نقدم ضمن هذا الجزء القسم الاول من مقدمة الكتاب الذي صنع الحدث في الأوساط الجامعية ومراكز البحث الكبرى والمنظمات الاقتصادية والمالية على امتداد السنة الجارية . والسنة التي سبقتها ، انه كتاب توماس بيكيتي الاستاذ بمدرسة باريس للاقتصاد « الراسمال في القرن الواحد والعشرين . لقد صنف الكتاب ضمن اكثر الكتب رواجا في العالم ولاقى رواجا غير مسبوق لباحث فرنسي في البلدان الأنجلوسكسونية بحيث استدعي صاحبه لعشرات المحاضرات واللقاءات في المعاهد والمنتديات المرموقة . الكتاب الذي اربعة فصول كبرى وخاتمة كان ثمرة عمل طويل امتد عشر سنوات وبحث في كل المصادر التاريخية في كل انواع الوثائق لتركيب صورة اخرى غير معروفة بالشكل العلمي المطلوب عن معضلة التوزيع واللامساواة والآليات التي ال تفتا تعيد إنتاجها اليوم . الأسئلة التي يحاول بيكيتي الاجابة عليها تتمحور حول السؤال الكبير : ما الذي يحرك التراكم والتوزيع اليوم ولماذا وكيف اصبحت معضلة اللامساواة في قلب الاقتصاد السياسي اليوم في اوائل القرن الواحد والعشرين بنفس الصورة التي كانت عليها في القرن التاسع عشر مع الانتشار الاول والمعمم للراسمالية؟ لنستمع الى بيكيتي ما من شك في ان إشكالية التوزيع تعتبر اليوم من اكثر الإشكاليات حضورا في ساحة النقاش العمومي واكثرها إثارة للخلاف ومع ذلك فان السؤال يبقى مطروحا بحدة :ماذا نعرف على وجه التحديد بخصوص تطور موضوع التوزيع حينما نضعه في سياق المدى الزمني الطويل ؟هل تؤدي دينامية تراكم الرأسمال،بصفة أكيدة، الى تمركز الثروة في أياد محدودة كما اكد ماركس في القرن التاسع عشر،ام ان عوامل النمو والمنافسة والتطور التكنولوجي في المراحل اللاحقة من مسار الرأسمالية تعمل بصفة تدريجية على التخفيف من حجم الفوارق وتزيد من حجم الانسجام بين الطبقات الاجتماعية كما طرح سيمون كوزنيتس في القرن العشرين؟ماذا نعرف حقا عن المسالك التي أخذها تطور الثروات والمداخيل منذ القرن الثامن عشر، وما هي الخلاصات التي يمكن استخلاصها بالنسبة لقرننا الحالي ؟ تلكم هي الأسئلة الاساسية التي أسعى للإجابة عليها في هذا الكتاب .واؤكد منذ البدئ ان الإجابات التي اقدمها هي بكل تاكيد ناقصة وغير مكتملة لكنها إجابات تتأسس على كم من المعطيات التاريخية المقارنة لم تتوفرللباحثين في الماضي ، معطيات تشمل فترة زمنية عمقها ثلاثة قرون ،وهي علاوة على ذلك مستنتجة من مسح شمل عشرين بلدا، كما تتأسس على اطار نظري /مفاهيمي يسمح بادراك أعمق للآليات والميكانيزمات المرتبطة بموضوع التوزيع . من المحقق ان التطور الاقتصادي الحديث ، مرفوقا بانتشار المعرفة وتداولها المعمم قد مكن من تلافي سيناريو الكارثة المتضمن في المتن الماركسي ، لكن ذلك التطور لم يغير بصفة جذرية من البنيات العميقة للراسمال والفوارق ، علي الاقل ليس بالصورة التي كان يتم بها تصور الامور خلال فورة التفاؤل التي أعقبت العقود الاولى بعد الحرب العالمية الثانية . حينما يتجاوز معدل عائدات الرأسمال معدل نمو المداخيل كما حصل خلال القرن التاسع عشر وكما تبين كل الاحتمالات انه حاصل الان كذلك في القرن الواحد والعشرين فمعنى هذا ان الرأسمالية تحولت الى مصدرلتفريخ عشوائي لمستويات من التفاوتات خطيرة، تضر بشكل كبير بقيم الاستحقاق المؤسسة مبدئيا للقاعدة التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. هنالك بالطبع طرق ومسالك قد تتمكن بواسطتها الديمقراطية من اعادة تثبيت المراقبة على الراسمال وضمان تفوق المصلحة العامة على المصالح الخاصة مع الإبقاء في نفس الان على الانفتاح الاقتصادي وتلافي ردود الأفعال الحمائية والقومية الضيقة. والتوصيات التي اقدمها لاحقا تدخل تماما ضمن هذا الأفق.وهي توصيات وتوجهات مستخلصة من التجربة التاريخية التي ألهمت مجموع الحكي المتضمن بين دفتي هذا الكتاب . نقاش بدون معطيات لقد ظل النقاش حول توزيع الثروة يشكو لمدة طويلة من وجود كم هائل من الأفكار المسبقة مرفوقا بنقص في المعطيات الاساسية . و سيكون من الخطأ استصغار اهمية المعرفة الحدسية التي بإمكان اي واحد منا الحصول عليها بخصوص موضوع مستويات الثروة والمداخيل في المرحلة الراهنة، حتى في غياب اي اطار نظري او تحليل إحصائي .ان مجال الانتاج الأدبي والسينمائي ، وبصفة خاصة مجال الرواية في القرن التاسع عشر تحفل بمعطيات وتفاصيل مثيرة حول مستويات الثروة و الوضعية المعيشية لمختلف الفات الاجتماعية ،وخاصة فيما يرجع للبنية العميقة للتفاوتات واللامساواة والكيفية التي يؤثر بها ذلك على حياة الناس اليومية.نعم ان روايات جون أوستن Jane Austen و أونوريه دو بلزاكHonoré De Balzacترسم لوحات اخاذة ودالة حول توزيع الثروة في بريطانياوفرنسا بين سنوات 1790 و1830. لقد كان الروائيان معا على دراية واسعة بتراتبية الثروة في المجتمعين الفرنسي والانجليزي و تمكنا من إماطة اللثام عن خبايا عالم الثروة وتأثيراته المؤكدة على حياة الرجال والنساء ، بما في ذلك استراتيجيات الزواج والأمال والاحباطات الشخصية. ان هذين الروائيين و غيرهم من نفس القيمة الفنية تمكنواحقا من تفكيك البنية العميقة والآثار المختلفة للتفاوتات بصورة قوية وبقدرة نفاذ تستعصي على اي تحليل نظري او إحصائي. ونحن نعتقد ان مسالة توزيع الثروة هي من الأهمية التي لا يجوز معها ان نتركها اختصاصا حصريا للاقتصاديين او السوسيولوجيين او المؤرخين او الفلاسفة دون غيرهم. ان الطابع المادي والملموس للامساواة يرى بالعين المجردة وهو يملي بصورة طبيعية تقييمات سياسية حادة ومتناقضة . لا يستوي بالطبع الفلاح وعضو طبقة النبلاء ، العامل وملاك المصنع النادل والبنكي ، فلكل واحد من هؤلاء بالطبع زاوية نظر تجعله يرى كيف يعيش الآخرون ويقيم نوعية العلاقات الهيمنية الموجودة بين مختلف المجموعات الاجتماعية ويحدد من ثمة معايير العادل وغير العادل . وانطلاقا من ذلك فمن المؤكد انه سيكون هنالك دوما جانب ذاتي او سيكولوجي للامساواة ، يؤدي حتما الى توليد التوترات السياسية التي يستعصي التخفيف من حدتها على اي تحليل علمي كيفما كان . ان الديمقراطية لا يمكن تعويضها بمدينة فاضلة يوجهها الخبراء ، وهو شيئ إيجابي على كل حال . ومع ذلك فان قضية التوزيع تستحق ان تتم دراستها بشكل منهجي صارم ، فبدون مصادر معلومات مدققة ومفاهيم رصينة ، يمكنك بسهولة ان ترى الشيئ ونقيضه . ان بعض الناس يميلون الى الاعتقاد بان اللامساواة هي في تصاعد وان العالم يتحول الى فضاء لإنتاج اللاعبات والبعض الاخر يرى ان اللامساواة تتقلص بشكل طبيعي وان الانسجام يحل محل التنافر بشكل أوتوماتيكي وانه والحالة هاته يتعين تجنب القيام باي شيئ قد يفسد هذا التوازن البهيج، وإزاء حوار الصم هذا الذي يبرر فيه كل طرف كسله بإلقاء اللائمة على كسل الطرف الاخر ، هناك بالتاكيد دور يمكن ان يلعبه البحث ، الذي يتوجب ان يكون منهجيا وصارما على الاقل اذا تعذر ان يكون علميا بالكامل. بالطبع فان تحليل الخبراء سيبقى عاجزا عن انهاء التوترات السياسية العنيفة التي تثيرها اللامساواة بالضرورة ، والبحث العلمي الاجتماعي سيبقى دائما غير مكتمل ، ومطبوع بالمحاولة المتجددة ، وهو لا يطمح ان يجعل من الاقتصاد والسوسيولوجياوالتاريخ علوما حقة ودقيقة ، لكن البحث المتاني والصبور للمعطيات والنماذج والتحليل الهادئ للآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفسر الوقائع والنماذج ، بإمكانهما ان يقدما إضاءة في غاية الأهمية للنقاش العمومي وان يثيرا الاهتمام الى الأسئلة الحقيقية ، من شان ذلك أيضاً ان يعيد تحديد عناصر النقاش وان يميد اللثام عن بعض المفاهيم المغلوطة وان يخضع المواقف لاختبارات صارمة . وفي تقديري فان هذا هو الدور المركزي الذي يجب ان يضطلع به المثقفون كمواطنين يشتركون في هذه الصفة مع باقي المواطنين ، وكفئة اجتماعية لها حظ او ميزة التوفر على فائض وقت قياسا الى الاخرين . وتبقى الاشارة الى ان البحث العلمي الاجتماعي في موضوع توزيع الثروة بقي لمدة طويلة يشكو من محدودية المعطيات الواثقة وطغيان التفكير النظري العائم . وقبل التقديم بشكل تفصيلي للمصادر التي حاولت تجميعها في هذه الدراسة اود ان اقدم عرضا تاريخيا ملخصا عن مجمل الفكر السابق الذي تناول هذا الموضوع ( التوزيع ) وما يرتبط به من قضايا وإشكاليات . مالتوس، يونغ، والثورة الفرنسية حينما نشا الاقتصاد السياسي في انجلتراوفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر كان موضوع التوزيع واحدا من القضايا المركزية .كان الجميع يدرك ان تحولات عميقة هي في طور التشكل، سرع من وثيرتها النمو الديموغرافي - وهي ظاهرة لم تكن معروفة في السابق- مضافا اليها الهجرة الكبيرة من الأرياف والثورة الصناعية ، وكان السؤال الذي فرض نفسه على الجميع : كيف ستؤثر هذه المتغيرات على توزيع الثروة وعلى مجموع البنية الاجتماعية وعلى التوازن السياسي في المجتمعات الاوروبية ؟ -بالنسبة لمالتوس ، الذي الف سنة 1798 كتابه «، محاولة في مبدا السكان « لم يكن يراوده أدنى شك في ان التحدي والخطر الاكبر هو تزايد اعداد السكان ، وعلى الرغم قلة مصادره فقد استغلها الى اقصى ما يمكن . وكان من بين ما اثر بشكل كبير على كتاباته يوميات أرثر يونغ وهو عالم زراعي انجليزي سافر بشكل مكثف في الربوع الفرنسية من منطقة كالي الى جبال البيريني ومن بروتاني الى فرونش كونتي خلال سنتي 1787و1778اي قبيل اندلاع الثورة الفرنسية مباشرة . لقد كتب يونغ عن ظواهر الفقر التي شاهدها في البوادي الفرنسية . كانت فرنسا خلال تلك المرحلة اكثر البلدان الاوروبية من حيث عدد السكان وكانت بسبب ذلك المكان المثالي الذي قد يغري الباحثين بالدراسة والملاحظة . كان البلد قد وصل الى 20مليون نسمة في تعداد سكانه( مقارنة مع 8ملايين في بريطانيا و5 في انجلترا لوحدها). لقد تزايد عدد سكان فرنسا بشكل كبير طيلة القرن الثامن عشر من نهاية حكم لويس الرابع عشر الى وفاة لويس السادس عشر ، وفي سنة 1780 كان عدد السكان يقارب الثلاثين مليونا . وفي ظل وضع كهذا فقد كان هناك ما يكفي من الاسباب التي تدفع الى الاعتقاد بان هذا التزايد السكاني السريع ساهم في ركود الأجور الزراعية وارتفاع أكثرية الاراضي خلال العقود التي أعقبت انفجار 1789. وعلى الرغم من ان هذا التحول الديموغرافي لم يكن العامل الوحيد الذي فجر الثورة الفرنسية فقد ساهم بشكل حاسم في تزايد لا شعبية الأرستقراطية والنظام الحاكم . ومع ذلك فان السرد الحكائي الوارد في مؤلف يونغ سنة 1792حمل بشكل واضح معالم آراء مسبقة ذات طابع قومي ضيق كما تاسس على نوع من المقارنة المضللة ،لقد حكى هذا العالم الزراعي الكبير عن حالة الرداءة التي وجد عليها المنازل التي أقام بها بفرنسا كما وصف الحالة المزرية للخدم من النساء داخل تلك المنازل . وعلى الرغم من الطابع العادي بل والمثير للفكاهة في بعض الاحيان للملاحظات التي دونها في محكياته فقد كان الرجل على يقين بان بإمكانه ان يستنتج منها خلاصات ذات دلالات عالمية .لقد كان متيقنا ان الفقر الجماهيري المعمم الذي شاهده مباشرة سيقود لا محالة الى انتفاضة سياسية عارمة وقد ردد بكل قناعة كذلك ان وحده النظام السياسي الانجليزي ، الذي يفصل داخل البرلمان بين مجلس العموم والأرستقراطية، مقدما في نفس الان حق فيتو سياسي للنبلاء ، يمكنه ضمان تطور منسجم ، يقوده شعب مسؤول.لقد كان مقتنعا - او هكذا أظهرت كتاباته- ان فرنسا كانت تتجه للانهيار حينما قررت سنة 1789/1790 الجمع بين ممثلي العموم وممثلي الأرستقراطية في مجلس واحد. وليس من المبالغة في شيئ القول بان مجموع محكياته بخصوص الأوضاع في فرنسا وقتها كانت تحددها اساسا مخاوفه من حريق الثورة الفرنسية. هكذا إذن ففي كل مرة يقع الحديث عن توزيع الثروة فان السياسة تاخذ مكانها المركزي في الموضوع . وليس بمقدور احد التخلص من الأفكار المسبقة ذات الحمولة الطبقية . وحينما كتب مالتوس كتابه حول السكان فانه انتهى الى خلاصات مشابهة لخلاصات مواطنه يونغ:فمثل يونغ كان مالتوس شديد التخوف من الفكرة الثورية الجديدة الرائجة في فرنسا، وكان بصورة ما يطمئن نفسه بان ما حدث فرنسا لن يكون له نظير في بريطانيا ، وقد اعتبر ان أية مساعدة للفقراء يجب ان تتوقف دفعة واحدة وان عمليات الإنجاب في وسط الفقراء يجب ان تخضع لمراقبة صارمة لتلافي الانفجار الديموغرافي غير المحدود المؤدي للفوضى والفقر!! ومن المستحيل فهم التوقعات المبالغة في التشاؤم الواردة في كتابات مالتوس ما لم نأخذ في الحسبان ذلك الخوف الكبير الذي استبد بالنخب الاوروبية خلال تسعينيات القرن الثامن عشر. ريكاردو: مبدا الندرة من السهل جدا اليوم ان نتندرو نحن نعيد قراءة تلك التوقعاتالقطعية ، ولكن علينا ان نقف مع ذلك على حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر . لقد كانت -موضوعيا -تحولات مفصلية، حاسمة وصادمة بالنسبة للذين عايشوها . وفعلا فان اغلب الملاحظين المعاصرين ليونغ ومالتوس حملوا تصورات كارثية حول تطور توزيع الثروة على المدى البعيد و كذا تطور البنية الطبقية للمجتمع .لقد كان ذلك صحيحا بصورة خاصة في حالة كل من دافيد ريكاردو وكارل ماركس اللذين كانا الاقتصاديان الاكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر، والذين عبرا عن اعتقادهما بان طبقة اجتماعية محدودة -ملاك الاراضي عند ريكاردو والرأسماليون الصناعيون عند ماركس- ستستاثر بحصة متزايدة في المداخيل. وبالنسبة لريكاردو الذي الف «مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة» ...فان الاهتمام الرئيسي انصب على تطور أسعار الاراضي والاكرية على المدى البعيد .ومثل مالتوس فانه لم يكن يتوفر على احصائيات واثقة، ومع ذلك فقد كان محيطا بحقيقة الرأسمالية في عصره . لقد ولد في حضن اسرة يهودية ذات اصول برتغالية تشتغل في شؤون المال والائتمان . وكان فيما يظهر اقل تأثرا بالا فكار المسبقة بالمقارنة مع يونغ او سميث . لقد تأثر بالنموذج المالتوسي ولكنه ذهب به الى حدوده القصوى ، وصب اهتمامه بالأساس على المفارقة المنطقية التالية . حينما يبدأ عدد السكان ونتائج الثروة في النمو بصفة ملموسة، فان الارض تصبح نادرة قياسا الى الخيرات الاخرى ،وهكذا فان قانون العرض والطلب يعني ان ثمن الاراضي سيشهد ارتفاعا متواصلا ، وكذا الشان بالنسبة لعائدات الأكرية لملاك الاراضي .وبالتبعية والنتيجة فان حصة ملاك الاراضي في الدخل القومي ستشهد ارتفاعا يوازي انخفاض حصة باقي الطبقات والمجموعات ، ما يهدد التوازن الاجتماعي . وبالنسبة ليريكاردو فان الجواب الوحيد ، المقبول منطقيا وسياسيا على ما تطرحه هذه الوضعية من تحديات ، هو الرفع من الضريبة المفروضة على عائدات الأكرية. التطورات الاقتصادية اللاحقة أثبتت خطا هذا التوقع الوارد في الصورة القاتمة التي رسمها ريكاردو : لقد بقيت عائدات أغلبية الاراضي مرتفعة لفترة طويلة ، لكن قيمة الارض ، على المدى البعيد ، عرفت انخفاضا قياسا الى باقي مصادر الثروة، لان نسبة الفلاحة في الدخل القومي تراجعت . لقد كتب ريكاردو كتابه خلال العشرية الاولى من القرن التاسع عشر ، ولم يكن بإمكانه بالطبع ان يتوقع اهمية التطور التكنولوجي ولا النمو الصناعي الذي ستعرفه العقود اللاحقة .ومثل مالتوس و يونغ فانه لم يكن يتصور ان البشرية يمكنها ان تتحرر من اكراهات الاقتصاد الزراعي الأولي . ومع ذلك فان تأملاته حول ثمن الاراضي كانت في غاية الأهمية : يتعلق الامر بمبدأ الندرة الذي انطلق منه والذي كان يعني ان بعض الاسعار يمكن ان تظل مرتفعة على مدى عقود من الزمن .وكان هذا كافيا في حد ذاته لزعزعة استقرار مجتمعات باسرها .ان نظام الاسعار يلعب دورا محوريا في الواقع في تنسيق أنشطة الملايين من الناس ، وفي المجمل اليوم ،فان الامر يتعلق بملايين الافراد ضمن الاقتصاد المعولم الحالي .والمشكلة هنا ان نظام الاسعار لا يعرف حدودا كماانه لا ينبني على أخلاقيات محددة . سيكون من باب الخطأ الكبير عدم الانتباه الى اهمية مبدا الندرة في فهم التوزيع العالمي الشمولي للثروة في القرن الواحد والعشرين ، ولادراك ذلك، والإقتناع به ، يكفي ان نضع مكان اسعارالاراضي ، كما في النموذج الريكاردي ، أثمان الممتلكات العقارية real estates في كبريات العواصم العالمية ، او أسعار النفط ، لتتضح الصورة: في الحالتين معا ، اذا أخذنا الفترة من 1970 الى 2010 واستشرفنا على ضوئها ما يمكن ان يحصل في الفترة من 2010 الى 2050 او 2100، فان النتيجة هي توقع شروخات ضخمة وعدم توازن كبير، سياسي واجتماعي واقتصادي ، لا فقط بين مختلف البلدان ولكن بداخل البلدان أيضا ، شروخات وانعدام توازنات تذكرنا بالصورة السوداوية الكارثية التي رسمها ريكاردو. طبعا هناك مبدا اقتصادي بسيط يمكن ان يعمل على تصحيح الاختلالات يرتبط بميكانيزم العرض والطلب : اذا حصل واصبح ثمن أية مادة من المواد المعروضة مرتفعا بصورة مهولة ، فان الطلب عليها لا بد ان ينخفض ، مما يؤدي بالضرورة الى انخفاض في السعر. وبعبارة اخرى فإذا ارتفعت أسعار العقار وأسعار النفط بشكل مهول ، فبالإمكان تصور ان ينتقل او يرحل الناس الى البوادي وان يستقلوا الدراجات في تحركاتهم . لا يهم ان كانت هذه التأقلمات ستكون قاسية وصعبة ، و من المؤكد انها -هذه التأقلمات السلوكية الاقتصادية- ستستغرق عقودا قد يتمكن خلالها ملاك العقارات والنفط من إنجاز ما يبتغون بحيث ينتهي بهم الامر الى امتلاك كل ما هو قابل للامتلاك ، بما في ، السكن في البوادي والدراجات النارية دفعة واحدة . ان الأسوأ لا يحدث دائماً بالطبع، كما يعلمناالتاريخ، وقد يكون من السابق لأوانه مثلا ان نحذر القراء بانهم قد يكونون مطالبين بأداء واجبات أكرية لأمير قطرفي غضون سنة 2050.و ساتولى معالجة الموضوع في سياق هذا البحث ، وسيكون جوابي بعيدا عن أية قطعية وان كنت اعرف انه لن يشفي غليل اولئك الذين يودون طمأنتهم بشكل كامل، لكن من المهم ان نؤكد منذ الان ان ميكانيزم العرض والطلب لا يزيح باي شكل من الأشكال امكانية حصول فوارق في الثروة ، واسعة وممتدة في الزمان مرفوقة بتغيرات قصوى في بعض الاسعار النسبية . تلك هي الانعكاسات الاساسية لمبدأ الندرة الريكاردي. ماركس : مبدا التراكم اللامتناهي حينما نشر ماركس الجزء الاول من « الراسمال» سنة 1867،كان قد مضى نصف قرن على صدور كتاب ريكاردو ، كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت بصفة عميقة : لم يعد السؤال المطروح هو فيما اذا كان على المزارعين توفير الغذاء لعدد من السكان يتزايد باستمرار ، او فيما اذا كانت أسعار الاراضي ستعرف ارتفاعا مهولا ، بل اصبح السؤال المطروح هو كيف يمكن فهم دينامية الرأسمالية الصناعية التي كانت في طور الصعود . كان المعطى الاكثر مدعاة للاهتمام وقتها هو وضعية الفقر المدقع للبروليتاريا الصناعية ، فعلى الرغم من تطور الاقتصاد ، او ، جزئيا على الاقل ، بسبب هذا التطور ، وبسبب الهجرة القروية المرتبطة بالنمو الديموغرافي وتزايد إنتاجية الفلاحة ، وقع تكدس العمال في urban slums . كان يوم العمل طويلا والأجور منخفضة ، وبرزت في سياق ذلك ظواهر فقر حضري واضحة للعيان ، صادمة ومستفزة كانت في كثير من الاحيان اكثر قسوة من مظاهر فقر البوادي في ظل النظام القديم ، وهكذا فان روايات جيرمنال واوليفر تويست والبؤساء لفيكتور هيغو لم تخرج بالصدفة من خيال اولئك الروائيين الكبار , كما لم يكن من باب مصادفات التاريخ ان صدر قانون يحظر تشغيل الاطفال دون سن الثامنة في المقاولات في فرنسا سنة 1841اوان يصدر قانون مماثل في بريطانيا سنة1842 يمنع نزول الاطفال دون سن العاشرة الى المناجم . وفي كتاب الدكتور فيليرم « صورة عن الحالة المادية والمعنوية للمشتغلين في المانيفاتورات» الصادر سنة1840 والذي كان وراء صدور قانون العمل (المحدود في طموحه) حول تشغيل الاطفال ، نجد تشخيصا لأوضاع فظيعة ، نفس الأوضاع التي وقف عليها وحللها فريدريك إنجلز في كتابه « وضعية الطبقة العاملة في انجلترا» الصادر سنة 1845.» ان المعطيات التاريخية المتوفرة لدينا اليوم تبين ان ارتفاع الأجور والقدرة الشرائية لم تحدث الا في النصف الثاني اوالثلث الاخير من القرن التاسع عشر ، فطوال الستة عقود الاولى ظلت أجور العمال شبه مجمدة في المستويات التي كانت عليها خلال القرن الثامن عشر والقرون السابقة .ان هذا الجمود في الأجور الذي تسجله الوقائع سواء في فرنسا او بريطانيا تصاعد.لان النمو الاقتصادي كان قائما على قدم وساق خلال تلك الفترة . لقد كانت عائدات الراسمال قياسا الى الدخل القومي ( الارباح الصناعية وعائدات أكرية المباني والاراضي ) ترتفع بشكل مضطرد خلال القرنين السابقين على منتصف القرن التاسع عشر، حسبما تؤكد الوثائق المتوفرة وقتها . وهذه الأرباح لم تعرف بعض الميل نحو الانخفاض الا في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، حينما بدات الأجور، لاول مرة ترتبط بمستويات النمو ، ومع ذلك فان المعطيات المتوفرة لدينا تبين ان الانخفاض البنيوي في اللامساواة لم يحصل حقاً بشكل محسوس قبل الحرب العالمية الاولى ، وما لاحظناه بالنسبة للفترة الممتدة من 1870الى 1914كان في أحسن الحالات مجرد استقرار لحجم اللامساواة في مستوياتها السابقة، المرتفعة جدا، وفي مناح متعددة جرى استمرار تلك الحلقة المفرغة المتميزة بتمركز الغنى والثروات . ومن الصعب الحديث عما كان يمكن ان تقود اليه تلك الوضعية بدون تلك الصدمة السياسية والاقتصادية التي حملتها الحرب ، و بواسطة التحليل التاريخي والرؤية التاريخية يمكننا ان نرى ونلمس الان ان تلك الصدمات الكبرى الشبيهة في قوتهابصدمة الثورة الصناعية كانت وحدها الكفيلة فعلا بالتخفيف من غلواء اللامساواة . وفي كل الأحوال فان الراسمال ازدهر ومعه الأرباح الصناعية في حين عرفت الأجور جمودا خلال الأربعينيات من القرن التاسع عشر . لقد كان هذا المعطى معروفا لدى الجميع رغم ان المعطيات الإحصائية الوطنية المدققة لم تكن موجودة . كانت تلك الفترة بالذات هي الفترة التي ولدت فيها اولى الحركات الاشتراكية والشيوعية : كانت الفكرة الأساس : ماذا ينفع التطور الصناعي التكنولوجي وحركية السكان بين الفضاءات الحضرية والقروية اذا كانت وضعية الجماهير العريضة في حالة من الفقر والحاجة مثلما كانت عليه في السابق وربما بشكل افظع ؟ما النفع اذا كان صناع القوانين لا يمكنهم فعل اي شيئ عدا اصدار قانون يحظر تشغيل الاطفال دون سن الثامنة ؟ كان انهيار النظام الاقتصادي والسياسي يبدو أكيدا وكان الناس يتساءلون عن المستقبل . كانت هذه هي المهمة التي نذر ماركس نفسه لها في سنة 1848 اي في فجر ما عرف بربيع الامم ( الثورات التي عمت اوروبا خلال تلك الفترة ) . اصدر ماركس كراسته الشهيرة» البيان الشيوعي « التي ابتدأت بتلك العبارة الشهيرة « ان طيفا مخيفا يطل على كامل اوروبا ، انه الشيوعية « . الحراسة توقعت ان تعم الثورة كل الارجاء الاوروبية . « ان تطور الصناعة العصرية يهدد الأسس التي أقامت عليها البورجوازية هيمنتها وان ما تنتجه البورجوازية في نهاية الامر هو نهايتها اي سقوطها وانتصار البروليتاريا شيئ محتم « . وخلال العقدين اللذين أعقبا صدور البيان الشيوعي عمل ماركس على صياغة مؤلفات ضخمة تشرح دواعي ذلك التوقع وتقدم تحليلا علميا للرأسمالية ومالاتها. لقد صدر الكتاب الاول من الرسمال سنة 1867, لكن ماركس توفي سنة 1883دون ان يتمكن من انهاء الجزئيين الثاني والثالث وتولى صديقه إنجلز نشر الجزئين حيث عمل على تركيب مؤلف انطلاقا من مخطوط كان تركه ماركس غير مكتمل . ومثل ريكاردو فقد تولى ماركس تحليل التناقضات التي تعتري المنظومة الرأسمالية من الداخل وحرص على تمييز نفسه سواء عن الاقتصاديين البورجوازيين او الاشتراكيين الطوباويين على غرار بر دون : فال اقتصاديون البورجوازيون رأوا في السوق في حد ذاته ميكانيزما تصحيح يا قادرا على تحقيق التوازن من ذاته في وفاق مع ما كان يسميه ادم سميث باليد الخفية ، وفي وفاق كذلك مع قانون جون باتيست ساي الذي اعتبر ان الانتاج يخلق عرضه الخاص . اما الاشتراكيون الطوباويون فانهم بحسب ماركس اكتفوا بالتنديد بمظالم الرأسمالية ومظاهر الفقر الذي تسببت فيه دون ان يقدموا تحليلا علميا للمسلسل قاد اليها ( اي الراسمالية ). وفي الجملة، انطلق ماركس من النموذج الريكاردي حول سعر الراسمال ومبدا الندرة كمنطلق لتحليل اكثر شمولية لدينا ميةالرأسمالية في عالم اصبح فيه الراسمال صناعيا بالدرجة الاولى( الآلات) اكثر من كونه امتلاك لأراض وحيث انه والحالة هاته لا حدودا للتراكم ، وبالإمكان تلخيص النتيجة النهائية التي انتهى اليها بمبدأ التراكم اللامتناهي اي الاتجاه العارم بالنسبة للراسمال الى التراكم والتمركز في أياد محدودة بدون أية حدود طبيعية لهذا التطور . وتشكل هذه الفكرة في الواقع نقطة الارتكاز التي بنى عليها ماركس توقعه بخصوص نهاية كارثية للرأسمالية : فاما ان نسبة أرباح الراسمال ستتضاء منهية رافعة التراكم واما حصة عائدات الراسمال في الدخل القومي ستتزايد بدون حدود مما سيدفع الى توحيد العمال والثورة ضد هذا الوضع آجلا ام عاجلا ، وفي كلتا الحالتين فانه لا يمكن تصور وجود توازن سوسيواقتصادي مستقر لم تصدق التنبؤات القاتمة لماركس تما ما كما لم تتحقق توقعات ريكاردو: لقد بدات الأجور في نهاية المطاف ترتفع وتزايدت القدرة الشرائية للعمال في كل مكان، وهذا غير الوضع بصفة جذرية رغم كون اللامساواة بقيت على حالها بل استمرت في الارتفاع في بعض الحالات الى حدود الحرب العالمية الاولى . لقد حصلت اندلعت الثورة الشيوعية فعلا ، ولكم ذلك حصل في اكثر الأقطار تأخرا ، اي في روسيا وأوروبا الشرقية حيث كانت الثورة الصناعية في طورها الجنيني فيما اختطت الأقطار الاوروبية المتقدمة لنفسها مسالك سوسيال-ديمقراطية كانت لها آثارها الملموسة على مواطنيها. ومثل سابقيه من المفكرين فان ماركس اهمل بشكل نهائي امكانية التطور التكنولوجي المتواصل والزيادة المتواصلة في مستوى الإنتاجية ، وهي عوامل قد تشكل الى حد ما ثقلا مضادا لمسلسل التراكم وتمركز الثروات . لقد كانت تنقصه بدون شك المعطيات الإحصائية المطلوبة لتدقيق توقعاته، ثم انه سقط في محظور تأسيس توقعاته بصفة مبالغ فيها على احداث 1848قبل ان يبدأ بالتفكير المعمق فيما يمكن ان يبرر او ينفي تلك التوقعات . من الواضح ان ماركس كتب خلال فترة الغليان والحماسة الثورية وقد أدى هذا لديه الى نوع من التسرع في الاستنتاجات ماكان ان يجد منه فكاكا بفعل تأثير تلك الظروف .ولهذا السبب بالذات يبدو من الضروري ، بالنسبة لتبلور النظرية الاقتصادية ، من ان تجد لها الجذور والمرتكزات في مصادر تاريخية شاملة ، ومن هذا الجانب ، لا يظهر ان ماركس استغل كل الإمكانيات المرجعية التي متاحة له ، ولم يفكر مثلا في الكيفية التي سيكون عليها التنظيم السياسي الاقتصادي في مجتمع يكون قد تم فيه الغاء الراسمال بشكل نهائي ، وهي قضية جد معقدة كما ستبقين التجارب التوتاليتارية ضمن البلدان التي تم فيها الغاء الرأسمالية. وبالرغم من هذه النواقص فان تحليل ماركس يظل على درجة كبيرة من الاهمية والقدرة التفسيرية من عدد من الوجوه :لقد بدا ماركس بمعالجة سؤال مهم جدا يتعلق بالتمركز غير المسبوق للثروة خلال الثورة الصناعية ، ثم سعى للإجابة عن ذلك السؤال انطلاقا من الوسائل التي كانت متاحة لديه ، وحري باقتصاديينا اليوم ان يستلهموا المثال الذي قدمه على هذا الصعيد ، والاهم من ذلك ان مبدا التراكم اللامتناهي الذي جاء به ماركس كان إضاءة في غاية الأهمية ، بل مفتاحا للفهم ، صالح وذي وثاقة لدراسة القرن الواحد والعشرين بنفس الصورة التي كان بها ذا وثاقة بالنسبة للقرن التاسع عشر ، وهو اكثر اهمية من مبدا الندرة . ومن المهم هنا الإدلاء مع ذلك ببعض الملاحظات : فإذا كانت نسبة تزايد السكان والنمو منخفضة نسبيا فان مراكمة الثروة تأخذ بصورة طبيعية اهمية كبيرة خاصة ا ذا صل هذا التراكم الى درجات قصوى واصبح مهددا للاستقرار الاجتماعي ، وبعبارة اخرى فان النمو المنخفض لا ينسف بالكامل المبدا الماركسي للتراكم اللامتناهي وان كان التوازن الحاصل بفعل هذا التراكم لا يأخذ المنحى الكارثي الذي توقعه ماركس ، ومع ذلك فانه يبقى توازنا هشا ومهددا للاستقرار على كل حال . يقف التراكم عند نهاية معينة ، او مستوى معينا ، وهذا المستوى قد يكون مهددا للاستقرار الاجتماعي. وبصورة خاصة فان المستوى المرتفع جدا للثروات الخاصة مقاسة بالدخل القومي ، والتي تمت مراكمتها خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين في البلدان الاوروبية الغنية وفي اليابان يؤكد المنطق العام للرؤية الماركسية في الموضوع . من ماركس الى كوزنيتس : من توقع الكارثة الى الترويج للنهاية السعيدة . بالانتقال من تحليلات ريكاردو وماركس في القرن التاسع عشر ،الى تحليلا كوزنيتس في القرن العشرين ، نكتشف ان الاقتصاديين انتقلوا فيما يظهر من النظرة المشحونة بالتشاؤم الى نظرة اخرى موغلة في التفاؤل ومبشرة بالنهايات السعيدة: فبحسب نظرية كوزنيتس تميل الفارق في المداخيل الى الانخفاض بشكل أوتوماتيكي في البلدان الرأسمالية المتطورة وذلك بصرف النظر عن السياسات والاختيارات الاقتصادية المتبعة او الفوارق بين الدول ، ويستمر هذا الانخفاض في الفوارق الى المستوى الذي يصبح فيه مقبولا على نطاق واسع . لقد صيغت هذه النظرية سنة 1955 اي في عز سنوات ما بعد الحرب ، والتي عرفت بالسنوات المجيدة les trentes glorieuses . بين 1945و 1975. وبالنسبة لكوزنيتس يكفي التسلح بالصبر قبيتأت ينعكس الخير العميم للنمو على الجميع. كانت فلسفة المرحلة تقوم على مبدا ان النمو «هو الموجة الكبيرة التي بإمكانها ان تدفع نحو الاعلى كل المراكب». نفس الروح التفاؤلية نجدها عند روبرت سولوRobert solow سنة 1956في تحليلاته للشروط المطلوبة لكي يصير بامكان اي اقتصاد ان يحقق ما كان يسميه ب «طريق التنمية المتوازنة، « ، طريق تتطور خلاله كل المتغيرات (المداخيل ، الأرباح، الأجور) بنفس الوتيرة ، وحيث تستفيد كل الفات والطبقات والمجموعات الاجتماعية بنفس الطريقة،بدون تفاوتات او ابتعاد عن القاعدة العامة. كان موقف كوزنيتس مختلفا بصفة جذرية عن فكرة ريكاردو وماركس حول اللامساواة كما عاكست رؤيته توقعات الانهيار الكارثي الواردة في التحليل الماركسي للقرن التاسع عشر . ولكي نقف على ملابسات التأثير الحاسم الذي مارسته أفكار كوزنيتس والترحيب الي لاقته خلال الثمانينيات والتسعينيات الماضية -والمستمر بشكل ما لحد الان -من الضروري ان نشير الى انها كانت بمثابة النظرية الاولى من نوعها التي اعتمدت في بنائها على اطار متكامل من الإحصائيات لم يكن متوفراقبل حلول النصف الثاني من القرن العشرين و صدور الكتاب الضخم لكوزنيتس سنة 1953 «نصيب عائدات المجموعات العليا في المداخيل والادخار». هذا التاريخ فقط صار بامكان الاقتصاديين الاعتماد على كم هائل من الجداول التاريخية الإحصائية التي تقيس تطور اشكال التوزيع. لقد انحصر اهتمام كوزنيتس في وضعية الولاياتالمتحدةالامريكية خلال مرحلة امتدت على مدى ثلاثين سنة ( 1913-1943) ، ومع ذلك فقد شكل مساهمة حاسمة في مجال الدراسة . لقد اعتمد على مصدرين أساسيين في عمله لم يتوفرا لغيره من الدارسين في القرن التاسع عشر, المصدر الاول هو الإحصائيات الفدرالية حول مداخيل الضريبة على الدخل (والتي لم تكن متاحة قبل انشاء الضريبة على الدخل في سنة 1913 ) . اما المصدر الثاني فكان هو التقديرات التي قام بها كوزنيتس نفسه حول الدخل القومي الامريكي . لقد كان هذا العمل إذن هو اول محاولة جريئة وجسورة لقياس اللامساواة الاجتماعية على نطاق واسع . من المهم التاكيد انه بدون هذه المصادر المتكاملة والضرورية للمعطيات ،فانه من المستحيل قياس حجم اللامساواة في توزيع المداخيل او تحديد حجم تطورها في الزمان .من المؤكد ان المحاولات الاولى لتقدير الدخل القومي في كل من بريطانياوفرنسا تعود الى نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر ، تبعتها محاولات اخرى عديدة خلال القرن التاسع عشر ، ولكنها كانت محاولات معزولة وجزئية . لم تظهر المعطيات الحاسمة والتفصيلية حول الدخل القومي الا في القرن العشرين ، وتحديدا في فترة ما بين الحربين بفضل عدد من الاقتصاديين مثل كوزنيتس kuznetsو جون كيندريك John W Kendrick في الولاياتالمتحدة وارثر بووليArthur Bowley في بريطانيا و دوجي دو بيرنونفيل Duge De Bernonvilleفي فرنسا . لقد صار بالإمكان اعتمادا على هذا النوع من المعطيات قياس الدخل القومي لمختلف الأقطار ، ولقياس حصة المداخيل المرتفعة ضمن بنية الدخل القومي فإننا نحتاج الى تصريحات المداخيل ، وهو ما غدا متاحا بشكل ميسر في الأقطار التي أقرت نظام الضريبة التصاعدية على المداخيل ابتداء من فترة الحرب العالمية الاولى ( 1913في الولاياتالمتحدة 1914في فرنسا 1909في بريطانيا 1922في الهند،1932في الارجنتين) . ومن المفيد كذلك ان نشير انه حتى مع غياب ضريبة الدخل فقد كانت هناك عدد من المعطيات الإحصائية التي تقدم إضاءات في موضوع القاعدة الضريبية على غرار، مثلا ، التوزيع في اعداد الأبواب والنوافذ حسب الأقاليم ، وهو المقياس الذي كان معمولا به في فرنسا خلال القرن التاسع عشر , لكن هذا المقياس -وغيره- الذي كانت له فائدته بدون شك ، لم يكن ليفيدنا بشكل حاسم بخصوص المداخيل . اكثر من ذلك فان الناس لم يكونوا يعرفون على وجه الدقة حجم مداخيلهم قبل المرحلة التي اصبح فيها القانون يفرض على الملزمين التصريح بالمداخيل لدى السلطات المختصة . وما يقال عن الضريبة على الدخل يصدق أيضاً على الضريبة على الشركات و الضريبة على الثروة . ان التضريب (إقرار الضرائب ) ليست فقط عملية تتيح مشاركة كل المواطنين في تمويل النفقات والمشاريع العامة ، وتوزيع العبئ الضريبي بأقصى عدل ممكن ، ولكنها أيضا عملية تمكن من وضع التصنيفات كما تمكننا من معرفة الحقائق الاقتصادية وبالتالي ضمان الشفافية الديمقراطية. وفي كل الأحوال فان المعطيات التي جمعها كوزنيتس مكنته من حساب وقياس تطور كل جزء وكل الأجزاء المرتفعة في تراتبية المداخيل ضمن الدخل القومي الامريكي . ما الذي اكتشفه في دراسته ؟ لقد سجلت الدراسة التي قام بها انخفاضا محسوسا في اللامساواة على مستوى المداخيل في الولاياتالمتحدة بين سنة 1913و 1948 ، وخلال بداية تلك الفترة ، وصلت حصة العشرة في المائة من المداخيل الاكثر ارتفاعا قياسا الى الدخل السنوي القومي 45الى50 في المائة، لكن هذه النسبة انخفضت الى مابين 30الى 35في المائة عند نهاية تلك الفترة ، ومن الجلي ان هذا الانخفاض في مستوى اللامساواة بنسبة 10نقط كان انخفاضا مهما ، وكان يساوي في قيمته نصف مداخيل ال 50في المائة من الأمريكيين الاكثر فقرا . لقد كان لهذه الاخبار السارة وقع مهم في النقاش الاقتصادي العمومي سواء داخل الحقل الجامعي او في أروقة المنظمات الدولية . لقد تحدث مالتوس وريكاردو وماركس وآخرون غيرهم لعقود وبشكل مستفيض عن اللامساواة دون تقديم جرد لمصادر واثقة في الموضوع او تقديم المقارنات المطلوبة بين حقبة وأخرى او الحسم بين الفرضيات المتنافسة . لقد اصبحت المعطيات متوفرة لاول مرة انطلاقا من العشرية الاولى من القرن العشرين ، اصبحت هذه المعطيات متاحة على كل حال رغم انها لم تكن مكتملة في بنائها العام . لقد اتخذ طابع تجميع المعطيات الإحصائية منحى توثيقيا مهما ، فلقد كشف كوزنيتس في مؤلفه الضخم سنة 1953المشار اليه عن مصادره ومنهجيته بتفصيل بحيث ان أية عملية حسابية اصبح بالإمكان اعادة تركيبها او صياغتها، ثم ان كوزنيتس ، علاوة على ذلك ، كان معلن الاخبار السارة التي تقول ان اللامساواة هي في طريق الانخفاض. منحنى كوزنيتس: اخبار سارة في عز الحرب الباردة لقد كان كوزنيتس واعيا بان التقلص الذي عرفته المداخيل العليا في الولاياتالمتحدة بين 1913 و 1948كان بمثابة الحادثة العرضية وانه نتج بشكل كبير عن الصدمات المتلاحقة التي أحدثتها أزمة 1929 ثم الحرب العالية الثانية بعد ذلك، وانه بالتالي لم يأت في سياق مسلسل طبيعي أوتوماتيكي ، وهكذا ففي اعماله سنة 1953 حلل بشكل مدقق إحصائياته وحذر القراء من الاستنتاجات المتسرعة ، لكن ،وفي شهر دجنبر من سنة 1954وخلال اللقاء الذي عقدته بمدينة ديترويت Detroit جمعية الاقتصاديين الامريكيين( التي كان يرأسها ) ذهب كوزنيتس بعيدا في التفاؤل وهو يتولى تفسير النتائج التي توصل اليها في اعماله المنشورة سنة 1953. لقد كانت المحاضرة التي ألقاها بالمناسبة والتي نشرت سنة 1955 تحت عنوان «النمو الاقتصادي وإشكالية اللامساواة في المداخيل» هي المدخل لما اصبح يعرف ب « منحنى كوزنيتس». ووفقا لنظرية كوزنيتس فان المنتظر في كل الأحوال والامكنة ان تاخذ اللامساواة منحى اسماه « منحنى الجرس» . بمعنى انها في بداية الامر تتزايد ارتفاعا لكنها ، مع مسار التطور الصناعي والنمو الاقتصادي تميل تدريجيا الى الانخفاض , ووفقا لكوزنيتس فان المرحلة الاولى الموسومة بتنامي اللامساواة كانت ، بالنسبة للولايات المتحدة ، اجمالا، هي القرن التاسع عشر فيما كان النصف الاول من القرن العشرين هو المرحلة اللاحقة ضمن منحنى الجرس الذي تحدث عنه حيث عرفت اللامساواة انخفاضا حاسما . ويبدو بشكل ما اننا نوجد اليوم ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين في نفس الوضعية التي وجد فيها أسلافنا انفسهم فيها في بداية القرن التاسع عشر : اننا نشهد تغيرات ضخمة تمس مختلف الاقتصاديات عبر العالم ، ومن الصعب ان نجزم ، لا بالمدى الذي ستصله تلك التغيرات ولا بالشكل الذي سيأخذه توزيع الغنى والثروات خلال العقود القادمة ، ان على المستويات الداخلية للدول او فيما بينها . يستحق علماء الاقتصاد للقرن التاسع عشر كامل الاحترام والتقدير لأنهم وضعوا إشكالية التوزيع في قلب التحليل الاقتصادي من جهة، ولأنهم حاولوا دراسة الاتجاهات الكبرى على المدى البعيد من جهة ثانية . ورغم ان الإجابات التي قدموها لم تكن دائما مقنعة فقد كان لهم الفضل على الاقل في طرح الأسئلة الصحيحة . وليس هناك سبب معقول يدعونا الى الاعتقاد بان النمو يحمل في طياته عناصر التوازن والتكافؤ بصفة أوتوماتيكية . والحقيقة انه كان علينا منذ فترة طويلة ان نعيد مجددا وضع معضلة اللامساواة في مركز وقلب التحليل الاقتصادي و ان نبدأ في طرح ذلك النوع من الأسئلة التي طرحت في اول الامر في القرن التاسع عشر . لمدة طويلة اهمل الاقتصاديون إشكالية توزيع المداخيل ، اما بسبب الاستنتاجات المتفائلة لكوزنيتس واما بسبب الانتصار بحماسة زائدة لتلك النماذج الرياضية التبسيطية المبنية على ما عرف ب « الفاعلون ذوو التمثيلية representative agents . واذا كتب لاشكالية التوزيع ان تعود الى الواجهة من جديد وان تصبح حقا في قلب الاهتمام فسيكون علينا ان نبدأ بتجميع للمعطيات التاريخية بأكثر ما يمكن من الشمول، وبما يمكننا من خدمة الهدف المتمثل في معرفة الاتجاهات العامة في الماضي والحاضر .، ان مثل هذا العمل التجميعي المنجز بصبر وأناة هو الذي سيمكننا من تحديد دقيق للآليات المتحكمة في انتاج الفوارق وتكوين صورة واضحةٍ حول المستقبل .. توماس بيكيتيThomas Piketty ترجمة: عبد الرحمن العمراني نقدم ضمن هذا الجزء القسم الاول من مقدمة الكتاب الذي صنع الحدث في الأوساط الجامعية ومراكز البحث الكبرى والمنظمات الاقتصادية والمالية على امتداد السنة الجارية . والسنة التي سبقتها ، انه كتاب توماس بيكيتي الاستاذ بمدرسة باريس للاقتصاد « الراسمال في القرن الواحد والعشرين . لقد صنف الكتاب ضمن اكثر الكتب رواجا في العالم ولاقى رواجا غير مسبوق لباحث فرنسي في البلدان الأنجلوسكسونية بحيث استدعي صاحبه لعشرات المحاضرات واللقاءات في المعاهد والمنتديات المرموقة . الكتاب الذي اربعة فصول كبرى وخاتمة كان ثمرة عمل طويل امتد عشر سنوات وبحث في كل المصادر التاريخية في كل انواع الوثائق لتركيب صورة اخرى غير معروفة بالشكل العلمي المطلوب عن معضلة التوزيع واللامساواة والآليات التي ال تفتا تعيد إنتاجها اليوم . الأسئلة التي يحاول بيكيتي الاجابة عليها تتمحور حول السؤال الكبير : ما الذي يحرك التراكم والتوزيع اليوم ولماذا وكيف اصبحت معضلة اللامساواة في قلب الاقتصاد السياسي اليوم في اوائل القرن الواحد والعشرين بنفس الصورة التي كانت عليها في القرن التاسع عشر مع الانتشار الاول والمعمم للراسمالية؟ لنستمع الى بيكيتي ما من شك في ان إشكالية التوزيع تعتبر اليوم من اكثر الإشكاليات حضورا في ساحة النقاش العمومي واكثرها إثارة للخلاف ومع ذلك فان السؤال يبقى مطروحا بحدة :ماذا نعرف على وجه التحديد بخصوص تطور موضوع التوزيع حينما نضعه في سياق المدى الزمني الطويل ؟هل تؤدي دينامية تراكم الرأسمال،بصفة أكيدة، الى تمركز الثروة في أياد محدودة كما اكد ماركس في القرن التاسع عشر،ام ان عوامل النمو والمنافسة والتطور التكنولوجي في المراحل اللاحقة من مسار الرأسمالية تعمل بصفة تدريجية على التخفيف من حجم الفوارق وتزيد من حجم الانسجام بين الطبقات الاجتماعية كما طرح سيمون كوزنيتس في القرن العشرين؟ماذا نعرف حقا عن المسالك التي أخذها تطور الثروات والمداخيل منذ القرن الثامن عشر، وما هي الخلاصات التي يمكن استخلاصها بالنسبة لقرننا الحالي ؟ تلكم هي الأسئلة الاساسية التي أسعى للإجابة عليها في هذا الكتاب .واؤكد منذ البدئ ان الإجابات التي اقدمها هي بكل تاكيد ناقصة وغير مكتملة لكنها إجابات تتأسس على كم من المعطيات التاريخية المقارنة لم تتوفرللباحثين في الماضي ، معطيات تشمل فترة زمنية عمقها ثلاثة قرون ،وهي علاوة على ذلك مستنتجة من مسح شمل عشرين بلدا، كما تتأسس على اطار نظري /مفاهيمي يسمح بادراك أعمق للآليات والميكانيزمات المرتبطة بموضوع التوزيع . من المحقق ان التطور الاقتصادي الحديث ، مرفوقا بانتشار المعرفة وتداولها المعمم قد مكن من تلافي سيناريو الكارثة المتضمن في المتن الماركسي ، لكن ذلك التطور لم يغير بصفة جذرية من البنيات العميقة للراسمال والفوارق ، علي الاقل ليس بالصورة التي كان يتم بها تصور الامور خلال فورة التفاؤل التي أعقبت العقود الاولى بعد الحرب العالمية الثانية . حينما يتجاوز معدل عائدات الرأسمال معدل نمو المداخيل كما حصل خلال القرن التاسع عشر وكما تبين كل الاحتمالات انه حاصل الان كذلك في القرن الواحد والعشرين فمعنى هذا ان الرأسمالية تحولت الى مصدرلتفريخ عشوائي لمستويات من التفاوتات خطيرة، تضر بشكل كبير بقيم الاستحقاق المؤسسة مبدئيا للقاعدة التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. هنالك بالطبع طرق ومسالك قد تتمكن بواسطتها الديمقراطية من اعادة تثبيت المراقبة على الراسمال وضمان تفوق المصلحة العامة على المصالح الخاصة مع الإبقاء في نفس الان على الانفتاح الاقتصادي وتلافي ردود الأفعال الحمائية والقومية الضيقة. والتوصيات التي اقدمها لاحقا تدخل تماما ضمن هذا الأفق.وهي توصيات وتوجهات مستخلصة من التجربة التاريخية التي ألهمت مجموع الحكي المتضمن بين دفتي هذا الكتاب . نقاش بدون معطيات لقد ظل النقاش حول توزيع الثروة يشكو لمدة طويلة من وجود كم هائل من الأفكار المسبقة مرفوقا بنقص في المعطيات الاساسية . و سيكون من الخطأ استصغار اهمية المعرفة الحدسية التي بإمكان اي واحد منا الحصول عليها بخصوص موضوع مستويات الثروة والمداخيل في المرحلة الراهنة، حتى في غياب اي اطار نظري او تحليل إحصائي .ان مجال الانتاج الأدبي والسينمائي ، وبصفة خاصة مجال الرواية في القرن التاسع عشر تحفل بمعطيات وتفاصيل مثيرة حول مستويات الثروة و الوضعية المعيشية لمختلف الفات الاجتماعية ،وخاصة فيما يرجع للبنية العميقة للتفاوتات واللامساواة والكيفية التي يؤثر بها ذلك على حياة الناس اليومية.نعم ان روايات جون أوستن Jane Austen و أونوريه دو بلزاكHonoré De Balzacترسم لوحات اخاذة ودالة حول توزيع الثروة في بريطانياوفرنسا بين سنوات 1790 و1830. لقد كان الروائيان معا على دراية واسعة بتراتبية الثروة في المجتمعين الفرنسي والانجليزي و تمكنا من إماطة اللثام عن خبايا عالم الثروة وتأثيراته المؤكدة على حياة الرجال والنساء ، بما في ذلك استراتيجيات الزواج والأمال والاحباطات الشخصية. ان هذين الروائيين و غيرهم من نفس القيمة الفنية تمكنواحقا من تفكيك البنية العميقة والآثار المختلفة للتفاوتات بصورة قوية وبقدرة نفاذ تستعصي على اي تحليل نظري او إحصائي. ونحن نعتقد ان مسالة توزيع الثروة هي من الأهمية التي لا يجوز معها ان نتركها اختصاصا حصريا للاقتصاديين او السوسيولوجيين او المؤرخين او الفلاسفة دون غيرهم. ان الطابع المادي والملموس للامساواة يرى بالعين المجردة وهو يملي بصورة طبيعية تقييمات سياسية حادة ومتناقضة . لا يستوي بالطبع الفلاح وعضو طبقة النبلاء ، العامل وملاك المصنع النادل والبنكي ، فلكل واحد من هؤلاء بالطبع زاوية نظر تجعله يرى كيف يعيش الآخرون ويقيم نوعية العلاقات الهيمنية الموجودة بين مختلف المجموعات الاجتماعية ويحدد من ثمة معايير العادل وغير العادل . وانطلاقا من ذلك فمن المؤكد انه سيكون هنالك دوما جانب ذاتي او سيكولوجي للامساواة ، يؤدي حتما الى توليد التوترات السياسية التي يستعصي التخفيف من حدتها على اي تحليل علمي كيفما كان . ان الديمقراطية لا يمكن تعويضها بمدينة فاضلة يوجهها الخبراء ، وهو شيئ إيجابي على كل حال . ومع ذلك فان قضية التوزيع تستحق ان تتم دراستها بشكل منهجي صارم ، فبدون مصادر معلومات مدققة ومفاهيم رصينة ، يمكنك بسهولة ان ترى الشيئ ونقيضه . ان بعض الناس يميلون الى الاعتقاد بان اللامساواة هي في تصاعد وان العالم يتحول الى فضاء لإنتاج اللاعبات والبعض الاخر يرى ان اللامساواة تتقلص بشكل طبيعي وان الانسجام يحل محل التنافر بشكل أوتوماتيكي وانه والحالة هاته يتعين تجنب القيام باي شيئ قد يفسد هذا التوازن البهيج، وإزاء حوار الصم هذا الذي يبرر فيه كل طرف كسله بإلقاء اللائمة على كسل الطرف الاخر ، هناك بالتاكيد دور يمكن ان يلعبه البحث ، الذي يتوجب ان يكون منهجيا وصارما على الاقل اذا تعذر ان يكون علميا بالكامل. بالطبع فان تحليل الخبراء سيبقى عاجزا عن انهاء التوترات السياسية العنيفة التي تثيرها اللامساواة بالضرورة ، والبحث العلمي الاجتماعي سيبقى دائما غير مكتمل ، ومطبوع بالمحاولة المتجددة ، وهو لا يطمح ان يجعل من الاقتصاد والسوسيولوجياوالتاريخ علوما حقة ودقيقة ، لكن البحث المتاني والصبور للمعطيات والنماذج والتحليل الهادئ للآليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفسر الوقائع والنماذج ، بإمكانهما ان يقدما إضاءة في غاية الأهمية للنقاش العمومي وان يثيرا الاهتمام الى الأسئلة الحقيقية ، من شان ذلك أيضاً ان يعيد تحديد عناصر النقاش وان يميد اللثام عن بعض المفاهيم المغلوطة وان يخضع المواقف لاختبارات صارمة . وفي تقديري فان هذا هو الدور المركزي الذي يجب ان يضطلع به المثقفون كمواطنين يشتركون في هذه الصفة مع باقي المواطنين ، وكفئة اجتماعية لها حظ او ميزة التوفر على فائض وقت قياسا الى الاخرين . وتبقى الاشارة الى ان البحث العلمي الاجتماعي في موضوع توزيع الثروة بقي لمدة طويلة يشكو من محدودية المعطيات الواثقة وطغيان التفكير النظري العائم . وقبل التقديم بشكل تفصيلي للمصادر التي حاولت تجميعها في هذه الدراسة اود ان اقدم عرضا تاريخيا ملخصا عن مجمل الفكر السابق الذي تناول هذا الموضوع ( التوزيع ) وما يرتبط به من قضايا وإشكاليات . مالتوس، يونغ، والثورة الفرنسية حينما نشا الاقتصاد السياسي في انجلتراوفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر كان موضوع التوزيع واحدا من القضايا المركزية .كان الجميع يدرك ان تحولات عميقة هي في طور التشكل، سرع من وثيرتها النمو الديموغرافي - وهي ظاهرة لم تكن معروفة في السابق- مضافا اليها الهجرة الكبيرة من الأرياف والثورة الصناعية ، وكان السؤال الذي فرض نفسه على الجميع : كيف ستؤثر هذه المتغيرات على توزيع الثروة وعلى مجموع البنية الاجتماعية وعلى التوازن السياسي في المجتمعات الاوروبية ؟ -بالنسبة لمالتوس ، الذي الف سنة 1798 كتابه «، محاولة في مبدا السكان « لم يكن يراوده أدنى شك في ان التحدي والخطر الاكبر هو تزايد اعداد السكان ، وعلى الرغم قلة مصادره فقد استغلها الى اقصى ما يمكن . وكان من بين ما اثر بشكل كبير على كتاباته يوميات أرثر يونغ وهو عالم زراعي انجليزي سافر بشكل مكثف في الربوع الفرنسية من منطقة كالي الى جبال البيريني ومن بروتاني الى فرونش كونتي خلال سنتي 1787و1778اي قبيل اندلاع الثورة الفرنسية مباشرة . لقد كتب يونغ عن ظواهر الفقر التي شاهدها في البوادي الفرنسية . كانت فرنسا خلال تلك المرحلة اكثر البلدان الاوروبية من حيث عدد السكان وكانت بسبب ذلك المكان المثالي الذي قد يغري الباحثين بالدراسة والملاحظة . كان البلد قد وصل الى 20مليون نسمة في تعداد سكانه( مقارنة مع 8ملايين في بريطانيا و5 في انجلترا لوحدها). لقد تزايد عدد سكان فرنسا بشكل كبير طيلة القرن الثامن عشر من نهاية حكم لويس الرابع عشر الى وفاة لويس السادس عشر ، وفي سنة 1780 كان عدد السكان يقارب الثلاثين مليونا . وفي ظل وضع كهذا فقد كان هناك ما يكفي من الاسباب التي تدفع الى الاعتقاد بان هذا التزايد السكاني السريع ساهم في ركود الأجور الزراعية وارتفاع أكثرية الاراضي خلال العقود التي أعقبت انفجار 1789. وعلى الرغم من ان هذا التحول الديموغرافي لم يكن العامل الوحيد الذي فجر الثورة الفرنسية فقد ساهم بشكل حاسم في تزايد لا شعبية الأرستقراطية والنظام الحاكم . ومع ذلك فان السرد الحكائي الوارد في مؤلف يونغ سنة 1792حمل بشكل واضح معالم آراء مسبقة ذات طابع قومي ضيق كما تاسس على نوع من المقارنة المضللة ،لقد حكى هذا العالم الزراعي الكبير عن حالة الرداءة التي وجد عليها المنازل التي أقام بها بفرنسا كما وصف الحالة المزرية للخدم من النساء داخل تلك المنازل . وعلى الرغم من الطابع العادي بل والمثير للفكاهة في بعض الاحيان للملاحظات التي دونها في محكياته فقد كان الرجل على يقين بان بإمكانه ان يستنتج منها خلاصات ذات دلالات عالمية .لقد كان متيقنا ان الفقر الجماهيري المعمم الذي شاهده مباشرة سيقود لا محالة الى انتفاضة سياسية عارمة وقد ردد بكل قناعة كذلك ان وحده النظام السياسي الانجليزي ، الذي يفصل داخل البرلمان بين مجلس العموم والأرستقراطية، مقدما في نفس الان حق فيتو سياسي للنبلاء ، يمكنه ضمان تطور منسجم ، يقوده شعب مسؤول.لقد كان مقتنعا - او هكذا أظهرت كتاباته- ان فرنسا كانت تتجه للانهيار حينما قررت سنة 1789/1790 الجمع بين ممثلي العموم وممثلي الأرستقراطية في مجلس واحد. وليس من المبالغة في شيئ القول بان مجموع محكياته بخصوص الأوضاع في فرنسا وقتها كانت تحددها اساسا مخاوفه من حريق الثورة الفرنسية. هكذا إذن ففي كل مرة يقع الحديث عن توزيع الثروة فان السياسة تاخذ مكانها المركزي في الموضوع . وليس بمقدور احد التخلص من الأفكار المسبقة ذات الحمولة الطبقية . وحينما كتب مالتوس كتابه حول السكان فانه انتهى الى خلاصات مشابهة لخلاصات مواطنه يونغ:فمثل يونغ كان مالتوس شديد التخوف من الفكرة الثورية الجديدة الرائجة في فرنسا، وكان بصورة ما يطمئن نفسه بان ما حدث فرنسا لن يكون له نظير في بريطانيا ، وقد اعتبر ان أية مساعدة للفقراء يجب ان تتوقف دفعة واحدة وان عمليات الإنجاب في وسط الفقراء يجب ان تخضع لمراقبة صارمة لتلافي الانفجار الديموغرافي غير المحدود المؤدي للفوضى والفقر!! ومن المستحيل فهم التوقعات المبالغة في التشاؤم الواردة في كتابات مالتوس ما لم نأخذ في الحسبان ذلك الخوف الكبير الذي استبد بالنخب الاوروبية خلال تسعينيات القرن الثامن عشر. ريكاردو: مبدا الندرة من السهل جدا اليوم ان نتندرو نحن نعيد قراءة تلك التوقعاتالقطعية ، ولكن علينا ان نقف مع ذلك على حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر . لقد كانت -موضوعيا -تحولات مفصلية، حاسمة وصادمة بالنسبة للذين عايشوها . وفعلا فان اغلب الملاحظين المعاصرين ليونغ ومالتوس حملوا تصورات كارثية حول تطور توزيع الثروة على المدى البعيد و كذا تطور البنية الطبقية للمجتمع .لقد كان ذلك صحيحا بصورة خاصة في حالة كل من دافيد ريكاردو وكارل ماركس اللذين كانا الاقتصاديان الاكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر، والذين عبرا عن اعتقادهما بان طبقة اجتماعية محدودة -ملاك الاراضي عند ريكاردو والرأسماليون الصناعيون عند ماركس- ستستاثر بحصة متزايدة في المداخيل. وبالنسبة لريكاردو الذي الف «مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة» ...فان الاهتمام الرئيسي انصب على تطور أسعار الاراضي والاكرية على المدى البعيد .ومثل مالتوس فانه لم يكن يتوفر على احصائيات واثقة، ومع ذلك فقد كان محيطا بحقيقة الرأسمالية في عصره . لقد ولد في حضن اسرة يهودية ذات اصول برتغالية تشتغل في شؤون المال والائتمان . وكان فيما يظهر اقل تأثرا بالا فكار المسبقة بالمقارنة مع يونغ او سميث . لقد تأثر بالنموذج المالتوسي ولكنه ذهب به الى حدوده القصوى ، وصب اهتمامه بالأساس على المفارقة المنطقية التالية . حينما يبدأ عدد السكان ونتائج الثروة في النمو بصفة ملموسة، فان الارض تصبح نادرة قياسا الى الخيرات الاخرى ،وهكذا فان قانون العرض والطلب يعني ان ثمن الاراضي سيشهد ارتفاعا متواصلا ، وكذا الشان بالنسبة لعائدات الأكرية لملاك الاراضي .وبالتبعية والنتيجة فان حصة ملاك الاراضي في الدخل القومي ستشهد ارتفاعا يوازي انخفاض حصة باقي الطبقات والمجموعات ، ما يهدد التوازن الاجتماعي . وبالنسبة ليريكاردو فان الجواب الوحيد ، المقبول منطقيا وسياسيا على ما تطرحه هذه الوضعية من تحديات ، هو الرفع من الضريبة المفروضة على عائدات الأكرية. التطورات الاقتصادية اللاحقة أثبتت خطا هذا التوقع الوارد في الصورة القاتمة التي رسمها ريكاردو : لقد بقيت عائدات أغلبية الاراضي مرتفعة لفترة طويلة ، لكن قيمة الارض ، على المدى البعيد ، عرفت انخفاضا قياسا الى باقي مصادر الثروة، لان نسبة الفلاحة في الدخل القومي تراجعت . لقد كتب ريكاردو كتابه خلال العشرية الاولى من القرن التاسع عشر ، ولم يكن بإمكانه بالطبع ان يتوقع اهمية التطور التكنولوجي ولا النمو الصناعي الذي ستعرفه العقود اللاحقة .ومثل مالتوس و يونغ فانه لم يكن يتصور ان البشرية يمكنها ان تتحرر من اكراهات الاقتصاد الزراعي الأولي . ومع ذلك فان تأملاته حول ثمن الاراضي كانت في غاية الأهمية : يتعلق الامر بمبدأ الندرة الذي انطلق منه والذي كان يعني ان بعض الاسعار يمكن ان تظل مرتفعة على مدى عقود من الزمن .وكان هذا كافيا في حد ذاته لزعزعة استقرار مجتمعات باسرها .ان نظام الاسعار يلعب دورا محوريا في الواقع في تنسيق أنشطة الملايين من الناس ، وفي المجمل اليوم ،فان الامر يتعلق بملايين الافراد ضمن الاقتصاد المعولم الحالي .والمشكلة هنا ان نظام الاسعار لا يعرف حدودا كماانه لا ينبني على أخلاقيات محددة . سيكون من باب الخطأ الكبير عدم الانتباه الى اهمية مبدا الندرة في فهم التوزيع العالمي الشمولي للثروة في القرن الواحد والعشرين ، ولادراك ذلك، والإقتناع به ، يكفي ان نضع مكان اسعارالاراضي ، كما في النموذج الريكاردي ، أثمان الممتلكات العقارية real estates في كبريات العواصم العالمية ، او أسعار النفط ، لتتضح الصورة: في الحالتين معا ، اذا أخذنا الفترة من 1970 الى 2010 واستشرفنا على ضوئها ما يمكن ان يحصل في الفترة من 2010 الى 2050 او 2100، فان النتيجة هي توقع شروخات ضخمة وعدم توازن كبير، سياسي واجتماعي واقتصادي ، لا فقط بين مختلف البلدان ولكن بداخل البلدان أيضا ، شروخات وانعدام توازنات تذكرنا بالصورة السوداوية الكارثية التي رسمها ريكاردو. طبعا هناك مبدا اقتصادي بسيط يمكن ان يعمل على تصحيح الاختلالات يرتبط بميكانيزم العرض والطلب : اذا حصل واصبح ثمن أية مادة من المواد المعروضة مرتفعا بصورة مهولة ، فان الطلب عليها لا بد ان ينخفض ، مما يؤدي بالضرورة الى انخفاض في السعر. وبعبارة اخرى فإذا ارتفعت أسعار العقار وأسعار النفط بشكل مهول ، فبالإمكان تصور ان ينتقل او يرحل الناس الى البوادي وان يستقلوا الدراجات في تحركاتهم . لا يهم ان كانت هذه التأقلمات ستكون قاسية وصعبة ، و من المؤكد انها -هذه التأقلمات السلوكية الاقتصادية- ستستغرق عقودا قد يتمكن خلالها ملاك العقارات والنفط من إنجاز ما يبتغون بحيث ينتهي بهم الامر الى امتلاك كل ما هو قابل للامتلاك ، بما في ، السكن في البوادي والدراجات النارية دفعة واحدة . ان الأسوأ لا يحدث دائماً بالطبع، كما يعلمناالتاريخ، وقد يكون من السابق لأوانه مثلا ان نحذر القراء بانهم قد يكونون مطالبين بأداء واجبات أكرية لأمير قطرفي غضون سنة 2050.و ساتولى معالجة الموضوع في سياق هذا البحث ، وسيكون جوابي بعيدا عن أية قطعية وان كنت اعرف انه لن يشفي غليل اولئك الذين يودون طمأنتهم بشكل كامل، لكن من المهم ان نؤكد منذ الان ان ميكانيزم العرض والطلب لا يزيح باي شكل من الأشكال امكانية حصول فوارق في الثروة ، واسعة وممتدة في الزمان مرفوقة بتغيرات قصوى في بعض الاسعار النسبية . تلك هي الانعكاسات الاساسية لمبدأ الندرة الريكاردي. ماركس : مبدا التراكم اللامتناهي حينما نشر ماركس الجزء الاول من « الراسمال» سنة 1867،كان قد مضى نصف قرن على صدور كتاب ريكاردو ، كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت بصفة عميقة : لم يعد السؤال المطروح هو فيما اذا كان على المزارعين توفير الغذاء لعدد من السكان يتزايد باستمرار ، او فيما اذا كانت أسعار الاراضي ستعرف ارتفاعا مهولا ، بل اصبح السؤال المطروح هو كيف يمكن فهم دينامية الرأسمالية الصناعية التي كانت في طور الصعود . كان المعطى الاكثر مدعاة للاهتمام وقتها هو وضعية الفقر المدقع للبروليتاريا الصناعية ، فعلى الرغم من تطور الاقتصاد ، او ، جزئيا على الاقل ، بسبب هذا التطور ، وبسبب الهجرة القروية المرتبطة بالنمو الديموغرافي وتزايد إنتاجية الفلاحة ، وقع تكدس العمال في urban slums . كان يوم العمل طويلا والأجور منخفضة ، وبرزت في سياق ذلك ظواهر فقر حضري واضحة للعيان ، صادمة ومستفزة كانت في كثير من الاحيان اكثر قسوة من مظاهر فقر البوادي في ظل النظام القديم ، وهكذا فان روايات جيرمنال واوليفر تويست والبؤساء لفيكتور هيغو لم تخرج بالصدفة من خيال اولئك الروائيين الكبار , كما لم يكن من باب مصادفات التاريخ ان صدر قانون يحظر تشغيل الاطفال دون سن الثامنة في المقاولات في فرنسا سنة 1841اوان يصدر قانون مماثل في بريطانيا سنة1842 يمنع نزول الاطفال دون سن العاشرة الى المناجم . وفي كتاب الدكتور فيليرم « صورة عن الحالة المادية والمعنوية للمشتغلين في المانيفاتورات» الصادر سنة1840 والذي كان وراء صدور قانون العمل (المحدود في طموحه) حول تشغيل الاطفال ، نجد تشخيصا لأوضاع فظيعة ، نفس الأوضاع التي وقف عليها وحللها فريدريك إنجلز في كتابه « وضعية الطبقة العاملة في انجلترا» الصادر سنة 1845.» ان المعطيات التاريخية المتوفرة لدينا اليوم تبين ان ارتفاع الأجور والقدرة الشرائية لم تحدث الا في النصف الثاني اوالثلث الاخير من القرن التاسع عشر ، فطوال الستة عقود الاولى ظلت أجور العمال شبه مجمدة في المستويات التي كانت عليها خلال القرن الثامن عشر والقرون السابقة .ان هذا الجمود في الأجور الذي تسجله الوقائع سواء في فرنسا او بريطانيا تصاعد.لان النمو الاقتصادي كان قائما على قدم وساق خلال تلك الفترة . لقد كانت عائدات الراسمال قياسا الى الدخل القومي ( الارباح الصناعية وعائدات أكرية المباني والاراضي ) ترتفع بشكل مضطرد خلال القرنين السابقين على منتصف القرن التاسع عشر، حسبما تؤكد الوثائق المتوفرة وقتها . وهذه الأرباح لم تعرف بعض الميل نحو الانخفاض الا في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، حينما بدات الأجور، لاول مرة ترتبط بمستويات النمو ، ومع ذلك فان المعطيات المتوفرة لدينا تبين ان الانخفاض البنيوي في اللامساواة لم يحصل حقاً بشكل محسوس قبل الحرب العالمية الاولى ، وما لاحظناه بالنسبة للفترة الممتدة من 1870الى 1914كان في أحسن الحالات مجرد استقرار لحجم اللامساواة في مستوياتها السابقة، المرتفعة جدا، وفي مناح متعددة جرى استمرار تلك الحلقة المفرغة المتميزة بتمركز الغنى والثروات . ومن الصعب الحديث عما كان يمكن ان تقود اليه تلك الوضعية بدون تلك الصدمة السياسية والاقتصادية التي حملتها الحرب ، و بواسطة التحليل التاريخي والرؤية التاريخية يمكننا ان نرى ونلمس الان ان تلك الصدمات الكبرى الشبيهة في قوتهابصدمة الثورة الصناعية كانت وحدها الكفيلة فعلا بالتخفيف من غلواء اللامساواة . وفي كل الأحوال فان الراسمال ازدهر ومعه الأرباح الصناعية في حين عرفت الأجور جمودا خلال الأربعينيات من القرن التاسع عشر . لقد كان هذا المعطى معروفا لدى الجميع رغم ان المعطيات الإحصائية الوطنية المدققة لم تكن موجودة . كانت تلك الفترة بالذات هي الفترة التي ولدت فيها اولى الحركات الاشتراكية والشيوعية : كانت الفكرة الأساس : ماذا ينفع التطور الصناعي التكنولوجي وحركية السكان بين الفضاءات الحضرية والقروية اذا كانت وضعية الجماهير العريضة في حالة من الفقر والحاجة مثلما كانت عليه في السابق وربما بشكل افظع ؟ما النفع اذا كان صناع القوانين لا يمكنهم فعل اي شيئ عدا اصدار قانون يحظر تشغيل الاطفال دون سن الثامنة ؟ كان انهيار النظام الاقتصادي والسياسي يبدو أكيدا وكان الناس يتساءلون عن المستقبل . كانت هذه هي المهمة التي نذر ماركس نفسه لها في سنة 1848 اي في فجر ما عرف بربيع الامم ( الثورات التي عمت اوروبا خلال تلك الفترة ) . اصدر ماركس كراسته الشهيرة» البيان الشيوعي « التي ابتدأت بتلك العبارة الشهيرة « ان طيفا مخيفا يطل على كامل اوروبا ، انه الشيوعية « . الحراسة توقعت ان تعم الثورة كل الارجاء الاوروبية . « ان تطور الصناعة العصرية يهدد الأسس التي أقامت عليها البورجوازية هيمنتها وان ما تنتجه البورجوازية في نهاية الامر هو نهايتها اي سقوطها وانتصار البروليتاريا شيئ محتم « . وخلال العقدين اللذين أعقبا صدور البيان الشيوعي عمل ماركس على صياغة مؤلفات ضخمة تشرح دواعي ذلك التوقع وتقدم تحليلا علميا للرأسمالية ومالاتها. لقد صدر الكتاب الاول من الرسمال سنة 1867, لكن ماركس توفي سنة 1883دون ان يتمكن من انهاء الجزئيين الثاني والثالث وتولى صديقه إنجلز نشر الجزئين حيث عمل على تركيب مؤلف انطلاقا من مخطوط كان تركه ماركس غير مكتمل . ومثل ريكاردو فقد تولى ماركس تحليل التناقضات التي تعتري المنظومة الرأسمالية من الداخل وحرص على تمييز نفسه سواء عن الاقتصاديين البورجوازيين او الاشتراكيين الطوباويين على غرار بر دون : فال اقتصاديون البورجوازيون رأوا في السوق في حد ذاته ميكانيزما تصحيح يا قادرا على تحقيق التوازن من ذاته في وفاق مع ما كان يسميه ادم سميث باليد الخفية ، وفي وفاق كذلك مع قانون جون باتيست ساي الذي اعتبر ان الانتاج يخلق عرضه الخاص . اما الاشتراكيون الطوباويون فانهم بحسب ماركس اكتفوا بالتنديد بمظالم الرأسمالية ومظاهر الفقر الذي تسببت فيه دون ان يقدموا تحليلا علميا للمسلسل قاد اليها ( اي الراسمالية ). وفي الجملة، انطلق ماركس من النموذج الريكاردي حول سعر الراسمال ومبدا الندرة كمنطلق لتحليل اكثر شمولية لدينا ميةالرأسمالية في عالم اصبح فيه الراسمال صناعيا بالدرجة الاولى( الآلات) اكثر من كونه امتلاك لأراض وحيث انه والحالة هاته لا حدودا للتراكم ، وبالإمكان تلخيص النتيجة النهائية التي انتهى اليها بمبدأ التراكم اللامتناهي اي الاتجاه العارم بالنسبة للراسمال الى التراكم والتمركز في أياد محدودة بدون أية حدود طبيعية لهذا التطور . وتشكل هذه الفكرة في الواقع نقطة الارتكاز التي بنى عليها ماركس توقعه بخصوص نهاية كارثية للرأسمالية : فاما ان نسبة أرباح الراسمال ستتضاء منهية رافعة التراكم واما حصة عائدات الراسمال في الدخل القومي ستتزايد بدون حدود مما سيدفع الى توحيد العمال والثورة ضد هذا الوضع آجلا ام عاجلا ، وفي كلتا الحالتين فانه لا يمكن تصور وجود توازن سوسيواقتصادي مستقر لم تصدق التنبؤات القاتمة لماركس تما ما كما لم تتحقق توقعات ريكاردو: لقد بدات الأجور في نهاية المطاف ترتفع وتزايدت القدرة الشرائية للعمال في كل مكان، وهذا غير الوضع بصفة جذرية رغم كون اللامساواة بقيت على حالها بل استمرت في الارتفاع في بعض الحالات الى حدود الحرب العالمية الاولى . لقد حصلت اندلعت الثورة الشيوعية فعلا ، ولكم ذلك حصل في اكثر الأقطار تأخرا ، اي في روسيا وأوروبا الشرقية حيث كانت الثورة الصناعية في طورها الجنيني فيما اختطت الأقطار الاوروبية المتقدمة لنفسها مسالك سوسيال-ديمقراطية كانت لها آثارها الملموسة على مواطنيها. ومثل سابقيه من المفكرين فان ماركس اهمل بشكل نهائي امكانية التطور التكنولوجي المتواصل والزيادة المتواصلة في مستوى الإنتاجية ، وهي عوامل قد تشكل الى حد ما ثقلا مضادا لمسلسل التراكم وتمركز الثروات . لقد كانت تنقصه بدون شك المعطيات الإحصائية المطلوبة لتدقيق توقعاته، ثم انه سقط في محظور تأسيس توقعاته بصفة مبالغ فيها على احداث 1848قبل ان يبدأ بالتفكير المعمق فيما يمكن ان يبرر او ينفي تلك التوقعات . من الواضح ان ماركس كتب خلال فترة الغليان والحماسة الثورية وقد أدى هذا لديه الى نوع من التسرع في الاستنتاجات ماكان ان يجد منه فكاكا بفعل تأثير تلك الظروف .ولهذا السبب بالذات يبدو من الضروري ، بالنسبة لتبلور النظرية الاقتصادية ، من ان تجد لها الجذور والمرتكزات في مصادر تاريخية شاملة ، ومن هذا الجانب ، لا يظهر ان ماركس استغل كل الإمكانيات المرجعية التي متاحة له ، ولم يفكر مثلا في الكيفية التي سيكون عليها التنظيم السياسي الاقتصادي في مجتمع يكون قد تم فيه الغاء الراسمال بشكل نهائي ، وهي قضية جد معقدة كما ستبقين التجارب التوتاليتارية ضمن البلدان التي تم فيها الغاء الرأسمالية. وبالرغم من هذه النواقص فان تحليل ماركس يظل على درجة كبيرة من الاهمية والقدرة التفسيرية من عدد من الوجوه :لقد بدا ماركس بمعالجة سؤال مهم جدا يتعلق بالتمركز غير المسبوق للثروة خلال الثورة الصناعية ، ثم سعى للإجابة عن ذلك السؤال انطلاقا من الوسائل التي كانت متاحة لديه ، وحري باقتصاديينا اليوم ان يستلهموا المثال الذي قدمه على هذا الصعيد ، والاهم من ذلك ان مبدا التراكم اللامتناهي الذي جاء به ماركس كان إضاءة في غاية الأهمية ، بل مفتاحا للفهم ، صالح وذي وثاقة لدراسة القرن الواحد والعشرين بنفس الصورة التي كان بها ذا وثاقة بالنسبة للقرن التاسع عشر ، وهو اكثر اهمية من مبدا الندرة . ومن المهم هنا الإدلاء مع ذلك ببعض الملاحظات : فإذا كانت نسبة تزايد السكان والنمو منخفضة نسبيا فان مراكمة الثروة تأخذ بصورة طبيعية اهمية كبيرة خاصة ا ذا صل هذا التراكم الى درجات قصوى واصبح مهددا للاستقرار الاجتماعي ، وبعبارة اخرى فان النمو المنخفض لا ينسف بالكامل المبدا الماركسي للتراكم اللامتناهي وان كان التوازن الحاصل بفعل هذا التراكم لا يأخذ المنحى الكارثي الذي توقعه ماركس ، ومع ذلك فانه يبقى توازنا هشا ومهددا للاستقرار على كل حال . يقف التراكم عند نهاية معينة ، او مستوى معينا ، وهذا المستوى قد يكون مهددا للاستقرار الاجتماعي. وبصورة خاصة فان المستوى المرتفع جدا للثروات الخاصة مقاسة بالدخل القومي ، والتي تمت مراكمتها خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين في البلدان الاوروبية الغنية وفي اليابان يؤكد المنطق العام للرؤية الماركسية في الموضوع . من ماركس الى كوزنيتس : من توقع الكارثة الى الترويج للنهاية السعيدة . بالانتقال من تحليلات ريكاردو وماركس في القرن التاسع عشر ،الى تحليلا كوزنيتس في القرن العشرين ، نكتشف ان الاقتصاديين انتقلوا فيما يظهر من النظرة المشحونة بالتشاؤم الى نظرة اخرى موغلة في التفاؤل ومبشرة بالنهايات السعيدة: فبحسب نظرية كوزنيتس تميل الفارق في المداخيل الى الانخفاض بشكل أوتوماتيكي في البلدان الرأسمالية المتطورة وذلك بصرف النظر عن السياسات والاختيارات الاقتصادية المتبعة او الفوارق بين الدول ، ويستمر هذا الانخفاض في الفوارق الى المستوى الذي يصبح فيه مقبولا على نطاق واسع . لقد صيغت هذه النظرية سنة 1955 اي في عز سنوات ما بعد الحرب ، والتي عرفت بالسنوات المجيدة les trentes glorieuses . بين 1945و 1975. وبالنسبة لكوزنيتس يكفي التسلح بالصبر قبيتأت ينعكس الخير العميم للنمو على الجميع. كانت فلسفة المرحلة تقوم على مبدا ان النمو «هو الموجة الكبيرة التي بإمكانها ان تدفع نحو الاعلى كل المراكب». نفس الروح التفاؤلية نجدها عند روبرت سولوRobert solow سنة 1956في تحليلاته للشروط المطلوبة لكي يصير بامكان اي اقتصاد ان يحقق ما كان يسميه ب «طريق التنمية المتوازنة، « ، طريق تتطور خلاله كل المتغيرات (المداخيل ، الأرباح، الأجور) بنفس الوتيرة ، وحيث تستفيد كل الفات والطبقات والمجموعات الاجتماعية بنفس الطريقة،بدون تفاوتات او ابتعاد عن القاعدة العامة. كان موقف كوزنيتس مختلفا بصفة جذرية عن فكرة ريكاردو وماركس حول اللامساواة كما عاكست رؤيته توقعات الانهيار الكارثي الواردة في التحليل الماركسي للقرن التاسع عشر . ولكي نقف على ملابسات التأثير الحاسم الذي مارسته أفكار كوزنيتس والترحيب الي لاقته خلال الثمانينيات والتسعينيات الماضية -والمستمر بشكل ما لحد الان -من الضروري ان نشير الى انها كانت بمثابة النظرية الاولى من نوعها التي اعتمدت في بنائها على اطار متكامل من الإحصائيات لم يكن متوفراقبل حلول النصف الثاني من القرن العشرين و صدور الكتاب الضخم لكوزنيتس سنة 1953 «نصيب عائدات المجموعات العليا في المداخيل والادخار». هذا التاريخ فقط صار بامكان الاقتصاديين الاعتماد على كم هائل من الجداول التاريخية الإحصائية التي تقيس تطور اشكال التوزيع. لقد انحصر اهتمام كوزنيتس في وضعية الولاياتالمتحدةالامريكية خلال مرحلة امتدت على مدى ثلاثين سنة ( 1913-1943) ، ومع ذلك فقد شكل مساهمة حاسمة في مجال الدراسة . لقد اعتمد على مصدرين أساسيين في عمله لم يتوفرا لغيره من الدارسين في القرن التاسع عشر, المصدر الاول هو الإحصائيات الفدرالية حول مداخيل الضريبة على الدخل (والتي لم تكن متاحة قبل انشاء الضريبة على الدخل في سنة 1913 ) . اما المصدر الثاني فكان هو التقديرات التي قام بها كوزنيتس نفسه حول الدخل القومي الامريكي . لقد كان هذا العمل إذن هو اول محاولة جريئة وجسورة لقياس اللامساواة الاجتماعية على نطاق واسع . من المهم التاكيد انه بدون هذه المصادر المتكاملة والضرورية للمعطيات ،فانه من المستحيل قياس حجم اللامساواة في توزيع المداخيل او تحديد حجم تطورها في الزمان .من المؤكد ان المحاولات الاولى لتقدير الدخل القومي في كل من بريطانياوفرنسا تعود الى نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر ، تبعتها محاولات اخرى عديدة خلال القرن التاسع عشر ، ولكنها كانت محاولات معزولة وجزئية . لم تظهر المعطيات الحاسمة والتفصيلية حول الدخل القومي الا في القرن العشرين ، وتحديدا في فترة ما بين الحربين بفضل عدد من الاقتصاديين مثل كوزنيتس kuznetsو جون كيندريك John W Kendrick في الولاياتالمتحدة وارثر بووليArthur Bowley في بريطانيا و دوجي دو بيرنونفيل Duge De Bernonvilleفي فرنسا . لقد صار بالإمكان اعتمادا على هذا النوع من المعطيات قياس الدخل القومي لمختلف الأقطار ، ولقياس حصة المداخيل المرتفعة ضمن بنية الدخل القومي فإننا نحتاج الى تصريحات المداخيل ، وهو ما غدا متاحا بشكل ميسر في الأقطار التي أقرت نظام الضريبة التصاعدية على المداخيل ابتداء من فترة الحرب العالمية الاولى ( 1913في الولاياتالمتحدة 1914في فرنسا 1909في بريطانيا 1922في الهند،1932في الارجنتين) . ومن المفيد كذلك ان نشير انه حتى مع غياب ضريبة الدخل فقد كانت هناك عدد من المعطيات الإحصائية التي تقدم إضاءات في موضوع القاعدة الضريبية على غرار، مثلا ، التوزيع في اعداد الأبواب والنوافذ حسب الأقاليم ، وهو المقياس الذي كان معمولا به في فرنسا خلال القرن التاسع عشر , لكن هذا المقياس -وغيره- الذي كانت له فائدته بدون شك ، لم يكن ليفيدنا بشكل حاسم بخصوص المداخيل . اكثر من ذلك فان الناس لم يكونوا يعرفون على وجه الدقة حجم مداخيلهم قبل المرحلة التي اصبح فيها القانون يفرض على الملزمين التصريح بالمداخيل لدى السلطات المختصة . وما يقال عن الضريبة على الدخل يصدق أيضاً على الضريبة على الشركات و الضريبة على الثروة . ان التضريب (إقرار الضرائب ) ليست فقط عملية تتيح مشاركة كل المواطنين في تمويل النفقات والمشاريع العامة ، وتوزيع العبئ الضريبي بأقصى عدل ممكن ، ولكنها أيضا عملية تمكن من وضع التصنيفات كما تمكننا من معرفة الحقائق الاقتصادية وبالتالي ضمان الشفافية الديمقراطية. وفي كل الأحوال فان المعطيات التي جمعها كوزنيتس مكنته من حساب وقياس تطور كل جزء وكل الأجزاء المرتفعة في تراتبية المداخيل ضمن الدخل القومي الامريكي . ما الذي اكتشفه في دراسته ؟ لقد سجلت الدراسة التي قام بها انخفاضا محسوسا في اللامساواة على مستوى المداخيل في الولاياتالمتحدة بين سنة 1913و 1948 ، وخلال بداية تلك الفترة ، وصلت حصة العشرة في المائة من المداخيل الاكثر ارتفاعا قياسا الى الدخل السنوي القومي 45الى50 في المائة، لكن هذه النسبة انخفضت الى مابين 30الى 35في المائة عند نهاية تلك الفترة ، ومن الجلي ان هذا الانخفاض في مستوى اللامساواة بنسبة 10نقط كان انخفاضا مهما ، وكان يساوي في قيمته نصف مداخيل ال 50في المائة من الأمريكيين الاكثر فقرا . لقد كان لهذه الاخبار السارة وقع مهم في النقاش الاقتصادي العمومي سواء داخل الحقل الجامعي او في أروقة المنظمات الدولية . لقد تحدث مالتوس وريكاردو وماركس وآخرون غيرهم لعقود وبشكل مستفيض عن اللامساواة دون تقديم جرد لمصادر واثقة في الموضوع او تقديم المقارنات المطلوبة بين حقبة وأخرى او الحسم بين الفرضيات المتنافسة . لقد اصبحت المعطيات متوفرة لاول مرة انطلاقا من العشرية الاولى من القرن العشرين ، اصبحت هذه المعطيات متاحة على كل حال رغم انها لم تكن مكتملة في بنائها العام . لقد اتخذ طابع تجميع المعطيات الإحصائية منحى توثيقيا مهما ، فلقد كشف كوزنيتس في مؤلفه الضخم سنة 1953المشار اليه عن مصادره ومنهجيته بتفصيل بحيث ان أية عملية حسابية اصبح بالإمكان اعادة تركيبها او صياغتها، ثم ان كوزنيتس ، علاوة على ذلك ، كان معلن الاخبار السارة التي تقول ان اللامساواة هي في طريق الانخفاض. منحنى كوزنيتس: اخبار سارة في عز الحرب الباردة لقد كان كوزنيتس واعيا بان التقلص الذي عرفته المداخيل العليا في الولاياتالمتحدة بين 1913 و 1948كان بمثابة الحادثة العرضية وانه نتج بشكل كبير عن الصدمات المتلاحقة التي أحدثتها أزمة 1929 ثم الحرب العالية الثانية بعد ذلك، وانه بالتالي لم يأت في سياق مسلسل طبيعي أوتوماتيكي ، وهكذا ففي اعماله سنة 1953 حلل بشكل مدقق إحصائياته وحذر القراء من الاستنتاجات المتسرعة ، لكن ،وفي شهر دجنبر من سنة 1954وخلال اللقاء الذي عقدته بمدينة ديترويت Detroit جمعية الاقتصاديين الامريكيين( التي كان يرأسها ) ذهب كوزنيتس بعيدا في التفاؤل وهو يتولى تفسير النتائج التي توصل اليها في اعماله المنشورة سنة 1953. لقد كانت المحاضرة التي ألقاها بالمناسبة والتي نشرت سنة 1955 تحت عنوان «النمو الاقتصادي وإشكالية اللامساواة في المداخيل» هي المدخل لما اصبح يعرف ب « منحنى كوزنيتس». ووفقا لنظرية كوزنيتس فان المنتظر في كل الأحوال والامكنة ان تاخذ اللامساواة منحى اسماه « منحنى الجرس» . بمعنى انها في بداية الامر تتزايد ارتفاعا لكنها ، مع مسار التطور الصناعي والنمو الاقتصادي تميل تدريجيا الى الانخفاض , ووفقا لكوزنيتس فان المرحلة الاولى الموسومة بتنامي اللامساواة كانت ، بالنسبة للولايات المتحدة ، اجمالا، هي القرن التاسع عشر فيما كان النصف الاول من القرن العشرين هو المرحلة اللاحقة ضمن منحنى الجرس الذي تحدث عنه حيث عرفت اللامساواة انخفاضا حاسما . ويبدو بشكل ما اننا نوجد اليوم ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين في نفس الوضعية التي وجد فيها أسلافنا انفسهم فيها في بداية القرن التاسع عشر : اننا نشهد تغيرات ضخمة تمس مختلف الاقتصاديات عبر العالم ، ومن الصعب ان نجزم ، لا بالمدى الذي ستصله تلك التغيرات ولا بالشكل الذي سيأخذه توزيع الغنى والثروات خلال العقود القادمة ، ان على المستويات الداخلية للدول او فيما بينها . يستحق علماء الاقتصاد للقرن التاسع عشر كامل الاحترام والتقدير لأنهم وضعوا إشكالية التوزيع في قلب التحليل الاقتصادي من جهة، ولأنهم حاولوا دراسة الاتجاهات الكبرى على المدى البعيد من جهة ثانية . ورغم ان الإجابات التي قدموها لم تكن دائما مقنعة فقد كان لهم الفضل على الاقل في طرح الأسئلة الصحيحة . وليس هناك سبب معقول يدعونا الى الاعتقاد بان النمو يحمل في طياته عناصر التوازن والتكافؤ بصفة أوتوماتيكية . والحقيقة انه كان علينا منذ فترة طويلة ان نعيد مجددا وضع معضلة اللامساواة في مركز وقلب التحليل الاقتصادي و ان نبدأ في طرح ذلك النوع من الأسئلة التي طرحت في اول الامر في القرن التاسع عشر . لمدة طويلة اهمل الاقتصاديون إشكالية توزيع المداخيل ، اما بسبب الاستنتاجات المتفائلة لكوزنيتس واما بسبب الانتصار بحماسة زائدة لتلك النماذج الرياضية التبسيطية المبنية على ما عرف ب « الفاعلون ذوو التمثيلية representative agents . واذا كتب لاشكالية التوزيع ان تعود الى الواجهة من جديد وان تصبح حقا في قلب الاهتمام فسيكون علينا ان نبدأ بتجميع للمعطيات التاريخية بأكثر ما يمكن من الشمول، وبما يمكننا من خدمة الهدف المتمثل في معرفة الاتجاهات العامة في الماضي والحاضر .، ان مثل هذا العمل التجميعي المنجز بصبر وأناة هو الذي سيمكننا من تحديد دقيق للآليات المتحكمة في انتاج الفوارق وتكوين صورة واضحةٍ حول المستقبل .