« يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ...» وقال تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) النساء وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات وقال «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» سورة الأنفال
إن إصلاح ذات البين في الامور الخاصة والعامة، تعلق الامر بالدولة أو الهيئات السياسية والنقابية ...أو الاسرة أو بين الافراد هو عمل واجب وضروري وراق وحضاري ونبيل يؤجر عليه الساعي له خيرا في الحياة الدنيا، كما في الاخرى ...فبه يحافظ الناس على مدنية وسلمية وتسامح المجتمع ..وبه يضمن إتمام وتطوير ما بناه السابقون ...وبه يتم التغلب على الصعاب والإكراهات كانت نفسية أو مادية أو ... كما أن غيابه / أو تغييبه في ثقافة الناس وخاصة من يطلق عليهم النخب، يعتبر أمرا غير سليم ومخالفا للمنطق ويطرح أكثر من علامة استفهام تستدعي أن يستحضر الجميع وعيه ونضجه واتزانه، بالابتعاد عن الأنانيات والمصالح الزائفة والضيقة والاتجاه نحو المستقبل بأمل مصحوب بعمل بناء في إطار ما يحافظ به الناس على المسارات المشتركة التي لولا من سبق، لما كان لمن هو حاضر علم بما يدعي أنه مالكه... وباستحضار قوي للأولويات والضروريات اللازمة لسلامة الجميع وحفظ التراث الفكري والنضالي ،وتقوية الامل بالإسهام في تطوير قدرات العطاء وتنمية المبادرات التي تصب في المستقبل فكر فيه الرواد من شهداء وقادة وجنود الخفاء ...سنجد القواعد العقلية والعلمية والفقهية تربط بشكل جدلي بين التقدم وبناء الحضارات ووجود نضج يتجسد في التكامل واحترام آليات العمل المشتركة بين الناس كافة أو مجموعة منهم ...داخل نفس الجماعة أو المجتمع أو بين الدول ...وكلما قامت صراعات أو انقسامات أو فتن.. فغالبا ما تجد أن البعض من المعنيين بالريادة والقيادة والإمامة يلتجئون الى جعل مسألة خلافية في الفروع تصل لدجة القطيعة وإشعال الحروب الكلامية التي تصل الى الحضيض وتجعل البعض « يتمرغ في أوحال ووسخ الكلام «، وهو معتز بفعلته التي يظنها انتصارا ..ولنا في ما كتبه البعض من الخوارج والشيعة والسنة تجاه بعضهم البعض أمثلة يفرح لها إلا الاعداء ... ومن هنا نعرج بدءا بالقواعد الفقهية الكبرى اختصارا مع ضرورة التدبر العميق في دلالات وضعها واعتمادها في التأصيل الفقهي للعديد من القضايا والمجالات ذات الصلة بالحياة الانسانية في مستوياتها المتعددة ووفقا للنوازل ... فالأولى هي أن « اليقين لا يزول بالشك « في ارتباط بقاعدة «إلغاء الشك في المانع واعتباره في المقتضى الشرط .» الثانية أن «الضرر يزال « وتندرج معها قاعدة «ارتكاب أخف الضررين ،» الثالثة أن « المشقة تجلب التيسير» الرابعة:» العادة معتبرة « وأصلها قوله تعالى « خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين « سورة الاعراف الخامسة ..» الامور بمقاصدها «ومرتكزها قوله (ص)» إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .» ومن فقه إصلاح ذات البين تطهير القلب والنفس والفكر بإفراغها وتنقيتها من الأهواء والمصالح الدنيوية الانتهازية والأحكام المسبقة وسوء النية ...إذ الاصلاح جزء جوهري من آليات بناء العدل وإقرار العدالة باعتباره يقي من الصراعات الوهمية والمفتعلة والأنانية بمبررات قد يستعملها كل طرف في مواجهة الآخر، بغض النظر عمن هو الأصدق منهما ...وهنا لابد من التأكيد على ان التشكيك والتشويش والتضليل الذي يستهدف عرقلة كل الاعمال الإيجابية ويسعى لتعطيل مسارات عمل الاخر .. والذي يبتغي بتشكيكه إثارة اهتمام الغير لدرجه أنه لا يعنيه من الامر إلا قطع صلة الرحم وروابط الاخوة والصداقة، والتعويض عنها بالكراهية التي لن يلجأ إليها إلا من كان في نفسه شيء من الضنك ... فأن يعمد الانسان الى نشر التجريح والإساءات أمام الناس.. فمعنى ذلك أنه يسعى بوعي أو بدونه الى إحراق السفينة التي يمتطيها لفائدة سفينة مازالت في عالم الخيال، تصورا ووجودا وعمرا، إذ قد تموت في الفكر ..وقد تولد معاقة .. معتقدا أنه بذلك يحسن صنعا أو يعتمد على مقولة وبعدي الطوفان .. ولهذا فكلما تظافرت الجهود الخيرة ضاق مجال الخلاف لتنفرط عراه ..ولتكشفت السرائر لما فيه الخير ..فتجف البرك الآسنة التي يتلذذ بصنعها وملئها بماء عكر وسخ ضعاف البصيرة والمنطق ،الذين لاشك ان لهم أياد سوداء ووسخة في تاريخ التلويث والتسميم، والحرص على عدم تركها تصفو ... إن الإصلاح عندنا شرعا يعتبر عبادة.. فبه تتصافى القلوب ويصلح المجتمع وتلتئم الكلمة على المشترك من أجل كل الاهداف النبيلة ..ويحل التفاهم والوضوح فتتقوى معه أواصر الاخوة والتقارب ... إن كل من يدعو الى افتعال الخصومات والتناقضات ثم بعد ذلك لا يقبل بالصلح ولا يعمل من أجل تحقيقه ، لاشك أن قلبه يكون كما وصف في قوله تعالى ب « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون « سورة المطففين ... ويفترض في الصلح أن لا يبنى على تحريم الحلال أو تحليل الحرام ...أو نقض العهود والمواثيق الجامعة للناس قبل الخصام ... ويجب أن تطال آثاره الأفراد والجماعات من جهة الدم والفكر والعقيدة أو الاخوة الانسانية ...سواء هم الأمر الأموال أو الدماء أو المذاهب أو السياسات أو العلاقات المختلفة عندما تظهر بوادر النزاعات والخصومات والصراعات ... إن كل من يشجع الجدال السلبي العقيم لإذكاء الخصومات وإثارة الفرقة، يكون فعله ذاك شرعا ذميما .. حيث قال في هذا رسول الله (ص): « من جادل في خصومة بغير علم، لم يزل في سخط حتى ينزع «. وقال (ص): « ما أتاني جبرائيل قط إلا وعظني، فآخر قوله لي: إياك ومشادة الناس فإنها تكشف العورة وتذهب بالعز «. وفي هذا قال أمير المؤمنين سيدنا علي « إياكم والمراء والخصومة، فإنهما يمرضان القلوب على الاخوان، وينبت عليهما النفاق «. لقد أمر الله تعالى بالصلح العادل، وجعله قرين التقوى وشرط الإيمان.. ووضع لذلك الانبياء وأهل العلم ضوابط لا يستقيم إلا بها ...فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن ) . ويشترط للإصلاح أن يكون المصلح ممتلكا لتصور واضح المعالم والآفاق تعلق الامر بالمسألة موضوع الخلاف، وأن يكون ملما بالثابت في المختلف حوله والمتحرك وبالأصول والفروع ، إذ لا يمكن للفرع أن يلزم الاصل بالتبعية له، أو تغيير طبيعة أصله لتلائم المتفرع عنه ..مع إمكانية بقاء الفرع بخصوصيته ضمن أصله، باستثناء إن كان على النقيض مما يظهر. يقول تعالى: «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» هود وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ) قَالَ الترمذي : وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنَّهُ قَالَ : ( هِيَ الْحَالِقَةُ . لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ) .