد جهد مضن من التدقيق والبحث حتى يضمن للرواية نَفَسها الإبداعي وبصمتها «الجينية»، خاصة أن كتابات نابوكوف المترجمة الى العربية ضئيلة جدا، بالنظر الى أن روايته «لوليتا» غطت على باقي أعماله فأصبح اسمه مقترنا بها أكثر. في هذه الرواية يتآمر نابوكوف على شخصيته الروائية «بنين»، لتصبح الشخصية في ورطة كبيرة، يصنع منها أضحوكة، يعرضها للعديد من المواقف الهزلية والدرامية في تداع هزلي من الاخطاء التي يقع ضحيتها «بنين» الشخصية الرئيسية، فيما هو يحاول أن يظهر بكامل وقار وهيبة البروفيسور أمام الأقدار الخاطئة والقطارات غير المعلومة الوجهة ، والمواقيت غير المضبوطة كأنه في صراع مع هذا العالم الجديد الغريب عنه وعن تقاليده الروسية، ما يجعل مسألة بناء شخصية متوازنة وجادة أمام الاخرين أمرا صعب التحقق. تنقلك الرواية، وكما في أغلب روايات «نابوكوف»، في غير انتظام سردي وخارج أي اتساق زمني، بين مواقف سريعة وعوالم متشابكة تتأرجح بين الحلم واليقظة ، بين اليقين والهذيان، بين الأنين والضحكات، وفصول تبدو مقتطعة تنغلق وتنفتح بعد حين. وكل هذه الغابات المتشابكة من الاحاسيس والاحداث تشكل مسار ومأساة شخصية بسيطة تتعرض للعديد من المواقف المفاجئة تحاول أن تبني مع باقي المهاجرين الروس بأمريكا ، روسيا جديدة كما تخيلوها لا كما عاشوها، مع ما يطرحه الامر من إحساس بالاغتراب والضياع. رواية «بنين» من صنف الروايات التي تتبنى شخصية محورية تتماهى مع شخصية مؤلفها، إذ يقول محمد جليد في مقدة الرواية « ونحن نقرأ روايته الموسومة باسم بطله «بنين ‹، التي صدرت في طبعتها الأولى سنة 1957، نكاد نجزم أن مسار ‹بْنين› البطل هو مسار ‹نابوكوف› الكاتب. فهل كان ‹نابوكوف› يكتب نفسه في هذه الرواية؟ نعم ولا. نعم، لأنه وصف تعرجات حياة أستاذ جامعي ولاجئ روسي، منذ فراره من جحيم النظام الذي أطاح بروسيا القيصرية، وصولا إلى ألمانيا وفرنسا حيث قضى فترة من حياته، قبل أن ينتهي به المطاف مواطنا مقيما بالديار الأمريكية. وهو مسار يتقاطع، إلى حد كبير، مع حياة «نابوكوف». وعن الصعوبات التي تعترض الاشتغال على هذا النوع من النصوص يشير جليد الى أن « هذا الاشتغال الفني والجمالي لا يقتصر فحسب على صناعة الشخصية وتشكيل مسارها الحياتي، مع ما يفترضه ذلك من انغمار في دروبها النفسية المتشابكة والمعقدة، بل يركز أيضا على الرهان اللغوي بمستوياته المتعددة: لغة السخرية، التعددية اللغوية (الإنجليزية والروسية والألمانية والفرنسية أساسا)، لغة الشعر والفلسفة والتاريخ والثقافة، لغة الذاكرة، لغة التناص والتثاقف، لغة الفن التشكيلي، الخ. أضف إلى هذا طبيعة مقومات هذه اللغة، التي راهنت أساسا على الجمل الطويلة المبنية على الاستطراد، والوصف المكثف، والاستعارات، والتركيب العجائبي الذي يولد صورا فنية مغرقة في الغرابة. الخ. كما يمثل السرد رهانا أساسيا في هذا الاشتغال، حيث يمثل لغزا محيرا ومربكا هو الآخر. إذ يظهر السارد بمظهر العارف بكل شاذة في حياة ‹بْنين› الظاهرة والخفية، وإلا كيف أمكن له أن يتسلل إلى طويته، وأن يعرف طفولته وسرائره النفسية وميولاته وأهواءه ورغباته ونزواته، بل وهلوساته وأمراضه؟ فالسارد يظهر في صور عدة، بل يتخذ لنفسه مواقف مختلفة؛ فهو صديق الطفولة، والمهاجر اللاجئ، والمثقف النبيل، والقارئ النبيه، الخ. هذا فضلا عن مستويات فنية أخرى، تتعلق أساسا بالبناء الروائي وتشكيل الشخوص وتعدد الأصوات، وهي كلها مستويات تستجيب للوعي بضرورة تجديد الكتابة الروائية. هكذا، تطرح كل هذه المستويات تحديا كبيرا على عمل المترجم؛ ذلك أن ترجمة هذه الرواية إلى اللغة العربية لن تكون بالمهمة السهلة المنال. إذ لا تكمن صعوبة هذا التحدي في اللغة وحدها، بل في دلالات النص المكثفة وثقافاته المتعددة، وكذا في المعارف الكثيرة التي يوظفها خدمةً لمشروعه الروائي، وخاصة ما يتعلق منها بعلم النفس والتحليل النفسي واللسانيات والإبداعات الأدبية والفنية التي يحيل عليها (‹تشيخوف›، ‹تولستوي›، ‹دوستويفسكي›، ‹أخماتوفا›، ‹بيكاسو›، ‹دالي›، ‹فان غوغ›، ‹ميملينغ›، ‹فان أيك›، ‹كريستوس›، الخ). ناهيك عن الصعوبات التي تطرحها مستوياته الفنية العالية التي أتيت على ذكرها آنفا. مقدمة المترجم: يقول ‘فلاديمير نابوكوف'، في حوار أدلى به لمجلة ‘بلايبوي'، ملخصا مسار حياته المتشعب: «أنا كاتب أمريكي، ولدت في روسيا، وتكوّنت في إنجلترا، هناك درست الأدب قبل أن أمضي خمس عشرة سنة في ألمانيا. جئت إلى أمريكا في سنة 1940، وقررت أن أصبح مواطنا أمريكيا، وأن أجعل من هذا البلد بيتي». ونحن نقرأ روايته الموسومة باسم بطلها ‹بْنين›، التي صدرت في طبعتها الأولى سنة 1957، نكاد نجزم أن مسار ‹بْنين› البطل هو مسار ‹نابوكوف› الكاتب. فهل كان ‹نابوكوف› يكتب نفسه في هذه الرواية؟ نعم ولا. نعم، لأنه وصف تعرجات حياة أستاذ جامعي ولاجئ روسي، منذ فراره من جحيم النظام الذي أطاح بروسيا القيصرية، وصولا إلى ألمانيا وفرنسا حيث قضى فترة من حياته، قبل أن ينتهي به المطاف مواطنا مقيما بالديار الأمريكية. وهو مسار يتقاطع، إلى حد كبير، مع حياة ‹نابوكوف›. ولا، لأنه جعل من مساره- إن صح هذا الافتراض- نقطة انطلاق فقط لصناعة فنية وجمالية تروم أن تبتكر شخصية جديدة في نمط الكتابة الروائية التي كانت سائدة إلى حدود الستينيات، شخصية مركبة ذات نزوعات معقدة وميولات طائشة حد الجنون أحيانا، ومتعقلة بشكل صارم أحيانا أخرى، شخصية تعارك الحياة الأمريكية واللغة الإنجليزية وتواجه طوارئ العالم الجديد، سعيا إلى التآلف مع حياة المنفى وتأثيراتها العبثية. فالخيال إذا هو مكمن الاختلاف بين الشخصية الواقعية والشخصية الروائية. فالكاتب يقود شخصيته الرئيسة عبر دروب لم تكن مألوفة في الفن الروائي آنئذ، لكنه كان يعرفها حق المعرفة، لأن هذه المغامرة مثلت مشروعا جماليا خاصا. إذ يقول في حوار نشر سنة 1955: «عندما شرعت في كتابة ‹بْنين›، كنت أراهن على مشروع فني خاص، قوامه أن أخلق شخصية هزلية، غير جذابة من الناحية الجسدية- خرقاء إن صح التعبير-، وأن أجعلها تظهر من بعيد- بالنسبة للأشخاص ‹العاديين›- إنسانية ومهمة، وجذابة من الناحية الأخلاقية… ما أقدم لكم هو شخصية جديدة كل الجدة في الأدب- شخصية مهمة ومثيرة للشفقة بشكل كبير- وفي الأدب تولد شخصيات جديدة كل يوم.» يقول المترجم محمد جليد عن الصعوبات التي تعترض الاشتغال على هذا النوع من النصوص أن « هذا الاشتغال الفني والجمالي لا يقتصر فحسب على صناعة الشخصية وتشكيل مسارها الحياتي، مع ما يفترضه ذلك من انغمار في دروبها النفسية المتشابكة والمعقدة، بل يركز أيضا على الرهان اللغوي بمستوياته المتعددة: لغة السخرية، التعددية اللغوية (الإنجليزية والروسية والألمانية والفرنسية أساسا)، لغة الشعر والفلسفة والتاريخ والثقافة، لغة الذاكرة، لغة التناص والتثاقف، لغة الفن التشكيلي، الخ. أضف إلى هذا طبيعة مقومات هذه اللغة، التي راهنت أساسا على الجمل الطويلة المبنية على الاستطراد، والوصف المكثف، والاستعارات، والتركيب العجائبي الذي يولد صورا فنية مغرقة في الغرابة. الخ. كما يمثل السرد رهانا أساسيا في هذا الاشتغال، حيث يمثل لغزا محيرا ومربكا هو الآخر. إذ يظهر السارد بمظهر العارف بكل شاذة في حياة ‹بْنين› الظاهرة والخفية، وإلا كيف أمكن له أن يتسلل إلى طويته، وأن يعرف طفولته وسرائره النفسية وميولاته وأهواءه ورغباته ونزواته، بل وهلوساته وأمراضه؟ فالسارد يظهر في صور عدة، بل يتخذ لنفسه مواقف مختلفة؛ فهو صديق الطفولة، والمهاجر اللاجئ، والمثقف النبيل، والقارئ النبيه، الخ. هذا فضلا عن مستويات فنية أخرى، تتعلق أساسا بالبناء الروائي وتشكيل الشخوص وتعدد الأصوات، وهي كلها مستويات تستجيب للوعي بضرورة تجديد الكتابة الروائية. هكذا، تطرح كل هذه المستويات تحديا كبيرا على عمل المترجم؛ ذلك أن ترجمة هذه الرواية إلى اللغة العربية لن تكون بالمهمة السهلة المنال. إذ لا تكمن صعوبة هذا التحدي في اللغة وحدها، بل في دلالات النص المكثفة وثقافاته المتعددة، وكذا في المعارف الكثيرة التي يوظفها خدمةً لمشروعه الروائي، وخاصة ما يتعلق منها بعلم النفس والتحليل النفسي واللسانيات والإبداعات الأدبية والفنية التي يحيل عليها (‹تشيخوف›، ‹تولستوي›، ‹دوستويفسكي›، ‹أخماتوفا›، ‹بيكاسو›، ‹دالي›، ‹فان غوغ›، ‹ميملينغ›، ‹فان أيك›، ‹كريستوس›، الخ). ناهيك عن الصعوبات التي تطرحها مستوياته الفنية العالية التي أتيت على ذكرها آنفا.