ذلك الصباح كان مميزا بالنسبة لي ، لم تتأخر فيه صديقتنا الفنانة الكبيرة نورة العرفاوي في الوصول إلى إقامتنا بالمدينة العتيقة ، كانت طلتها بهية، غيرت معالم تواجدنا في تونس الشقيقة. أقول ذلك لأن نورة الجريئة والصريحة، تجدها في كل مكان، وفي كافة الواجهات، هي المناضلة اليسارية التي بكت شكري بلعيد حرقة في الواقع وفوق الركح ، وفضحت الأيادي التي أهدرت دمه.
ذلك الصباح كان مميزا بالنسبة لي ، لم تتأخر فيه صديقتنا الفنانة الكبيرة نورة العرفاوي في الوصول إلى إقامتنا بالمدينة العتيقة ، كانت طلتها بهية، غيرت معالم تواجدنا في تونس الشقيقة. أقول ذلك لأن نورة الجريئة والصريحة، تجدها في كل مكان، وفي كافة الواجهات، هي المناضلة اليسارية التي بكت شكري بلعيد حرقة في الواقع وفوق الركح ، وفضحت الأيادي التي أهدرت دمه. شكري المناضل اليساري الذي اغتيل بعد سنتين من ثورة الياسمين أمام منزله، بأربع رصاصات، كانت واحدة بالرأس وواحدة بالرقبة ورصاصتين بالصدر، وكان شهيد اليسار شكري بلعيد، قد اتهم حزب النهضة- في آخر مداخلة له أذيعت على شاشات التلفزيون الخاص بتونس -بالتشريع للاغتيال السياسي، بعد ارتفاع اعتداءات رابطات حماية الثورة، الذراع العسكري للنهضة . دموع نورة تعني لي الكثير،أحس في كل لقاء بها قلقها على وطنها، وخوفها المتواصل من فقدان عزيز يصاحبها ، نفس القلق المصحوب بالألم يعلقها من أمعائها تحمله إلى خشبة المسرح في تمازج فعلي مع ما يحدث على أرض الواقع. بالفعل وأنت تنصت إلى نورة، أو تنظر في وجهها لا تستطيع أن تميز بين الوضعين، هي نورة واحد، أينما كانت، منسجمة مع قناعاتها وإيمانها بالإنسان والقضية. وهي نورة المواطنة التونسية التي قالت نعم للثورة السلمية ضد نظام بنعلي،من أجل التغيير المنسجم مع إرادة الشعب، وقالت: لا ، لكل من خولت له نفسه تسليم تونس للظلام. فتونس بالنسبة لها لا وجود لها، إلا معانقة للحرية والديمقراطية، يستحق أبناؤها عيشا كريما، كأفراد وكشعب وكدولة مميزة بناسها في المنطقة، تونس، الكرامة في الواقع و الركح والكلمة والحرف والصورة والفن والحضارة والتاريخ، وتونس الموقع الاستراتيجي الجغرافي، الذي يمد يديه في كافة الواجهات، ووجهته الحقيقية هي معانقة المغرب، والانصهار فيه ومعه. هكذا تتحدث نورة عن المغرب، وكما تعانق راية تونس تختار أن تقبل راية المغرب، وتتحدث باستمرار للتونسيين عن بلادي ، معجبة حد الهوس بالملك محمد السادس. هي لا تنسى يوم كنا معا بالرباط، فعرجت يومها بسيارتي إلى باب القصر الملكي، لأجعل نورة تتمتع بجمالية أسواره، فاستغربت كوني كمواطنة مغربية عادية دخلت القصر بترحيب كبير من حراسه في إجراءات أمنية عادية ، لأخبرها أن بالقصر ساكنة من عامة المواطنين وهم جيران للملك محمد السادس. تحكي نورة جولتنا بالقصر الملكي بالرباط، للتونسيين، وتصحح بعض المعتقدات الخاطئة في أذهانهم والخاصة بعلاقة الملك بالشعب المغربي . حكي نورة عن الملك ، مزيج بإعجابها بالمغرب وناسه. لم تكن نورة تتصنع الحديث وهي تكرره، بل قالت للتونسيين: عليكم أن تزوروا المغرب لتعرفوا أن ملك المغرب الذي أتى إلى تونس بالأمس متجولا في شوارعها وأزقتها بدون حراسة ، هو الملك الذي يقوم بنفس الشيء في بلاده. ومازال التونسيون يتحدثون بإعجاب كبير عن اليوم الذي فاجأهم العاهل المغربي محمد السادس بجولة في شارع الحبيب بورقيبة بقلب العاصمة تونس، ويسجل التونسيون ذلك بكثير من الحكي في التفاصيل، خصوصا عندما ننهي نهارنا بالمقهى الكائن بسوق الشواشين في المدينة العتيقة للإنصات إلى بعضنا. قالت نبيلة الممثلة التي تتمنى زيارة المغرب، لكن الظروف لم تتح لها، أنها فوجئت عندما اطلعت على الخبر، كون ملك المغرب أقدم على التجوال بمفرده في شارع بورقيبة، وأن الكثير من الشباب التونسي هرعوا لأخذ صور مع جلالته، مضيفة أن الأمر بالنسبة لها مغامرة كبيرة، كون البلد غير آمن، وأن الموجودين في مراكز القرار من التونسيين أنفسهم لا يستطيعون أن يقدموا على نفس الفعل بدون حراسة، ثم ضحكت نبيلة حتى أبانت على أسنانها الخلفية قائلة: «أو قولي لا يستطيعون فعل ذلك دون جلب دبابة لحراستهم»، قلت لنبيلة هي ليست مغامرة، بل تضامنا مع تونس الشقيقة من أعلى سلطة في بلادنا، ونحن اليوم نقوم بنفس الفعل، نحتسي الشاي والقهوة في زقاق مفتوح على كل الاحتمالات ، وضمن برنامجنا سنعمل على عرض المسرحية في هذا المكان في الزقاق غير المحروس وسنقول بلغة الركح في مسرحية «الحكرة»، لا للظلام، لا للعنف، نعم للحرية للعدالة والكرامة، مستحضرين روح عمر بنجلون، وفرج فودة، وشكري بلعيد، ومحمد البراهمى، رافضين لغة الدم، داعين للغة الحوار والتعايش والتوجه للمستقبل في سفينة تجمعنا تحت راية الحب والسلام الذي ينبغي أن يكون. في تلك الليلة بسوق الشواشين في المدينة القديمة، قلنا شعرا ومسرحا وجسدنا أدوارا. كانت فاتن توزع الزمن الثقافي بيننا، وبشخصية القاضي التي شخصتها، تحدثنا في كل شيء في السياسة والمجتمع والمعرفة، وضحكنا بأسلوب النقائض وروح جرير والفرزدق، عن الذين يريدون أن يعودوا بالمنطقة إلى القرون الوسطى، مستعملين في ذلك كل أساليب الترهيب والترغيب، لكنهم وجدوا المنطقة وفي قلبها تونس سدا منيعا بالتضحيات الجسام التي مازالت تواصل نهجها، رغم كل التحديات، والمعاناة التي لم تركع تونس البهية، التي نزعت الخوف عن محياها، فاتحة صدرها لكل الرصاص الطائش، الذي نفد خزانه،وتعب من تعبئته عندما اصطدم مستخدموه بآلاف الصدور العارية تنتظر كافة الرصاص الطائش، فداء للحرية والكرامة والعدالة الحقيقية التي كانت سببا في ثورة الياسمين، المستعملة في دروب الظلام المترصد بشباب تواق إلى مستقبل أفضل . بدت فاتن مديرة مركز المسرح الدولي / ربط، جد سعيدة وهي تؤسس لمستقبل لقاءات مغايرة في تونس الجريحة، قالت للشباب غنوا وارقصوا، وهذه مقهى سوق الشواشين، ستسقيكم كؤوس الشاي والقهوة مجانا، وإن أردتم أي شيء آخر من الكؤوس التي حرمت عليكم، فلتكملوا سهرتكم على حسابي في حانات شوارع تونس التي هجرتموها قهرا، يوم خرجت فرق النهي عن المنكر تترصدكم، لجلدكم أو قتلكم. وصاحت فاتن بلغتها كممثلة بوجه معبر جدا، وعينين واسعتين تنظران في كافة الاتجاهات في وجه جميل زادته النحافة سحرا يشدك إليه .» هيا أيها الشباب ، افرحوا ، واطردوا الخراب من وطنكم ، وحولوا الجرح إلى زمن مضى، نحو زمن الأمل الذي حلت خطواتكم في دربنا، انطلاقا من مدينتنا العتيقة نحو شوارعنا الكبرى.. ولنا عودة