كان المفترض أن يجري التحول المذهبي بهدوء، بلا إعلام ودعاية، وليكن مثل تحول بلير من البروتستانت إلى الكاثوليك مثلا، وهو رئيس وزراء المملكة المتحدة خلاف مذهب ملوكه، وكنت كتبت مقالا (توني بلير.. أوهمني أمراً، »الشرق الأوسط«، 30 يناير 2008). فما زال التحول تديناً لا سياسة يحصل بين المتحول ونفسه، على أنه طريق إلى الله. فالمخاطر التي أدت إلى صراعات مذهبية نزلت لتمارس بين العوام. سنأتي على حالات التبدل المذهبي، والتي قادت وتقود إلى تثوير العداء، بعيداً عن الغاية من التحول كقناعة عقائدية. فأخذ المتحولون يزيدون التربص بمذاهبهم السابقة، على أنهم عاشوا شيعيين أو سُنيين بالخطأ. آتي بنموذجيين من هذا التحول، الذي يصح لي أن أسميه بالعنيف، بما ينطوي عليه من الثورة ضد الانتماء السابق، وهو الشيخ التُّونسي التيجاني السماوي وشيخ عراقي سنأتي على تجربته في المقال القادم. تحول السماوي إلى المذهب الإمامي، ولا نشك في اعتقاده، ولا نعترض عليه، لكن الاعتراض على إعلان التحول كهداية من ضلال، ومِن صف الأعداء إلى صف الأولياء! نشأ وتربى السماوي سنياً على المذهب المالكي، وصوفياً تيجاني الطريقة، وحسب كتابه »ثم اهتديت«، كان متديناً منذ الصغر، اختير على صغر سنه في بعثة إلى الحج، وهناك تعرف على شيوخ السلفية، وتعلق به رفضه لزيارة الأضرحة، وكان لا يتردد في الدفاع عن هذه العقيدة رغم أنه ظل صوفياً، والصوفية يكرمون أضرحة الأولياء، بما لا يختلف عن المظاهر التي يؤديها الشيعية الإمامية. فحصل له بداية التفكير في عقيدته، بعد اللقاء بشخص إمامي صاحبه في الباخرة من القاهرة إلى بيروت، ودعاه لزيارة العراق، وانطلق معه في رحلة إلى زيارة الحضرة القادرية ثم الكاظمية والنجف وكربلاء، وحضر منتديات فقهية هناك، وتزود بكتب عن التشيع، لكنه ظل محصوراً بآراء المتطرفين ضد الشيعة، وهناك فقط كشف بأنهم يعبدون الله ويؤمنون برسالة نبيه ويقرأون القرآن نفسه، ولما عاد إلى تونس كتب رسالة يعلن فيها اعتقاده بالمذهب الشيعي الإمامي، ليؤسس جماعة شيعية. كتب رسالته في الهداية الجديدة إلى محمد باقر الصدر (أُعدم 1980)، كان ذلك بحدود 1970، بعد اللقاء بالمرجع أبي القاسم الخوئي (ت 1992)، وصار وكيلا له بتونس. بعدها أخذ التيجاني يُقدم أهل السنة بكل معتقداتهم بأنهم على ضلال، وأنه اهتدى إلى الطريق القويم، حتى سمى نفسه ب»المستبصر«، وسمى من أدخله في المذهب بتونس أو خارجها ب»المستبصرين«. يقول التيجاني: »كان التحول بداية السعادة الروحية، إذ أحسست براحة ضمير، وانشرح صدري للمذهب الحق، الذي اكتشفته، أو قل للإسلام الحقيقي، الذي لا شك فيه، وغمرتني فرحة كبيرة واعتزاز بما أنعم الله علي من هداية ورشاد..« (ثم اهتديت). حينها ومازالت ترفع كتب التيجاني كأدلة على صحة المذهب و»خذلان« مذهبه السابق. نسأل التيجاني، هل أن مليار مسلم كانوا وما زالوا على ضلال؟ وهل تدينه السابق كان مجرد ضلالة؟ عندما نتحدث عن الهداية والضلال عادة تكون في الدعوة الدينية، يُعلن عنها على أنها من دين إلى آخر لا من مذهب إلى آخر. ليكن ما يفكر به الشيخ التيجاني على أنه هداية لنفسه لكن التصريح بها في هذا الحقل الملغوم لا يأتي بنتائج محمودة على ما بين المذهبين من تعايش في بلدان مختلطة، وسيتخذ الطائفيون كتبه أدوات لتجديد العداء كلما خمد في مكان يظهر في آخر. قلنا لا نشك بعقيدة التيجاني، فهذا شيء يخصه، غير أن عرض هذا التحول بهذه التظاهرة لا أظنه يزيد الشيعة ويُقلل من السنة. كما أن التواريخ التي بدأ فيها التيجاني استبصاره، على حد عبارته، كان غير مرتبط فيها بالثورة الإيرانية، فقد التقى بالعراقي الشيعي بمصر، وكان الأخير يدرس في الأزهر، بُعيد حرب يونيو 1967، فالحديث كان يجري عما عُرف بالهزيمة، لكن من المؤكد أن كتبه انتشرت بشكل كبير بعد الثورة الإيرانية، وأخذت تفهم بالمنحى السياسي. بعد تحوله الإمامي أخذ يعمل على توسيع دائرة الكسب، وكأنه كسب حزبي، من دون التفكير بالاحتقان الشرس. يمكن تفهم الأمر لو جرى تديناً، لكنه أخذ يحصل على الطريقة الحزبية. فعندما تريد كسب شخص لابد من هدم عقيدته السابقة وتشكيكه فيها، مع أن كل نقاشات الشيخ التيجاني تخص التاريخ، وما حدث في قضية الخلافة، بمعنى أنها لم تحمل روح المستقبل والإخاء، وها نحن في زمن تجريد السيوف، فكيف بمن يستعجل الاشتباك. كان على الشيخ التيجاني، وغيره من المتحولين، وما سنأتي عليه في المقال القادم من مسألة معاكسة تماماً، أن يستخدم تاريخه وعاطفته القديمة والجديدة في إحلال السلام والتعايش، ولا نقول التقريب، فليس بالضرورة أن تقترب المذاهب في فروعها، فهي صعبة المنال، وعلى حد بيت النجفي بحر العلوم (ت 1992): »أنا ابتغي مزج الفروع/ وإن يكن في الامتزاج مشقة وعناء« (بعض المذاهب 1934). لم يكتف الشيخ التيجاني بإعلان التحول، وسرد قصتها، بل يذهب إلى نبش التاريخ، منذ بداياته، وليته شرح عقيدته الجديدة مثلما يتحدث علماؤها فيها، بلا شطب على العقائد الأخرى، إنما أخذ يعتبر كل ما يمت لعقيدته السابقة بأنها ضلال، ويكفي أنه عنون كتابه »ثم اهتديت«. هذه صورة مِن صور التحول المذهبي المشاكس، وفي المقال القادم سنأتي على معاكسها، وهو أيضاً شكك واهتدى واستبصر. إن قصة التحول بهذه التظاهرة تُقلل كثيراً مِن منزلة الدين قبل المذهب. نجد في تجربة التيجاني ما يفند ادعاءات الإسلام السياسي على أنه ليس طائفياً، مثلما يقدم نفسه، فما أن تحول التيجاني حتى قطع أصدقاؤه »الإخوان المسلمون«، كراشد الغنوشي، علاقتهم به، وحذفوا أسمه، مقابل أن الصدر، وكان أحد مؤسسي »حزب الدعوة«، قدّمه في مجلسه: بأنه »بذرة التشيع لآل بيت النبي في تونس، كما أعلمه بأنه بكى تأثراً عندما وصلته رسالتي مهنئة تحمل إليه بُشرى احتفالنا لأول مرة بعيد الغدير« (ثم اهتديت). فعلى أي مذهب أرادوا قيام دولهم الإسلامية، من »إخوان« سنيين أو »دعوة« شيعيين؟ إذا كانت مسألة الإمامة أخرجت التيجاني من التسنن إلى التشيع فإنها نفسها أخرجت الشيخ حسين المؤيد مِن التشيع إلى التسنن، فتأمل المفارقة.