تسلَّم حامل وسام الإمبراطورية البريطانية الروائي كازو إيشيجورو (59 عاماً) جائزة صانداي تايمز للتفوق الأدبي في مهرجان شلتنهام البريطاني، منضماً إلى ثلة من المبدعين الحاصلين على الجائزة نفسها كالمسرحي هارولد بنتر والشاعر تيد هيوز. كان من بين نجوم المهرجان المقام برعاية جريدتيْ «ذا تايمز» و«صانداي تايمز» البريطانية هيلاري مانتل والكندية مارجريت أتوود والبريطاني مارتن آميس. رمزية غالبة وشأنه شأن عدد من أبرز كُتاب جيله كسلمان رشدي وبن أوكري يتأرجح إشيجورو، زميل الجمعية الملكية للأدب، بين ثقافتين، اليابانية والإنكليزية. ولد في مدينة ناكازاكي المنكوبة بالقنبلة الذرية ثم انتقل في الخامسة من عمره إلى أرض المستعمر، إنكلترا. وبمثل اقتضاب القصيدة وتعقيدها تعيد رواياته تقييم مبادئ الحرب والسلام، ومنها روايته الأشهر «بقايا اليوم» التي نالت جائزة البوكر وتحولت إلى فيلم سينمائي ذائع الصيت. غالباً ما يحْجم رواة إشيجورو عن قول أي شيء بصورة مباشرة. فالرمزية تغلب على نصوصه حتى يُخيَّل للقارئ أنها لا تطرح أي شيء على الإطلاق، ولكن المعنى الحقيقي يطفو فوق الأحداث ولا يتضح سوى لقارئ بمقدوره أن يستشف ما بين السطور. وعندما نفطن إليه حقاً، سوف تختلط علينا مفاهيم قد نظنها بديهية محسومة، مثل الوطنية والخيانة والولاء. التصالح مع الماضي لذا يصعب وضع تصور أوحد لرواية «بقايا اليوم»، قد نرنو إليها بوصفها هجوماً على الرضا الزائف عن الذات، على مَن تكاتفوا لهلاك أمّة ليخرجوا في النهاية سالمين بلا عقاب، ولعلها مناشدة لطلب الغفران. يخفق المؤلف -أو ربما لا يرغب- في الإجابة على السؤال الحاسم: كيف يتسنّى للفرد أو المجتمع التصالح مع أخطاء الماضي؟ ولأن البطل ما هو إلا كبير خدم تافه الشأن يعمل عند لورد يتورط -عن جهل أو علم- في خيانة بلاده، تستدعي الرواية إلى الأذهان وصف الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل للفرد وعلاقته الشائكة بالمجتمع، «إن البشر مرغمون إرغاماً على الحياة في كذبة، إرغاماً لا ينبع سوى من قدرتهم على الحياة بمثل تلك الطريق. وعليه فالنظام ليس هوالمتسبب الأوحد في وحشة الإنسانية، فمن يكابدون الاغتراب يدعمون هذا النظام كخطة كبرى لا طواعية لهم فيها، كصورة متفسخة لتفسخهم، كشاهد على فشل البشر في أن يصبحوا أفراداً متفردين». التذكر والنسيان استغرق إشيجورو عقداً في كتابة رواية «العملاق المدفون» المتوقع صدورها في العام القادم، فقد اعترف أمام جمهور مهرجان شلتنهام بأن زوجته باحت إليه بأنها «ليست جيدة. من المستحيل أن تُواصل على هذا النحو. فالشخصيات تتحدث ببلاهة. لا بد أن تبدأ من جديد!». تنفَض أحداث الرواية ببريطانيا في الحقبة الفاصلة بين رحيل الرومان ومستهل العصر الأنجلوسكسوني، وتتعاطى وفقاً لدار نشر «فابر أند فابر» مع «الذكريات الضائعة، الحب، الانتقام، الحرب» بينما أعلن المؤلف في المهرجان أن غايتَه أن تَنْقُل، ولو على سبيل المجاز، إحساس ما بعد الحرب الباردة، «إنها منطقة محايدة. أبحث دوماً عن المناطق المحايدة كي أبرزها في صورة مستفزة». وفي دعابة نادرة من إيشيجورو المحافظ في الغالب قال إنه كتب في التاسعة والثلاثين روايته «مَن لا عزاء لهم» وهو يخوض «أزمة منتصف العمر» بعد أن أدرك أن الكُتاب يخطون أجمل روايتهم قبل سن الأربعين، «مثلهم مثل لاعبي الكرة». إحساس بالذعر وبعدها استأنف حامل لقب فارس الفنون والآداب هجوماً نادراً على أعماله ليوصم سيناريوهاته السينمائية الأربعة بأنها سيئة شارحاً أن السيناريو ينبغي أن يسرد القصة بالمرئيات المتحركة، لا بالذكريات أو الحوار، «ولطالما راقتني الكتابة عن التذكر والنسيان». بل إن روايته البوليسية «عندما كنا أيتاماً» (2000) الفائزة بجائزتيّ «ويتبريد» و«البوكر» لم تبرأ من امتعاضه، فقد جاهر أمام جمهور المهرجان أنها فشلت في رأيه فشلاً ذريعاً بالرغم من ولعه بقصص أجاثا كريستي البوليسية ومحاولاته الحذو حذوها. كما فوجئ الحضور بإقراره بأنه لم يولع بالقراءة أو الكتابة في مستهل حياته، إذ كان دافعه الأوحد لكتابة رواية «منظر شاحب للتلال» هو إبقاء ذكرياته عن اليابان حيةً في ذهنه. نَشهد في الرواية قوماً يتعافون من دمار القنبلة الذرية الواقعة على ناكازاكي، دمار كابدته والدة إشيجورو. قال للجمهور، «تولاني إحساسٌ بالذعر، وودت أن أحافظ على نسختي من اليابان آمنةً، أن أصونها أدبياً». الخزي والهزيمة وعلى الغرار نفسه يُقَدِّم إيشيجورو في رواية «فنان من العالم الطليق» الفائزة بجائزة «ويتبريد» وجائزة «سكانو» الإيطالية نظرة أصيلة إلى اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، «عالم طليق» من السلوكيات الثقافية المتغيرة، نماذج اجتماعية طالها التبدل، أسئلة لا تَسلم من القلق. يسلط الضوء عما انتاب اليابانيين من مشاعر حين شنوا حرباً ثم خسروها. سوف نبصر من خلال عين واحدة وحيدة الكبرياء والوطنية، الخزي والهزيمة. إنّ شاهِدَنا فنانٌ، مُدَرَّبٌ على الرؤية وإعادة الخلق، لكن الحق أننا لا يسعنا الثقة بما يرسمه من صور تستدعيها ذاكرته هو وحده. يرسم المؤلف في بعض الأحيان شيخاً أحمق مغروراً، ساذجاً بدرجة لا يتصورها عقل، وفي أحيان آخرى نلفاه مفكراً أساءت اليابان معاملته وشوهت صورته عقب الحرب. والواقع أنه يتعذر علينا تحديد إن كان فنه ذا أهمية قصوى لنظام الحكم أم تراه يعيش خدعة كبرى!أكان وطنياً ضحى بكل غالٍ من أجل شعبه أم نفعياً سعى وراء الشهرة مقابل دعاية سياسية رخيصة؟ كتبت الناقدة الأميركية كاثرين مورتِن في مجلة «ذا نيويورك تايمز بوك ريفيو» أن الرواية «تُمدد وعي القارئ لتُعَلمه أن يقرأ متسلحاً بالمزيد والمزيد من التبصر». ولا ريب أن إحدى الشخصيات ظلت مُغيَّبة حتى النهاية حين قالت: «ضبّاط جيش، سياسيون، رجال أعمال، كلهم ليموا على ما جرى لهذا البلد. لكن بالنسبة إلى من هم على شاكلتنا يا أونو، كان إسهامنا هامشياً على الدوام. لا أحد يكترث الآن لما جاء به أمثالك وأمثالي في يوم من الأيام، فهم ينظرون إلينا ولا يرون سوى عجوزين بعكازين». ابتسم في وجهي ثم واصل إطعام السمك. «نحن مَن نأبه الآن ولا أحد غيرنا. ولمّا يتطلّع أمثالنا إلى حياتهم من خلفهم ليفطنوا إلى أنها قد شابتها النقائص، سوف يجدون أنهم العابئون وحدهم». الدعاية والإمبريالية عاش فنان الرواية شبابه ضمن حدود «العالم الطليق»، عالم من المتعة البوهيمية شكَّل الطابع الجمالي لفن ما قبل الحرب. ولكن رؤيته لدولة يابانية أكثر ضراوة، وتمرده النهائي على مُعلّمه حمَلاه على تحويل لوحاته إلى حملات دعائية، خادماً بذلك حركات إمبريالية دفعت باليابان إلى أتون الحرب. انتهى به الحال إلى أن يعيش في مدينة محطمة لا تَحمل اسماً بعد أن وضعت الحرب أوزارها، تحيط به مشاهد الخسارة، يرتاب فيمن حوله ويرمقهم وكأنما يوجهون إليه أصابع الاتهام. تنصرف تأملاته إلى أيام الدراسة المتفائلة، إلى مواقف ملتبسة وخيبة أمل خفف من حدتها إحساسه بوجود نظام سائد أثناء الحرب، نظام توارى أثره بعدها. يتدبر مسيرته المهنية وحدود الولاء بين المعلمين والتلاميذ وقيمة الفن. لا ينفك حاضره ووعيه يستحضران انخراطه في الحملات السياسية لنظام الحكم قبل الحرب. وعلى مدار الرواية نعي أن البطل يراوده شعور خفي بأنه كان من الخير له أن يلبث فناناً تقليدياً يرسم حدود العالم الطليق. فنيّاته الأخلاقية لا تبرر ملصقاته الدعائية. وهنا يستفز فينا المؤلف السؤال: هل ينبغي على الفنان أن يلتزم بمنهج جمالي خالص في الفن أم يتبنى موقفاً اجتماعياً؟ وهكذا على الرغم من صرامة اتصف بها نثر إيشيجورو، صرامة تتناغم مع عدم مرونة فنان كان شهيراً في يوم من الأيام، يستدر فنان العالم الطليق مشاعر الشفقة والرثاء وهو يتنقل بين صفحات رواية تُعتبر بمثابة تَذْكرة وتحذير في آن واحد. نقرأ في الرواية: «هؤلاء مَن أرسلوا أمثال كينجي إلى الميدان ليموتوا ميتتهم الشجاعة، أين هم اليوم؟ يواصلون حياتهم مثلما اعتادوا طيلة عمرهم والعديد منهم أنجح من ذي قبل، يتصرفون بتأدب أمام الأميركيين، هم عين الأشخاص الذين قادونا إلى الكارثة. ومع ذلك نلبس الحداد على أشباه كينجي. هذا ما يجعلني غاضباً. يموت الشبان الشجعان لأسباب غبية والمجرمون الحقيقيون ما زالوا معنا، يركبهم الخوف من أن يَظهروا على حقيقتهم، من أن يعترفوا بمسؤوليتهم». وأنا متأكد أنه قال عندئذ وهو يمد بصره نحو الظلمة بالخارج: «هذا في رأيي أفدح جبن على الإطلاق». اليابان القديمة لقد أُرغم العجوز على إعادة النظر في قيمه بعد أن رزح تحت أحمال الفقدان، بعد أن تملكه الإحساس بالمسؤولية عمّا لحق بشعب اليابان من أذى الحرب من جراء تأثير أمثاله، مَن طوعوا الفن لخدمة السياسة. خسر احتراماً كافح طيلة حياته للفوز به، بل إن تلاميذه تبرأوا مِن فنه، مرة احتقاراً لما اعتبروه خيانة عظمى، ومرة خوفاً مِن تأثير هذا الفن في ظل سيطرة أميركية هيمنت عسكرياً وثقافياً عقب الحرب. بات في النهاية يتفكر في ماضيه ويتأمل دوره في صنع عالَم أصبح اليوم نابذاً له. الواقع أن العجوز -نموذج متكرر في روايات إيشيجورو- ما هو إلا أثر من آثار اليابان القديمة، إنها دولة تترع بصالات الشاي وتحفل بفتيات الجيشا وتزدان بحدائق منمقة لم تأت الصناعة ولا الفكر الغربي عليها بعد. سوف يجد القارئ الأبطال عاجزين عن التواصل مع من حولهم، غير واثقين من صلاحية أفكار الحرب القومية، وإن أبوا مقايضتها بقيم غربية حديثة لا تَعدم الريبة. إن علامات الموت والخراب تَلوح فوق روايات إيشيجورو، فوق دولة لا تزال متذبذبة بإزاء معنى الوطنية ما بين جيل ارتضى تكريس قدراته ليحقق أغراضاً توسعية نفعية وجيل يتطلع إلى مستقبل أفضل في ظل السلام.