منحنى كوزنيتس: الاخبار سارة في عز الحرب الباردة لقد كان كوزنيتس واعيا بان التقلص الذي عرفته المداخيل العليا في الولاياتالمتحدة بين 1913و1948 هو بمثابة الحادثة العرضية ، وانه نتج بشكل كبير عن الصدمات المتلاحقة التي أحدثتها أزمة 1929 ثم الحرب العالمية الثانية بعدها ، وانه بالتالي لم يات في سياق مسلسل طبيعي أوتوماتيكي ، وهكذا ففي اعماله سنة 1953 تولى تحليل معطياته الإحصائية بشكل مدقق وحذر القراء من أية استنتاجات متسرعة، لكن وفي شهر دجنبر من سنة 1954، وخلال اللقاء الذي عقدته بمدينة ديترويت Detroit جمعية الاقتصاديين الأمريكيين (التي كان رئيسها) ذهب كوزنيتس بعيدا في التفاؤل وهو يتولى تفسير النتائج التي توصل اليها في اعماله سنة 1953 .لقد كانت المحاضرة التي القاها بالمناسبة والتي نشرت سنة 1955 تحت عنوان « النمو الاقتصادي وإشكالية اللامساواة في توزيع المداخيل « هي المدخل لما اصبح يعرف ب « منحنى كوزنيتس».ووفقا لنظرية كوزنيتس فان المنتظر ، في كل الأحوال والأمكنة ان تأخذ اللامساواة منحى اسماه « منحنى صوت الجرس» ، بمعنى انها في بداية الامر تتزايد في الارتفاع لكنها مع مسار التطور الصناعي والنمو الاقتصادي تميل تدريجيا نحو الانخفاض ، ووفقا لكوزنيتس فان المرحلة الاولى الموسومة بتنامي اللامساواة تطابقت اجمالا مع القرن التاسع عشر فيما كان النصف الاول من القرن العشرين هو المرحلة اللاحقة ضمن هذا المنحنى ، حيث عرفت اللامساواة انخفاضا حاسما. لقد قدم كتاب كوزنيتس سنة 1955إضاءة في غاية الأهمية ، فبعد ان حذر القراء من ضرورة الاحتراس عند تفسير المعطيات وبعد ان أشارا فى الدور الذي لعبته الصدمات الخارجية في التقليل من حجم اللامساواة في الولاياتالمتحدة أوضح ان الدينامية الداخلية للتطور الاقتصادي يمكنها، حتى في غياب أية عوامل او صدمات خارجية، ان تحقق نفس النتائج .كانت الفكرة التي دافع عنها كوزنيتس ان اللامساواة تتزايد في بداية مرحلة التصنيع اعتبارا لكون الفئة التي تكون مهيئة للاستفادة من مسلسل التصنيع عند بدايته تكون عادة محدودة، لكن اللامساواة في المراحل اللاحقة من التطور تميل الى الانخفاض بشكل أوتوماتيكي ، وينعكس مفعول ذلك على اعداد متزايدة من السكان. من المفترض ، طبقا لهذا التصور ان تكون المرحلة المتقدمة من مسلسل التطور قد بدات في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين ، ومن المفترض كذلك ان ان تناقص الفوارق الذي سجل في الولاياتالمتحدة بين 1913و1948هو نموذج قابل للتعميم على كل البلدان المتطورة ، بل وحتى على البلدان النامية في المرحلة المابعد-كولونيالية. ان المعطيات التي قدمها كوزنيتس في كتابه سنة 1955اصبحت في وقت قياسي سلاحا سياسيا قويا .كان كوزنيتس يدرك الطابع النظري -بالضرورة - لأعماله ، لكن تقديم تلك الاعمال بما انطوت عليه من روح تفاؤلية امام اهم جمعية اقتصادية أمريكية وأمام جمهور مستعد وميال لتصديق الاخبار السارة والترويج لها ما دامت صادرة عن باحث مبرز ، كان يشكل له مصدر إغراء يعزز لديه القناعة بان اعماله ستمارس تأثيرا حاسما . هكذا إذن ولد منحنى كوزنيتس. كان الاقتصادي الامريكي يود طمأنة نفسه بان كل من حوله يدرك التحدي الذي كان مطروحا، ولذلك عمل بكل ما توافر له من وسائل لإقناع مخاطبيه بان الغرض من إبراز الروح التفاؤلية لخطابه ، الى جانب الاعتبارات الاخرى هو المحافظة على بقاء البلدان النامية ضمن مجال العالم الحر . لقد كان منحنى كوزنيتس إذن ، وبشكل كبير ، منتوجا من منتوجات الحرب الباردة. وتلافيا لأي سوء فهم، دعوني اؤكد ان العمل الرائد الذي اضطلع به كوزنيتس في التأسيس لاول جداول المحاسبة الوطنيةnational accounts في الولاياتالمتحدة وكذا التأسيس لاول سلسلة تاريخية لمؤشرات قياس اللامساواة كانت على درجة حاسمة من الأهمية . ومن الواضح عند قراءة كتبه ( وليس المقا لات والمداخلات المكتوبة) انه كان يتقاسم مع اكبر الكتاب القيم والايتيقا العلمية ، ومن المؤكد كذلك ان مستويات التطور المرتفعة التي سجلت في كل الأقطار المتطورة بعد الحرب العالمية الثانية كانت ظاهرة ذات دلالة كبيرة مثلما كان مهما وذو دلالة كبيرة أيضاكون كل المجموعات الاجتماعية استفادت فعلا من ثمرات التطور. ومع ذلك فالظاهر ان النظرية المتضمنة لمنحنى كوزنيتس السحري صيغت لأغراض ولأسباب مشكوك في وجاهتها، كما ان الإطار الوقائعي التجريبي الذي تأسست عليه يبقى إطارا هشا : فالانخفاض المهم في اللامساواة على مستوى المداخيل الذي لاحظناه في كل الأقطار المتقدمة تقريبا بين 1914و1945 كان وراءه كسبب رئيسي ، في نهاية الامر، حربان عالميتان بكل ما حملتاه من صدمات اقتصادية وسياسية عنيفة ( خاصة بالنسبة للثروات الكبرى ) ، ولم يكن لذلك أية علاقة بالحركية البين- قطاعية او البين- اجتماعية التي تحدث عنها كوزنيتس. عودة قضية التوزيع الي موقع المركز في التحليل الاقتصادي القضية في غاية الأهمية ليس فقط لأسباب تاريخية ، فمنذ السبعينيات الماضية تزايدت الفوارق في المداخيل بشكل كبير في البلدان الغنية ، وخاصة في الولاياتالمتحدة ، حيث نجد ان تمركز المداخيل خلال العقد الاول من القرن الواحد والعشرين عاد الى المستوى الذي كان عليه خلال العقدين الأولين من القرن العشرين ، ان لم يكن قد تجاوزه فعلا.واعتبارا لهذا المعطى يصبح من الضروري ان نفهم بوضوح كيف ولماذ انخفضت الفوارق خلال الفترة الوسيطة بين المرحلتين المذكورتين . من المؤكد ان التطور السريع للأقطار الصاعدة وخاصة الصين كان احد العوامل وراء تقلص الفوارق على المستوى الشمولي ، بنفس الصورة التي كان بها التطور الذي عرفته الأقطار الغنية بين 1945و 1975 قد عمل على تقليص الفوارق وقتها داخل الأقطار المتطورة ، لكن هذا الاتجاه في التطور حمل معه قلقا عميقا في البلدان الصاعدة وقلقا اكبر، ربما،في البلدان الغنية . اضافة الى ذلك فان الاختلالات الكبيرة التي سجلت خلال العقود الاخيرة في الاسواق المالية وأسواق النفط والأسواق العقارية خلقت شكوكا حول فعالية ما اسماه كوزنيتس وسولو solow ب» طريق التنمية المتوازن «، والذي بمقتضاه يفترض ان كل المتغيرات الاقتصادية تتحرك بنفس الوتيرة وفي نفس الاتجاه . ولنا ان نتسائل : هل سيكون عالم 2050 او 2100 مملوكا بالكامل لمتعاملي البورصة الكبار او للمدراء الكبار او لأصحاب الثراء الفاحش ام للبلدان المنتجة للنفط ام لبنك الصين ، ام سيكون مملوكا لاباطرة مراكز التهرب الضريبي Tax havensالذي يتسابق نحوها العديد ممن ذكرنا بحثا عن ملجأ مريح . سيكون من العبث ان لا نطرح السؤال حول طبيعة مالكي ثروات الغد وما نوع هذه الثروات ، سيكون من العبث ان نكتفي بترديد تلك المقولة المكرورة بان التطور سيكون متقاسما ومتوازنا بشكل طبيعي على المدى البعيد. ويبدو اننا نوجد اليوم ، ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين، في نفس الوضعية التي وجد أسلافنا انفسهم فيها في بداية القرن التاسع عشر :اننا نشهد تغيرات ضخمة تمس مختلف الاقتصاديات عبر العالم، ومن الصعب ان نجزم بيقين ،لا بالمدى الذي ستصله تلك التغيرات ولا بالشكل الذي سياخذه توزيع الثروات خلال العقود القادمة ، ان على المستويات الداخلية للأمم او فيما بينها . يستحق علماء الاقتصاد للقرن التاسع عشر كامل الاحترام والتقدير لأنهم وضعوا إشكالية التوزيع في قلب التحليل الاقتصادي من جهة ، و سعوا الى دراسة الاتجاهات الكبرى على المدى البعيد من جهة ثانية ، وعلى الرغم من ان الإجابات التي قدموها لم تكن دائماً صائبة فقد كان لهم الفضل على الاقل في طرح الأسئلة الصحيحة.وليس هناك سبب معقول يدعونا الى الاطمئنان بان النمو يحمل في طياته عناصر التوازن والتكافؤ بصفة الية أوتوماتيكية . والحقيقة انه كان علينا منذ مدة طويلة ان نعيد مجددا وضع معضلة التوازن في مركز وقلب التحليل الاقتصادي وان نبدأ في طرح ذلك النوع من الأسئلة التي طرحت اول الامر في بداية القرن التاسع عشر . لمدة طويلة اهمل الاقتصاديون إشكالية توزيع المداخل .،اما بفعل التأثير الذي مارسته الاستنتاجات المتفائلة لكوزنيتس واما بسبب الانتصار بحماسة زائدة للنماذج الرياضية التبسيطية المبنية على ما عرف في الأدبيات الاقتصادية بالفاعلين ذووا التمثيلية representative agents. واذا كتب لاشكالية التوزيع ان تعود للواجهة من جديد وان تصبح حقا في قلب الاهتمام، فسيكون علينا ان نبدأ بعملية تجميع للمعطيات التاريخية بأكثر ما يمكن من الشمول، وبما يجعلنا نخدم الهدف المتمثل في معرفة الاتجاهات والتوجهات العامة في الماضي والحاضر . ان مثل هذا العمل التجميعي المنجز بصبر وأناة هو الذي سيمكننا من التحديد الدقيق لنوعية الآليات المتحكمة في انتاج الفوارق وتكوين صورة واضحة عن المستقبل . مصادر البحث المستعملة في الكتاب. تتأسس نتائج وخلاصات هذا الكتاب على نوعين من المصادر يمكن كلاهما من دراسة الدينامية التاريخية لتوزيع الثروة: مصادر تعالج اللامساواة وإشكالية توزيع المداخيل ومصادر اخرى تعالج مسالة توزيع الثروة وعلاقة الثروات بالمداخيل . لنبدأ بالمداخيل :لقد قمت في عملي هذا بالتوسيع المجالي والزمني للعمل الرائد الذي اضطلع به كوزنيتس بخصوص تطور الفوارق في الولاياتالمتحدة بين 1913و1948. وعلى هذا المستوى فقد تمكنت من وضع نتائج بحث كوزنيتس ( وقد كانت ذات وثاقة) في سياق اشمل وأوسع ومن ثم تحدي رؤيته المتفائلة ، بصفة جذرية، بخصوص العلاقة بين التطور الاقتصادي وتوزيع المداخيل . لم يطور احد اعمال كوزنيتس بصفة منهجية وذلك لكون سجلات الضرائب بقيت، على مستوى الدراسة الأكاديمية في وضع فريد: فقد اعتبرها الاقتصاديون شان المؤرخين بامتياز، واعتبرها المؤرخون اقرب الى اهتمام وتخصص الاقتصاديين . وكان الامر في الحقيقة مؤسفا لان دراسة دينامية الفوارق على المدى البعيد لا يمكن ان تتم بدون استخدام سجلات الضريبة في الدراسة . لقد بدات بتوسيع منهج كوزنيتس وتطبيقه على فرنسا ونشرت نتائج دراستي في كتاب صدر سنة 2001 ، بعدها ضممت مجهودي الى مجهود عدد من الزملاء من بينهم أنتوني أتكنسون Anthony Atkinsonووإيمانويل سايز Emmanuel Saezوبفضلهما امكن توسيع مجال الدراسة لتشمل أقطابا اخرى .لقد درس أتكنسون حالة بريطانيا وبلدانا اخرى وأصدرنا معا مؤلفين ظهرا بالتتابع سنة 2007و2010، عرضنا فيهما نتائج الدراسة التي شملت عشرين بلدا عبر العالم، وبرفقة إيمانويل سايز تمكنا من توسيع مجال العمل الذي توقف عنده كوزنيتس حيث ميدانه لمواكبة ما تحصل خلال فترة نصف قرن لم تكن قد شملتها إحصائياته . وقام سايز نفسه بدراسة حالات اخرى شملت كندا واليابان ، ثم ان عددا من الباحثين ساهموا في هذا المجهود البحثي نذكر من بينهم على وجه الخصوص فاكوندو الفاريدو facundo Alvaredoالذي درس حالة الأرجنتين وإسبانيا والبرتغال وكذا فابيان ديلو Fabien Dello الذي درس حالتي المانيا وسويسرا ، وقمت كذلك برفقة ابهجيت بانارجي Abhijit Baner jee بدراسة الحالة الهندية ، وبفضل مساعدة نانسي كيان Nancy Qianأمكنني دراسة الحالة الصينية . في هذه الحالات كلها ، حاولنا استعمال نفس المصادر ، نفس المناهج ونفس المفاهيم : لقد قمنا بتقييم المداخيل المرتفعة على مستوى العشريات والمدد الأطول ( مائة سنة مثلا ) انطلاقا من المعطيات الضريبية كما تبرزها تصريحات المداخيل ( مع تصحيحها بطرق مختلفة لضمان الانسجام الزمني والجغرافي سواء جهة المعطيات او جهة المفاهيم ) وقد استخلصنا حجم الدخل القومي ومعدل الدخل من جداول المحاسبة الوطنية التي كان علينا في بعض الاحيان تصويبها . وبصفة عامة فان تركيب معطياتنا كان ينطلق من المرحلة التي بدات تتأسس فيها ضريبة الدخل على مستوى مختلف الأقطار ، وهو ما كان قد حصل بالنسبة لأغلب البلدان محل الدراسة بين 1910 و1920 بل و حتى قبل ذلك بالنسبة لألمانيا واليابان، حيث تأسست هذه الضريبة انطلاقا من ثمانينيات القرن التاسع عشر . وأخيرا فان مؤشر « قاعدة المعلومات العالمي حول المداخيل المرتفعة «World Top Income Database المعروف اختصارا ب WTID المؤسس على العمل المشترك لثلاثين باحثا عبر العالم يبقى اهم واشمل قاعدة معطيات تاريخية في موضوع تطور الفوارق في المداخيل . لقد كانت قاعدة المعلومات هاته هي المصدر الاول للمعطيات في هذا الكتاب . المصدرالثاني من حيث الأهمية الذي اعتمدنا عليه يهم مجال الثروة ، بما فيها توزيع الثروة وعلاقتها بالدخل . ان الثروة تخلق الدخل بالطبع وبالتالي فان دراستها تفيد بشكل كبير في تسليط الضوء على جوانب أساسية في موضوع الدخل . وبالفعل فان المداخيل تتأتى من مصدرين :دخل ناتج عن العمل ( أجور ، رواتب، مكافآت ، مداخيل من عمل غير ماجور ، ومداخيل اخرى تصنف في عداد مداخيل العمل ) ثم هناك المداخيل المتحصلة من الراسمال ( اكرية، أرباح،فوائد ،عائدات ودائع ، عائدات اسهم ، عائدات استثمار مختلفة ، وعائدات اخرى مختلفة متحصلة من امتلاك الراسمال كائنا ما كانت طبيعته ( اراضي عقارية، مباني ، ادوات صناعية ، وسائل وسيولات مالية ، وذلك بغض النظر عن تصنيفها القانوني) . وتتضمن قاعدة المعلومات حول المداخيل المرتفعة ، المشار اليها أعلاه كما هائلا من المعلومات حول تطور المداخيل الناتجة عن الراسمال بمختلف مكوناته خلال القرن العشرين ، ومع ذلك فانه يتعين تعزيز تلك المعلومات بالاطلالة على المصادر المهتمة بصفة مباشرة بالثروات .انني اعتمد على نوعين من المعطيات، المختلفة في طابعهما التاريخي والمنهجي واعتبرها متكاملة . وبنفس الطريقة التي تفيدنا بها دراسة عائدات الضريبة على الدخل في تتبع التغيرات على مستوى الفوارق ، فان عائدات الضريبة على العقارات تمكننا من مواكبة وتفسير التغيرات الحاصلة على مستوى الثروة .لقد ادخل روبرت لامبمانRobert Lampman هذه المقاربة سنة 1962 لدراسة التغيرات في الثروات في الولاياتالمتحدة بين 1920و1956. وبعد ذلك في سنة 1978قام أنتوني اتكنسAnthony Atkinsو ألن هاريسون Alan Harisson بدراسة الحالة البريطانية بين 1923و 1972. ولقد تم مؤخرا تحيين هذه المعطيات وتعميم المقاربة في دراسة الحالتين الفرنسية والسويدية ، ومن سوء الحظ فان المعلومات المتوفرة على هذا الصعيد قليلة قياسا الى تلك المتعلقة بالفارق في المداخيل . وفي بعض الحالات المحدودة فإننا نجد معلومات حول الضريبة على العقارات تعود الى بداية القرن التاسع عشر لان تأسيس هذا النوع من الضريبة سبق تأسيس الضريبة على الدخل .لقد قمت صحبة جيل بوستيل فيناي Gilles Postel و جون لوران روزنتال Jean Laurent Rosenthal بمراكمة وتركيب المعطيات التي جمعتها الحكومة الفرنسية في فترات مختلفة، كما قمت صحبة جيل بوستيل فيناي Gilles Postel Vinay و جون لوران روزنتال Jean Laurent Rozenthal بتجميع كم هائل من المعطيات الفردية المشتتة حول الضريبة على المباني والتي مكنتنا من تكوين صورة منسجمة وواضحة حول تمركز الثروات في فرنسا منذ الثورة ، وهو ما مكننا بالتداعي من ان نرى ونقيس اثار الصدمة التي شكلتها الحرب العالمية الاولى على نطاق اشمل ، لم يكن ليسمح به التركيز فقط على الفوارق في المداخيل، والتي لا نتوفربصددها للاسف على معطيات سابقة على سنة 1900. في نفس السياق كانت اعمال جيسبير Jesper.وجون دانيال فالدنستروم Daniel waldenstrom اعمال ذات فائدة كبيرة في دراسة الحالة السويدية . لقد مكنتنا دراسة الثروات الموروثة من تتبع التغييرات التي طالت الأهمية النسبية للثراء الناجم عن هذا الصنف من الثراء مقارنة بالصنف الناتج عن الادخار، ومن ثمة الوقوف على دينامية الفوارق في الغنى والثروات بصفة شمولية . سمحت المعطيات المتوفرة بدراسة شاملة لهذا الموضوع بالنسبة للحالة الفرنسية ، حيث مكنتنا المصادر التاريخية المتاحة من التموقع ضمن زاوية نظر مثالية لملاحظة تغير نماذج الثروة على الأمد البعيد . ولقد أمكنني رفقة زملائي من تمديد الدراسة لتشمل أقطارا اخرى وخاصة بريطانيا وألمانيا والسويد والولاياتالمتحدة . كان لتلك المعطيات دور كبير في الدراسة لان دلالات اللامساواة والفوارق تتوقف على المصدر الذي تستمد منه مقوماتها ، اي انها تتوقف على معرفة ما اذا كانت تجد مصادرها في الثروات الموروثة ام في الثروات الناجمة عن الادخار. وفي هذا الكتاب فان تركيزي لم ينصب فقط على اللامساواة في حد ذاتها بل انصب ، بصورة اكبر ، على بنية اللامساواة : اقصد مصادر الفوارق في الدخل والغنى بين مختلف الفات والمجموعات الاجتماعية، كما انصب الاهتمام كذلك على مختلف النظم الاقتصادية والاجتماعية والتبريرات والتسويغات السياسية التي تقدم دائما اما للدفاع عن تلك الفوارق، واما لمناهضتها وإدانتها. قد لا تكون الفوارق سيئة في حد ذاتها ، والسؤال الاساسي الذي علينا أثارته هو معرفة اذا كانت هناك اسباب معقولة تبررها . وأخيرا فبإمكاننا ان نستخدم كل أصناف المعطيات التي تفيدنا في قياس مخزون الثروة الوطنية ( بما في ذلك الاراضي والابنية والرأسمال الصناعي والمالي ) على امتداد زمني طويل ، وبإمكاننا قياس تلك الثروة بالنسبة لكل بلد من خلال مؤشر عدد السنوات المطلوبة لمراكمتها .ان لهذا النوع من الدراسة الشاملة لمعدل الراسمال/الدخل ratio حدوده بالطبع، وانه لمن المستحسن تحليل الفوارق في المداخيل على مستوى الافراد كذلك، وقياس الأهمية المقارنة لكل من الثروات الموروثة والثروات الناتجة عن الادخار في تكوين الراسمال . ومع ذلك فان مقاربة الراسمال/الدخل تمكننا من رؤية شمولية للأهمية التي يكتسيها الراسمال في المجتمع ككل . واكثر من ذلك ففي بعض الحالات ،كبريطانياوفرنسا مثلا، فانه من الممكن جمع ومقارنة التقديرات الإحصائية لفترات مختلفة ومن ثمة تحليل الوقائع التي تعود الى بداية القرن الثامن عشر ، وهو ما يمكننا من ان نرى ونحلل الثورة الصناعية في ارتباط مع تاريخ الراسمال ، وبهذا الخصوص فإنني اعتمدت في الدراسة على المعطيات التاريخية الهامة التي جمعها في المدة الاخيرة غابرييل زوكمان Gabriel Zucman . وبصورة عامة فان دراسة كابرييل تعتبر، تقريبا ، امتدادا وتعميما لأعمال رايموند كولدسميث Raymond Goldsmith لسنوات السبعينيات . ومقارنة مع دراسات وأعمال سابقة يبدو لي ان احد الاسباب وراء فرادة هذا العمل الذي اضطلعت به في هذا الكتاب انه اعتمد على اقصى ما هو متاح من المصادر التاريخية الواثقة بهدف دراسة ديناميات الدخل وتوزيع الثروات على المدى البعيد ، وفي هذا الجانب كان لي حظ الاستفادة من امتيازين لم يتوفرا لسابقي من الدارسين : من جهة اولى استفدت من رؤية تاريخية أوسع واشمل مما توفر لغيري ، علما بان بعض المعطيات الدراسية والإحصائية التي تسجل التغيرات على الأمد البعيد لم تكن متاحة للباحثين قبل العقد الاول من القرن الواحدو العشرين، فالصدمات التي أحدثتها الحربان العالميتان استمرت في انتاج آثارها لفترة طويلة للغاية. ومن جهة ثانية فان التطورات التي حصلت في تكنولوجيا المعلوميات جعلت من السهل جدا جمع ومعالجة عدد هائل من المعطيات التاريخية. لا اقبل بالمبالغة حينما يتعلق الامر بالحديث عن الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تاريخ الأفكار ، ومع ذلك فاني اقر بان بعض القضايا التقنية تبقى جديرة بالتأمل ، لقد كان من الصعب جدا ، زمن كوزنيتس ، التعامل بنجاح مع عدد هائل من المعطيات ، بالمقارنة مع زماننا اليوم، واستمر الامر في الحقيقة على هذا النحو الى مرحلة قريبة نسبيا ، اي الى حدودالثمانينيات . وهكذا مثلا فحينما قام أليس هانسون جونزAlice Hanson Jones بجمع المعطيات المتعلقة بجرد الرصيد العقاري والابنية المتعلقة بالفترة الاستعمارية ، وحينما درس أدلين دومار Adeline domart سجلات الابنية في فرنسا انطلاقا من القرن التاسع عشر ، فانهما اعتمدا على العمل اليدوي ، ( اذا صح التعبير ) بصفة أساسية ، مستخدمين الخرائط البيانية،وحينما نعيد اليوم قراءة أعمالهم الرائدة والمتميزة او حينما نلتفت مثلا الى اعمال فرانسوا سيميناند Francois Seminand حول تطور الأجور في القرن التاسع عشر او اعمال إرنست لابروس Ernest Labrousse حول تاريخ الأجور والأسعار في القرن التاسع عشر او دراسة جون بوفييه Jean Bouvier وفرانسوا فوري Francois Furet حول مسالة التغيرات في الأرباح التي سجلت خلال القرن التاسع عشر - حينما نرى ونستعرض كل تلك الاعمال نكتشف حجم الصعوبات التي صادفتهم وهم يجمعون ويركبون المعطيات المرتبطة بأبحاثهم. وفي حالات عديدة التهمت الصعوبات التقنية الجزء الاكبر من مجهوداتهم ، بما ضيق عندهم على مجال التحليل والتفسير، خاصة وان المشكلات التقنية فرضت حدودا على قدرة أولئك الباحثين على وضع مقارنات دولية تاريخية . ان دراسة تاريخ الفوارق واللامساواة اليوم هي أيسر بكثير مما كانت عليه في السابق .من هنا فإنني مدين في إنجاز هذا الكتاب الى التطور الهائل الذي عرفته تكنولوجيا البحث .