هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية على الإنترنت وسعيها الدائم إلى التجسس على العالم بتعلة الحفاظ على مصالحها، لم يعودا أمرا مقبولا لدى العديد من الدول التي باتت تتحرك في سياق معارض للسائد، بهدف سحب البساط من تحتها وإنهاء الهيمنة الأميركية على هذا المجال الحيوي، وفق دراسة للباحث دان شيلر صادرة بموقع Agence Global. الكشف عن برامج وكالة الأمن القومي الأمريكية الخاصة بالتجسّس بالاعتماد على ملفات إدوارد سنودن أدى إلى «تغييرات جذرية في عدة بلدان»، حسب الصحفي غلان غرينوالد، الذي شارك في الكثير من عمليات الكشف هذه. وبعد اتخاذ كل من المستشارة الألمانية، أنجلا ميركل، ورئيسة البرازيل، ديلما روسيف، مواقف علنية ضدّ تعدي الولاياتالمتحدة على الحياة الخاصة للناس، وتأكيد الجمعية العامة للأمم المتحدة على أن الخصوصية على الإنترنت حقّ من حقوق الإنسان، وعدت وزارة العدل الأميركية بتقديم قوانين أمام الكونغرس من شأنها أن تمنح المواطنين الأوروبيين الكثير من حقوق حماية الخصوصية الممنوحة للمواطنين الأمريكيين. لكن لفهم أهمية قضية سنودن جيدا، تفيد دراسة شيلر، بأنّه يجب أن يتمّ توسيع دائرة التركيز على ما هو أبعد من التجاوزات التي قامت بها دولة عظمى متغطرسة، ودراسة أثر عمليات الكشف التي قام بها موظف المخابرات الأميركية السابق على القوى التي تشكل الاقتصاد السياسي العالمي المبني حول الولاياتالمتحدة. ماهي وظيفة التجسس؟ تعتبر وظيفة التجسس لدى وكالة الأمن القومي جزءا لا يتجزأ من جهاز القوة العسكرية الأميركية، وفق شيلر. وهذا الجهاز العسكري يعمل داخل سياق التحالفات الإستراتيجية الأميركية، ومن بينها تحالفات عُقدت منذ سنة 1948 أساسا مع المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وهذه البلدان التي تسمى «الأعين الخمس» عملت مع بعضها البعض على مدى عقود لشن حرب عالمية باردة، وكان العدو الأول في البداية الاتحاد السوفييتي لكن على إثر حركات التحرر الوطني والحركات المناهضة للإمبريالية في كامل أرجاء آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية سعت واشنطن إلى تطوير قدرات جمع معلومات استخباراتية في كامل أرجاء العالم. وبعد كشف إدوارد سنودن عن الملفات السرية طلبت أنجلا ميركل من الولاياتالمتحدة أن يتم تشريك ألمانيا في الاطلاع على المعلومات الاستخباراتية، بيد أن إدارة أوباما رفضت طلبها ذاك. هل اقتصر التجسس على «الأعين الخمس»؟ في سياق آخر أفاد شيلر في دراسته، بأنّ عدد الموقعين على اتفاقيات التجسس الأميركية قد تضاعف وهوياتهم تنوعت، وفق عدد من الشروط والمصالح، فكانت إيران من بين الموقّعين. إيران التي شكّلت موقعا جيّدا لمراقبة المناطق الجنوبية للاتحاد السوفييتي. وظلّت اتفاقية التجسس بين إيرانوالولاياتالمتحدة سارية المفعول إلى غاية قيام ?ثورة الخميني عام 1979?. وإثر توقّف العملية الإيرانية، وجدت الولاياتالمتحدة في الصين بديلا لها. كانت زيارة هنري كسينجر السرية إلى الصين في شهر أبريل من سنة 1970 بداية لعلاقة استخباراتية أميركية مع الصين، جرى فيما بعد مأسستها. لا شكّ أنه لا يوجد بلد في العالم، باستثناء الولاياتالمتحدة، يمتلك نظام تجسس عالمي المدى، وهو ما يُثبت أنّ الحجة القائلة بأنّ «كلّ الدول تتجسس على العالم» خادعة؛ فانطلاقا من الأقمار الصناعية، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وصولا إلى البنية التحتية للشبكة العنكبوتية، بالشكل الذي هي عليه اليوم، دأبت واشنطن على تعصير معدّات الجوسسة العالمية لديها، لكن منذ سقوط النظام الاشتراكي في بداية التسعينات تم إجراء تحوير في الأهداف، مع الحفاظ على نفس والوظيفة وهي: محاربة من يتحدى اقتصادا سياسيا عالميا بني حول المصالح الأميركية. أما اليوم فالتهديدات تأتي من فاعلين غير حكوميين ومن بلدان أقلّ نموا مصممة على استغلال فرص لتحقيق أرباح أو اتّباع مسالك تنموية بديلة، وخاصة من منافسين ينتمون إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة. ما علاقة التجسس بالاقتصاد؟ هناك مظهر اقتصادي يتعلق بهذا التحول الاستراتيجي ويخصّ ارتباط المنظومة الاستخباراتية الأميركية بالرأسمالية الرقمية في العقود الأخيرة. وفي هذا الإطار يشير شيلر في دراسته إلى أنّ سياسة الخوصصة المستمرة والمتضافرة أدّت إلى جعل التعاقد الخارجي للتزود بالخدمات أمرا روتينيا، مما حوّل وظيفة كانت على مدى بعيد وظيفة حكومية إلى مجهود مشترك بين الدولة والشركات الخاصة. ومثلما برهن سنودن تغلغل مجمع الاستخبارات الأميركية في قلب صناعة الإنترنت. وعلى الرغم من أننا قد لا نفترض أن مصالح أغلب كبرى شركات الإنترنت الأميركية منصهرة أو متتطابقة مع مصالح الحكومة الأميركية، ليس هناك من شك في أن أغلبها كانت متعاونة بشكل كبير. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن شركات «وادي السيليكون» (يمثل اليوم العاصمة التقنية للعالم) شاركت بشكل منتظم، على الأقل، في جزء من برنامج تجسس سري للغاية تابع لوكالة الأمن القومي. وقد أشاد خبير في الاتصالات العسكرية بالعلاقة الوثيقة بين الشركات الأميركية ومؤسسة الأمن القومي الأميركي «لتسهيل الحصول على بيانات المرور واختراق مختلف الأجهزة الدولية من قبل وكالة الأمن القومي» في عام 1989. وقد تواصلت هذه العلاقة الهيكلية. وبعد حوالي سنة، من تسريبات سنودن، اعترف مدير وكالة الأمن القومي «أنّ غالبية هذه الشركات لا تزال تعمل مع الوكالة». هل تضررت الشركات الأميركية؟ تشير الدراسة في سياق آخر، إلى أنّ كشف سنودن لفضائح التجسس أضاف عنصرا جديدا إلى العوامل المناهضة لتحكم الولاياتالمتحدة في الإنترنت. ففي ظرف بضعة أسابيع من ظهور الحكايات الأولى عن برنامج التجسس تزايدت التوقعات بإمكانية إضرار التسريبات بالمبيعات الدولية لشركات التكنولوجيا الأمريكية. وفي هذا السياق كتب المدير التنفيذي لشركة «سيسكو للمعدات التكنولوجية» في مايو الماضي للرئيس أوباما ليحذر بأنّ فضيحة وكالة الأمن القومي تسببت في تقويض الثقة في الصناعة التكنولوجية الأميركية وقدرة الشركات على توصيل المنتوجات إلى السوق العالمية.وبالفعل عمدت بعض الدول إلى تغيير سياساتها الاقتصادية وهو ما مثل تهديدا لشركات الإنترنت الأميركية. مثلا اقترحت كل من البرازيلوألمانيا أن يسمح للشركات الوطنية فقط بتخزين معلومات عن مواطنيها، كما أن روسيا كانت لديها قوانين في هذا الاتجاه. وتخطط البرازيل والاتحاد الأوروبي لإنشاء كابل بحري لنقل المعلومات ليكون بديلا عن الاعتماد على الكوابل الأميركية للمواصلات ما بين القارات، وأسندت الصفقة لشركات برازيلية وأسبانية. وفي جانب آخر تحدّثت البرازيل عن التخلي عن «مايكروسوفت أوتلوك» لفائدة منظومة رسائل إلكترونية تستخدم مراكز معلومات برازيليّة. ردة الفعل الخاصة بالسياسة الاقتصادية هذه ضد رأسالمال الرقمي الأميركي لم تفتر إلى الآن، إذ منعت ألمانيا في شهر سبتمبر الماضي تطبيق الهواتف الذكية المتعلق بتقاسم التّاكسي، وفي الصين تحاول الحكومة دعم الشركات الوطنية عبر وصف معدات وخدمات الإنترنت الأميركية بأنها تهديد أمني واستبدالها بمعدات وخدمات وطنية. ما الذي كان يرمي إليه سنودن؟ يُقال إنّ إدوارد سنودن كان يأمل في أن يشمل أحد تأثيرات تحذيراته «توفير الدعم اللاّزم لبناء إنترنت أكثر مساواة». فسنودن من ثمّة لم يكن يأمل فقط في إشعال شرارة النقاش حول حقوق الحياة الخاصة والتجسس، لكن أيضا كان يأمل في التأثير في موضوع خلافي معتم حول بنية الإنترنت غير المتوازنة، حيث كانت تلك البنية دائما في صالح الولاياتالمتحدة. فمنذ التسعينات من القرن الماضي بدأت تظهر معارضة متفرقة لهيمنة الولاياتالمتحدة على المجال، ثم تكثفت هذه المعارضة بين سنتي 2003 و2005 في القمة العالمية حول مجتمع المعلومات، ومجددا في سنة 2012 أثناء اجتماع متعدّد الأطراف دعا إليه الاتحاد الدولي للاتصالات. من جهة أخرى، عندما ظهرت تسريبات سنودن تصاعد الصراع حول الحوكمة العالمية في الإنترنت. وحسب مسؤول كبير في الحكومة الأميركية «فقدت الولاياتالمتحدة السلطة المعنوية للحديث عن إنترنت حرة ومنفتحة»، جراء تلك التسريبات. كيف تجسدت آراء المعارضين؟ بعد احتجاج رئيسة البرازيل على انتهاكات وكالة الأمن القومي أمام جمعية الأممالمتحدة في سبتمبر 2013 أعلنت البرازيل أنها ستستضيف اجتماعا دوليا لمراجعة السياسات الخاصة بالإنترنت العالمية والمتمركزة حول الولاياتالمتحدة. وتحقق ذلك في أبريل الماضي حيث انتظم مؤتمر «نات مونديال» في ساو باولو ضمّ 180 مشاركا يمثلون الحكومات والشركات والمنظمات الأهلية. وقد شهد المؤتمر تباينا في المواقف، فلم توافق كلّ من روسيا وكوبا على الوثيقة الختامية، وطلبت الهند مزيد التشاور مع الحكومة للموافقة، أمّا التنظيمات الناشطة -وخاصة ائتلاف النات العادل- فكرّرت التزامهم باستعادة الإنترنت من تحالف مصالح الشركات والولاياتالمتحدة، وهي نظرة تتردّد الآن أصداؤها على الصعيد الدولي. خلاصة القول، تفيد الدراسة الصادرة بموقع Agence Global بوجود صراع هيكلي يزداد عمقا حول شكل الرأسمالية الرقمية والسيطرة عليها. حيث أنّ الانتقادات الموجهة ضد هيمنة واشنطن وسياسات الشركات الأمريكية في مجال الإنترنت اكتسبت زخما متزايدا، بيد أن الولاياتالمتحدة مصممة على تجديد هيمنتها العالمية.