«وإن نحن انطلقنا من وضعنا الواقعي، فإنّه يصبح من التغفُّل طرح حداثة غربية مقابل تراث إسلامي. والحال أن التراث نفسه تغيّر بفعل إقحامنا في الحداثة » . عبد الله حمودي لن نبالغ إذا ما قلنا إن إشكالية الفكر العربي الذي ينعت بالمعاصر، وغير العربي من كيانات العالم الثالث قاطبة، هي إشكالية الحداثة نفسها. ينطبق ذلك على الفلسفة كما ينطبق على العلوم الاجتماعية والإنسانية من بينها الأنثروبولوجيا، إن لم نقل على تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العربي وكلّياتها. فأي حديث عن إشكالية الحداثة يجرّنا إلى إشكالية الأصالة أو الهوية أو التقليد أو الثراث، إن لم نكن أمام إشكالية واحدة : إشكالية الحداثة والهوية. على عكس التصورات التي هيمنت في الثقافة العربية، التي تنحو إما منحى القول بكونية الحداثة المفقودة في ذاتها متناسية الشروط التاريخية، الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والفكرية التي تمخّضت عنها وولدت في أحضانها، أو أخرى تؤكد على خصوصية قاتلة تقول بحداثة مخصوصة، بحداثة عربية أو إسلامية، أو تصورات تراثية تنغمس في التراث أو بالأحرى في التقليد؛ تقليد التراث. في مقابل تلك التصورات يقدم لنا الأنثروبولوجي عبد الله حمودي في كتابه الموسوم ب : « الحداثة والهوية سياسة الخطاب والحكم المعرفي حول الدين واللغة «، تصورا مغايرا للحداثة، بأي معنى يكون مغايرا ؟ لا ينفك صاحب الحداثة والهوية عن تأكيده المستمر على تعالق الحداثة بشروطها التاريخية المرتبطة بالمجتمعات الغربية أو الأورو-أمريكية كما يحلو لكاتبنا تسيمتها. إن الحداثة واقع تاريخي، تكوّن في أروبا القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي ما سمي ب « عصر النهضة « ، وهي نتاج لجملة من العوامل يحددها في أربعة : يتحدد الأول في التراكم المادي وتغير العلاقات الاجتماعية، والثاني في الإصلاح الديني، والثالث التطور العلمي، ثم الرابع الذي يتجسد في الحركة الفكرية والفلسفية. كل هذه العومل ساهمت بشكل أو بآخر في تشكيل ما سيسمى لاحقا بمنظومة الحداثة. وعلى هذا الأساس، واستنادا الى حس ماركسي، فإنه يستحيل إعادة إنتاج الحداثة في عالمنا العربي كما أنتجت لدى غيرنا. لهذا ينبغي علينا إعادة النظر في التصورات السائدة لمنظومة الحداثة، بما تقوم عليه من ثنائيات مفتعلة قد تكون متجاوزة واقعيا، مما يجعلها تدور في حلقات مفرغة. لايكتفي عبد الله حمودي والحالة هذه بتمحيص تلك التصورات المعهودة للحداثة أو بنفيها، وإنما يدعونا باستمرار إلى التعامل مع الحداثة بشكل مغاير. كيف ذلك ؟ من خلال الإبداع المستقل. والحال أننا مقحمون، أردنا أم أبينا، منذ ما يزيد عن قرنين في منظومة الحداثة والعولمة حاليا، فإنه يتوجب علينا في ظل العلاقة مع المجتمعات الأورو- أمريكية أو القوى المتغلِّبة، البحث عن التوازن والموازنة بين القوى، شأننا في ذلك شأن الأقطاب الجديدة التي تحاول تعديل ميزان القوى. تلك الموازنة التي تفرض علينا أوّلا وقبل كل شيء الإبداع المستقل في مختلف المجالات، كل حسب إمكاناته وميدان اشتغاله. وفي هذا السياق كتب :» الحصيلة الواقعية عندنا، إثر القطيعة التي أتى بها الاستعمار، هي جهد الناس في إبداع طرق المعرفة وأنماط الحياة. فالعلماء، والأدباء وأهل الفنون عندنا يبدعون يوميا في مجالاتهم… كل هذه الأطياف تنشط اليوم فرديا وجماعيا وترسم مساحات متجدّدة للحرية والحقّ في الحرية الفردية وتوسيعها، في إطار التواصل والاحترام، وفي اتجاه مجتمع يتسع للجميع. هذه الإبداعات تشمل حركية تراكم في طريق بناء حداثة كواقع جديد عندنا «. بهذا المعنى يمكن القول إن الحداثة عندنا لا يمكن أن تكون إلا بوصفها إبداعا مستقلا.