لأن من شيم المغاربة المتعارف عليها منذ غابر الأزمان، إكرام وفادة الضيف كيفما كانت جنسيته وديانته، ومعاملته بأريحية في أجواء من الابتهاج، ولأن بلدهم فضلا عما حباه الله به من طبيعة ومناظر خلابة تستقطب آلاف السياح من مختلف بقاع العالم طوال السنة، يعتبر أرضا للأمان والاستقرار بامتياز تام، بالنظر إلى ما يبذل من جهود مضنية ويعتمد من مقاربات أمنية في مكافحة التطرف والإرهاب… فقد كان عسيرا عليهم تحمل وقع الصدمة العنيفة التي هزت كيانهم وعكرت صفو حياتهم، وهم يستفيقون صباح يوم الإثنين 17 دجنبر 2018 على خبر الجريمة الإرهابية النكراء، التي ذهبت ضحيتها سائحتان أجنبيتان: دانماركية ونرويجية، تبلغان من العمر 24 و28 سنة، جاءتا لقضاء عطلتهما الدراسية في ممارسة رياضة تسلق الجبال، حيث عثر على جثتيهما مذبوحتين بطريقة همجية في منطقة معزولة بجماعة إمليل قرب ضريح «شمهروش» في جبال الأطلس الكبير. وهو الفعل الإجرامي المرعب، الذي هز مشاعر الرأي العام الوطني، باعتباره فعلا دخيلا ولا يمت بصلة لقيمهم الوطنية السامية. وبقدر ما عم السخط والاستياء وتعالت أصوات التنديد والاستنكار، بقدر ما ساد نوع من الارتياح، جراء العمل الاستخباراتي الكبير الذي قام به المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، بتنسيق مع عناصر الشرطة بولاية مراكش ومساعدة المواطنين، في توقيف الجناة الهمجيين خلال ظرف زمني خرافي. بيد أن القبض السريع على هؤلاء الإرهابيين الأربعة الخارجين عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وغيرهم ممن لهم صلة بالحادث المأساوي البغيض، لم يمنع من تعدد الآراء حوله في مواقع التواصل الاجتماعي وباقي المنابر الإعلامية الأخرى وطنية وأجنبية. وهكذا نجد أن أصحاب التوجه الإسلامي، يرون أن الهدف من مثل هذه الأفعال الإرهابية الشنيعة، هو محاولة تشويه صورة الإسلام وضرب السياحة والاقتصاد الوطني. وهناك من الحداثيين والعلمانيين من أدان الفكر الإسلامي المتطرف، الذي يتغذى من الأشرطة المبثوثة عبر «اليوتوب» والقنوات الفضائية الشرقية، وينهل من فكر ابن تيمية والوهابية… ولم تقف الإدانة عند حدود تظاهر مئات المواطنين أمام مسرح الجريمة بمراكش وسفارتي البلدين بالرباط، تعبيرا عن غضبهم إزاء الجريمة الوحشية وتضامنا مع أسرتي الضحيتين وشعبيهما، إذ وجهت فرق الأغلبية والمعارضة بمجلس النواب سؤالا آنيا إلى وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت حول ملابسات مقتل الشابتين الإسكندنافيتين. كما تفاعلت جميع الأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية ومختلف فئات الشعب المغربي مع هذا الفعل الإجرامي الرهيب الذي يمتح من الأفكار الهدامة والظلامية، التي أضحت تهدد شبابنا وتفتت بنية شعوب المنطقة، ويطالبون جميعهم بمناهضة الإرهاب وتوفير مزيد من الأمن، للحيلولة دون تنفيذ المخططات التخريبية المتنافية مع مرجعياتنا وقيمنا وثقافتنا القائمة على الوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش، ونبذ كافة أشكال العنف والتطرف والإرهاب… صحيح أنه في إطار السياسة الرشيدة لملك البلاد محمد السادس الرامية إلى بسط الأمن والاستقرار، لم يفتأ كبار المسؤولين يعملون جاهدين على محاولة قصم ظهر التطرف، والوفاء بالتزامات المغرب في مكافحة الظاهرة والخطابات التكفيرية والتحريضية، والحرص الشديد على إشاعة قيم التسامح ونبذ العنف والكراهية في المجتمع، اعتمادا على مقاربة أمنية عامة قوامها الانخراط الكلي في الجهود الجهوية والدولية المرتبطة أساسا بمحاربة الإرهاب. وقد تجسدت هذه المقاربة منذ عام 2002 على الخصوص في العمليات الاستباقية، لإحباط المخططات الدموية وإقبارها في مهدها، وحجز كميات وافرة من الأسلحة. وقد ظلت الوزارة الوصية حريصة على الإعلان المطرد عن تفكيك خلايا إرهابية، سواء تعلق الأمر بتلك التي تنشط في مجال تجنيد المقاتلين المغاربة والأجانب، من أجل الالتحاق بالعصابات الإرهابية في تنظيم «داعش»، أو تلك التي كانت تخطط لزعزعة أمن واستقرار البلاد… وأن المغرب منذ تفجيرات الدارالبيضاء الإرهابية في 16 ماي 2003 التي أدت إلى مقتل 45 شخصا وإصابة عدد آخر من الجرحى، راكم تجربة كبيرة في مجال محاربة الإرهاب، أصبحت بشهادة الكثيرين مرجعا دوليا، وأقر بموجب ذلك قانون مكافحة الإرهاب. وبموازاة حربه الأمنية المتواصلة، خاض حربا دينية عبر إعادة هيكلة الحقل الديني، تكوين مرشدات ومرشدين وإنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة… متوخيا منها إغلاق المنافذ التي يتسلل منها الخطاب الديني المتطرف إلى عقول الأبرياء، لاسيما أن ظاهرة التشدد الفكري عرفت تطورات خطيرة على أيدي بعض الشيوخ السلفيين الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على الدين ولا يكفون عن تكفير مخالفيهم الرأي والتحريض على استباحة دمائهم، في ظل غياب نصوص تشريعية مختصة. مما ساهم في انتقال الفعل الإجرامي من العفوية إلى مرحلة التنظيم عبر مشاريع تخريبية، تستخدم فيها أحدث التقنيات والاختراعات العلمية والتكنولوجية، بهدف خلق الرعب، إزهاق أرواح الأبرياء ونسف المنشآت والمرافق العامة والخاصة والنيل من هيبة الدولة… غير أن المقاربتين معا الدينية والأمنية لم تكونا كافيتين لصد ضربات الغدر، وبصرف النظر عن ملابسات جريمة شمهروش الرعناء، فإنها كشفت عن كون بلدنا ليس بمنأى عن خطر الإرهاب، وعما تعرض إليه بعض شبابنا من غسيل الدماغ في ظل سياسات التهميش والإقصاء اللاشعبية واللاديمقراطية، والمتمثلة في التغاضي عن انتشار الكتاتيب والجمعيات التي تنشر الجهل وتكرس الخرافة والكراهية، إفراغ المدرسة العمومية من حمولتها القيمية التي تؤمن بالتعدد والاختلاف والحرية وتنشد الكرامة والعدالة الاجتماعية لعامة الشعب، وبات ملحا تظافر جهود الجميع لاستكمال البناء الديمقراطي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ومقاومة قوى الظلام والرجعية، تجفيف منابع الفكر المتطرف وتعزيز المقاربة التربوية، لترسيخ قيم المواطنة والتسامح والتعايش والإيمان بالاختلاف…