طُرح هذا السؤال مطلعَ ثمانينيات القرن الماضي من طرف الجمعية الفلسفية التي كان يديرها الفقيد محمد عزيز الحبابي، وكان سياقه مرتبطاً بحضر الفلسفة في الجامعة المغربية. ونحن اليوم إذ نستعيد هذا السؤال، فإنّ قصدنا منه خلق نقاش جديّ حول الفلسفة اليوم وما يعتريها من انحصار في الفضاء العمومي، وانصراف الباحثين الجدد عن المشاريع الكبرى. لقد حاولنا في هذه الحوارات أن نسلط الضوء من جديد على الراهن الفلسفي وأسئلته في المغرب انطلاقا من التحولات الكبرى التي عرفها العالم كاكتساح العولمة، وتزايد التطرف والأصوليات المتعددة، وأن نفتح أفقاً رحباً لراهننا المغربي والعربي. وإذا كان جيل الأساتذة الأوائل، مؤسسي الدرس الفلسفي في المغرب، قد قدموا مشاريع كبرى ودراسات في التراث، والفكر السياسي، والفكر العربي، والفلسفة المعاصرة؛ ومارسوا الترجمة وحرّضوا الطلبة على البحث والترجمة؛ فإن ثلة الباحثين الذين اخترنا محاورتهم على امتداد حلقات هذا النقاش المطوّل، قد نشروا بدورهم كتابات في الفلسفة، وما انفكوا منشغلين بهذا الميدان المعرفيّ تدريسا وتأليفاً. فهل ما تزال الفلسفة تتمتّع بالجاذبية نفسها التي كانت تتمتع بها فيما مضى؟ وهل هناك استمرارية أم قطيعة مع جيل الأساتذة ؟ أسئلة من بين أخرى طرحناها عليهم، آملين أن تكون استضافتنا لهم على منبر جريدة « الاتحاد الاشتراكي « مساهمةً في تحريك الأسئلة والنقاش في فضائنا العموميّ الذي ما انفكّ يرتكن إلى السكون والوثوقية.
o لا أحد من المدرّسين والملاحظين يستطيع غضّ الطّرف عن قضايا: العنف، والكراهية، واستحالة العيش المشترك. كيف تقرؤون هذه القضايا في ضوء التّفكير الفلسفي؟ n سبق لي أن تناولت هذا الأمر في بحث سابق، وأنا هنا لن أستطيع إلا أن ألخص جزءا مما ذكرته فيه. أول قناعة عندي بهذا الخصوص هي أن العنف ليس «مفهوما» لهذا فلا يمكن تناوله وفق رؤية أخلاقية، بل هو على الحقيقة «واقع»، أي شيء من نسيج الكائن وصميم الوجود، فالحياة نفسها لا تكون ممكنة دون مستويات معينة من العنف، فنحن لا نحيا ونستمر ككوناتوس ( بعبارة سبينوزا)، إلا بتفكيك والتهام واستدماج موجودات أخرى، والتاريخ في العمق ليس إلا مسارا طويلا من التدافع والعنف بين الناس والأجناس والدول والشعوب، حتى اعتبر بعضهم الحرب محرك التاريخ. هذا أمر لا بد أن نتبيّنه ابتداء، لأن تبينه يعصمنا من السقوط في كثير من التصورات الساذجة التي قد نجد، من مثل تلك التي تفترض أن البشرية عرفت مجتمعات دون عنف، أو أنه بإمكاننا أن ننتج ما ليس فيها عنف، هذا غير ممكن في هذا العالم، أو على الأقل في العالم كما نعرفه لحد الآن، فما دامت هناك حياة، ستبقى هناك حدود من التدافع ضرورية. على أن الوعي بهذا الأساس الوجودي هو الذي يجعلنا، وللمفارقة، من الناحية القيمية والسياسية، نفكر في إمكانية العيش المشترك، فالأمر هنا هو على شاكلة ما قاله هوبس وماكيافيل، فلأن العنف ضروري «وجوديا»، وجب اختراع «التعايش» سياسيا؛ ولأن الحرب أم الجميع كما قال الحكيم اليوناني القديم، وجب اختراع السلم اجتماعيا. إذا فهمنا هذا الأمر سنتبين حقيقة وهي أن السلم لا يأتي من طيبوبة أصلية مفترضة في الطبيعة الإنسانية، بل يأتي من الوعي المضاعف بالخطر، فلأن الجميع هو ذئب قياسا للجميع، بعبارة هوبس دائما، ولأن «الكل يعرف أن الكل قادر على أذى الكل»، سيجنح هذا الكل للسلم. إذا تبينا هذا سنتبين أمرا عمليا آخر، وهو أن ثقافة «النصيحة» ليست مقدمة للسلم، بل هي تبرير بعدي للحرب، فإذا كان التصور العامي يعتبر أن السلم والتحرر من العنف يأتي بالحديث الأخلاقوي والوعظي عن الخير والطيبة، فإن ما يبينه التحليل الفلسفي هو أن هذا الوعظ ليس البرنامج النظري «القبلي» الذي سيمهد لتعايش عملي أخلاقي بعديا، بل هو على الحقيقة التنفيس «البعدي»، الذي يأتي «لخدمة» الواقع العملي العنيف السابق عليه، وهذا ما يفسر كوننا نرى بأن أكثر المجتمعات احتفاء بالوعظ والأخلاقويات هي المجتمعات الأكثر عنفا في الواقع. على هذا الاعتبار فالحل لن يكون، في هذه القضايا، بحديث النوايا الطيبة، بل بالتحرر من ثقافة الوعظ والمطلقات الأخلاقية عينها، إذ أن في الاعتراف بما فينا من النقص والعيوب، من الأسباب التي تحرننا من العيوب، أكثر مما في أي خطاب نظري يتغنى بالأخلاق والتعالي؛ لهذا فإني شخصيا أجد أن فلاسفة من مثل سبينوزا وماكيافيل وهوبس وغيرهم، هم أكثر إقدارا لنا على التحرر من مظاهر العنف والحرب التي ذكرتم، من كل التقييدات المتعالية الأخلاقية، لولا أن هذا نظر جدلي للأمور نوعا ما، وليس من المضمون أن الجموع التي تميل بالسليقة للتبسيط والسهولة، أن توافقك عليه، أو تعيه عنك. o يترواح الدّرس الفلسفي في المنظومة التعليمية والتربوية، بين من يراه ضرورة تتجاوز غاياتها أسوار المؤسسات التعليمية، وبين من يراه مجرّد معرفة محدودة الدّور في تكوين شخصية المتعلّم. ماهي أبعاد هذه الرؤى وانعكاساتها على الفلسفة من جهة، وعلى المجتمع من جهة أخرى؟ n لا ينبغي أن يتم تناول هذا الأمر، في اعتقادي، وفق رؤية قطعية، أي أنه لا ينبغي لنا أن نتناوله وفق تصور «ينتصر» للفلسفة أكثر مما يجب، ولا تصور «يكره» الفلسفة ابتداء، فكلا الموقفين خاطئ. على أني أتصور أن بسط أسباب خطأ الموقف المنتصر للفلسفة، والذي لا أخفي أني أقرب إليه، هو ما قد يعني المرء أكثر، وأما الموقف المعارض، فأسباب خطئه هي أوضح من أن تبسط. ما الذي يمكن أن نحتاط منه في موقف مثل هذا الذي «ينتصر» للفلسفة، كما عبرت، أكثر مما يجب؟ أولا بأن نستحضر أن الفلسفة ليست دينا، ثم بأن نستحضر أن الفلسفة ليست هي «تدريس الفلسفة»، وتدريسها في سياق محدد على الأخص، فصحيح أن المشتغل بالفلسفة محتاج لاقتناع عميق بجدواها ومعناها، بل ربما هو محتاج لانخراط وجودي فيها؛ انخراط قد يجعلها ترتقي عنده لتصير اختيارا في العيش والموت، لكن هذا الانخراط والاختيار والاقتناع بالفلسفة، هو منفصل عن تدريس الفلسفة في مكان وزمان مخصوصين، هما بالضرورة محكومان بشروط اجتماعية وحضارية وتربوية خاصة بمجتمع معين، وفي اعتقادي إنه سيكون من الخطأ، «فلسفيا»، الخلط بين الأمرين. ولأن الأمر كذلك، ولأنه لا ينبغي لنا أن نتناوله وفق منطق قطعي كما ذكرت، يبدو لي أن أسئلة من مثل «هل ينبغي ان ندرس الفلسفة؟» و»هل الفلسفة مهمة؟» هي أسئلة ضعيفة، تماما كما خطابات المديح التي قد تدبج عن الفلسفة في إطلاقيتها، فالفلسفة فاعلية إنسانية عمرها عشرات القرون، وتراثها يتجاوز الجميع، فما تحتاج من أحد أصلا أن يمدحها، بل الأجدى والأجدر بالعناية، في نظري الخاص، هو أن نتساءل مثلا: عن أي فلسفة نتحدث يكون علينا تدريسها؟ ولأي غاية ووفق أي هدف وبالاحتكام لأي معيار قيمي وسياسي؟ وما هي الوسائل التي يمكن أن نعد لذلك وما مدى نجاعة هذه الوسائل؟ مثل هذه الأسئلة هي الأحق بالتأمل وليس الحماس فقط، إذ الحماس موقف انفعالي خالص. وحتى نكون عمليين أكثر هنا، توافقا مع روح السؤال التي أراها عملية، لننظر في نماذج التدريس، ولننظر في النموذج الأرسخ في تدريس الفلسفة دوليا وهو فرنسا. إن فهم هذا النموذج لا يمكن أن يتم ما لم نتبين في ظل أي شروط وبأي غاية تم استحداثه ابتداء، فتدريس الفلسفة في فرنسا جاء في إطار تصور يعتبرها بديلا عن الدرس الديني في المجتمع العلماني الذي نتج عن الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداث ووقائع. فالغاية كانت هي ملأ حاجة إذن، حاجة عملية وسياسية، ذلك أن انسحاب المقدس من المجال العام، خلق حاجة عند المجتمع الفرنسي لبديل معياري يُفزع إليه في التأسيس للقيم البديلة التي هي قيم الجمهورية، في هذا السياق ثم استحداث المدرسة العمومية التي عُدت « كنيسة» الجمهورية، ورجل التعليم الذي عُدّ «جندي» الجمهورية، وتم ترتيب المعارف بالتدريج، من القراءة والكتابة، إلى حدود الباكالوريا التي يتوج فيها مسار التلميذ بدرس الفلسفة، على اعتبار أن التلميذ حينها يكون قد نضج بالقدر الذي يمكنه من أن يتعلم ويفكر ويتمثل قيم المواطنة وحقوق الإنسان والعيش المشترك والنقد وغيره، التي هي عماد الجمهورية الوليدة. والحقيقة أن هذا التصور هو الذي ما يزال موجودا إلى اليوم رغم تراجع حضور الفلسفة، الذي تم بسبب من تراجع قيم الجمهورية والمواطنة أمام منطق السوق والنجاعة والفعل المباشر. الأمر ليس كذلك بتاتا في نموذج المغرب مثلا، فتدريس الفلسفة جاء مع الاستقلال، وفي سياق الرغبة في بناء تعليم «مستقل»، فلم يجد القيمون على الأمر حينها من مرجع يستندون إليه غير نموذج النظام الاستعماري المنسحب، فنسجوا على منواله، دون أن يتم تمثل وتبين الخلفيات التي حكمت النظام المرجعي الفرنسي بما يكفي، هكذا وجدنا جملة من العجائب عندنا، من قبيل ربط الفلسفة بالعقيدة، وتدريسها معها، ثم المزاوجة بين تدريس الدين والفلسفة، وهذا كان غير متسق، وخلق، وما يزال يخلق، التنافر الذي يعرفه الجميع بين الدرس الديني والفلسفي في المدارس المغربية، وهو تنافر يبلغ حتى مضامين الدروس، هكذا نجد التلميذ يدرس في الحصة الدينية معارف باعتبارها قطعيات لا تناقش، مضمونة بقوة الدولة والقانون والعرف والمجتمع، ثم نطلب منه، في نفس الآن، أن ينتقد ويحلل ويتحرر في درس الفلسفة، وهذا في أفضل الأحوال يجعل الدرس الفلسفي غير مجد، وفي أسوئها مكروها ومنعوتا. أمام اضطراب الاختيارات القيمية هذه، والتناقض الظاهر الذي يحكم حاجات مجتمعنا «المهنية» ومطالب الفلسفة الإنسية العامة، وما صار إليه درس الفلسفة، يبدو أن المشرفين أوجدوا حلا، وهو حل ليس أقل قبحا مما ساد لحد الآن، كونهم اجتهدوا في تحويل الفلسفة إلى نوع من الخطاب العام الرخو حول القيم والأخلاق والسلوك الحسن، إي إلى نوع من «التربية الأخلاقية» التي تستبدل البعد المعرفي الصلب الذي دائما كان حاضرا في الفلسفة، بنوع من الوعظ السلوكي، وهذا قتل للفلسفة بصيغة أخرى، بل لعله القتل الأقبح، إذ حينها لا تصير الفلسفة أكثر من «استطلاع آراء للفلاسفة التلاميذ»، حول عموميات أخلاقية، وفق منطق «ميكروفون الشارع» (Micro trottoir)، استطلاع يضع انطباعات التلاميذ على قدم المساواة مع مفاهيم الفلاسفة ونصوصهم، بعد أن يتم تشذيبها وتخليصها من كل حمولة معرفية وفلسفية قوية؛ كل هذا في سياق تصور» ترفيهي» واستهلاكي عن معنى الفكر والنقد، لا يزعج أحدا ولا يؤزم وضعا. في سياق مثل هذا لا يبدو لي شخصيا أن نضال بعض الأساتذة والزملاء الكرام حول زيادة ساعة أو نقصها في التدريس، يفيد شيئا، بل لعل تدريسها، برمته، حينه يصير غير ذي قيمة، لأنه يصير اعتداء على الفلسفة، فيذهب المرء إلى حد تمني أن يتوقف تدريس هذه المعرفة الشريفة أصلا، إذ أن هذا سيكون أفضل لها من أن تتحول إلى نوع من العاكس الغفل للقناعات الشعبوية التي يتقاسمها الناس في الشارع أو يتداولها الإعلام. o يُلاحظ انحصار الدّرس الفلسفي في المغرب في الاشتغال بالتراث والإبستيمولوجيا والفلسفة المعاصرة. هل يمكن الحديث عن استراتيجيات أخرى لتجديد مدارات هذا الدّرس؟ n الآفاق التي يمكن التفكير فيها لا حدود لها، لكن ما تفضلتم بذكره من حدود في الموضوعات والرؤية حكمت البحث الفلسفي في المغرب، أعتبره شخصيا مرتبطا بما ذكرناه سابقا عن طبيعة هذا الدرس. في المغرب ظل البحث الفلسفي مرتبطا، في نشأته وتطوره، بعنصرين اثنين، الأول منهما هو السياق السياسي، والثاني هو الإبدال التعليمي. وأما عن السياق السياسي فما ينبغي أن نتذكره هو أن ظهور الدرس الفلسفي في المغرب، أو استئنافه، بعيد الاستقلال، احتكم إلى الظرف التاريخي الخاص لفترة ما بعد الاستقلال، والذي كان من مميزاته النزوع العام للمغاربة، شعبا ونخبا، لتجاوز وضع التبعية والاستعمار وإثبات الذات، وفي هذا السياق يأتي مثلا إقرار التعريب والمغربة والعودة نحو التراث لتجديده. الأمر سيتزكى فيما بعد مع الحراك السياسي القوي الذي عرفته البلاد في الستينيات بأثر من المد اليساري والذي كان غاية في الأهمية والقوة، إذ لا ينبغي أن ننسى أنه قد مضى على المغرب، وعلى الدرس الفلسفي فيه، زمن كانت تصنف فيه الكتابات والأعمال وتقوّم بحسب «رجعيتها» أو «ثوريتها»، وهذا أمر لا يُستثنى منه حتى أكبر مفكرينا، من مثل الجابري والعروي، وربما يكفي الرجوع للكتابات الأولى للعروي والجابري، وللثاني في نقده للأول خصوصا، حتى نتأكد من هذه الحقيقة. طبعا لن يكون من الصواب أن نقول نحن اليوم، من علياء قناعاتنا، إن هذا التوجه كان خاطئا كلية، فهذا لن يكون له من معنى بالنظر إلى أن هذه التصورات ارتقت لتصير «شرط وعي» في عصرها، ثم بالنظر أيضا إلى أن هذا التوجه، ومهما كان حكمنا القيمي عليه، خلق فورة حقيقية في مجال الإنتاج الفكري، ومنها نصوص ما تزال تعد إلى اليوم مرجعية في الدرس الفلسفي المغربي. لكن مع ذلك يمكننا أن نقول، على الأقل، إن هذا السقف الإيديولوجي قد جعل الفكر الفلسفي في المغرب يظل موجها ومنحصرا في مرجعيات معينة، هكذا فلم يتح للمغاربة، وربما للثقافة العربية كلها، في تلك الفترة أن تتجاوز حدود الفكر الجدلي، فلم تتح إمكانية التعرف على فلاسفة كبار من مثل هايدجر ونيتشه وبرغسون مثلا (مع خلا بعد المجهودات الخاصة كما كان الشأن مع الحبابي)، إذ كان مثل هذا الاهتمام سيعد حينها نوعا من «الرجعية»، وكذلك ظل الوضع حتى نهاية الثمانينيات. الاعتبار الثاني الذي ذكرناه ميزة للاشتغال الفلسفي بعيد الاستقلال كان هيمنة «الإبدال» أو الهم التعليمي، وفي هذا السياق أكرر ما ذكرته في الجواب السابق، من كون الفلسفة في المغرب لم تأت نتيجة حاجة مجتمعية واعية، جعلتها تفرض ضرورة حضورها تعليميا، بل العكس، كونها كانت «فرضا» من المدرسة على المجتمع، بغاية تحديثه «المحتشم»، مع كل ما حكم هذه الغاية من حواف وحدود ذكرناها سابقا. والحقيقة أن هذا الأمر، أي النزوع التعليمي، جعل المشتغلين بالفلسفة أمام تحد حقيقي، وهو خلق درس فلسفي مغربي، باللغة العربية، من العدم تقريبا، إذ ما خلا النصوص التراثية وبعض ما كتبه أهل الشام ومصر في النصف الأول من القرن العشرين، لم يكن هناك أي شيء ليدرّس، هكذا تجرد عدد من أساتذتنا، وبزهد ومجهود كبير جدا، لإنشاء درس فلسفي مغربي، فكانت فترة نهاية الستينيات وإلى حدود أواسط الثمانينيات فترة ترجمة وتيسير وتقريب و«مدرسة» عدد من النصوص والمفاهيم والإشكاليات، وفي هذا السياق، لم يكن أساتذتنا يملكون امتياز «الاختيار»، بل كان عليهم أن يفعلوا كل شيء مرة واحدة، فوجدنا الجابري وتلامذته خصوصا (عبد السلام بنعبد العالي، سالم يفوت، محمد سبيلا…) يكتبون في الإبستمولوجيا والتراث والفلسفة المعاصرة في نفس الآن، وهذا الجهد بالنسبة لي كان نبيلا جدا، لأنه كان محكوما بحس وطني وهمّ عضوي، لهذا، وتماما كما قلت فيما يخص الميسم الإيديولوجي لهذه الفترة، لن يكون من السليم، من وجهة نظري، أن نعتبر هذا الجيل «لم يفعل شيئا» فيما تناوله من مباحث، وهذا ما نسمعه اليوم من بعض الشباب الذين، وبمسمى «الدقة الفيلولوجية»، يزعمون أن ما قام به الجابري وعدد من تلامذته من قراءات معاصرة للتراث، لا قيمة له، فهذا في اعتقادي خالص وقاحة ومحض جهل، إذ بالنظر لشرط العصر ومحدودية الوسائل التي أتيحت لجيل أساتذتنا، بالنظر لطبيعة تلك الفترة وما طبعها من شحن سياسي وقمع، يبدو لي ما قام به هؤلاء الأساتذة شيئا مهما جدا. أما الاختيار والتخصص في البحث فهذا ربما امتيازنا نحن الذين جئنا فيما بعد، بعد أن ترسخ، إلى حد معين، الدرس، وتوضحت بعض مكوناته، وارتفع سقف البحث وشرائطه، وانحلت سلطة الإيديولوجيا، لهذا فأنا ما فتئت أردد لأصدقائي من أبناء جيلي جملة وهي إننا جيل «حظه وحده»، في الآن نفسه، كونه ولد في فترة انحسار الإيديولوجيا، ّحظ لأننا نتمتع بامتياز التفكير والكتابة فيما نريد، وحدّ لأن وهج الحماس الذي كان يحفز أساتذتنا ويدفعهم للعمل، خبا وتراجع.