بعيدا عن القضايا المجتمعية، وعن الانشغالات اليومية للمواطن التي يلامسها الإبداع عموما، يوفر لنا القاص أحمد بلكاسم من خلال مجموعته القصصية «رأس تحتاج إلى ترتيق»لقاء بعالم الكتابة والإبداع، وتحديدا بالكتابة القصصية التي أخلص لها، ولم يغادرها لحد الآن إلى جنس إبداعي آخر. فلا تخطئ عين القارئ الحضور المكثف لمقولات الإبداع وأسئلته النقدية في هذه المجموعة عبر اللغة والرموز والإشارات. فباستثناء أربع قصص وهي: «الأربعون شيطانا» و»غصة» و»وقت الذروة» و»سروال مكعب» تميزت باقي قصص المجموعة الخمس عشرة بطابعها الميتانصي، وتضمنت وجهات نظر نقدية كشفت عن مفارقات تستدعي التوقف والتأمل. وبهذا الحضور النصي من داخل المجموعة القصصية يكون أحمد بلكاسم قد انتقل من الخطاب الاجتماعي إلى الخطاب الأدبي، وتحول من مخاطبة المتلقي العام والكتابة لجماهير القراء كما في المجاميع القصصية السابقة، إلى مخاطبة فئة خاصة من المتلقين هم الفاعلون في هذا الجنس الإبداعي مبدعين ونقادا، وبالرغم من هذا التحول والانتقال فإن لغة الكاتب حافظت على خطيتها وخصوصيتها، فهي كتابة قوية ساخطة تسعى إلى الهدم وخلخلة السائد وإعادة بناء واقع جديد تحكمه قواعد فكرية وجمالية، ولكي يحافظ النص القصصي لدى الكاتب على إبداعيته وجماليته وهو ينتقد الكتابة القصصية ويصوغ مقولات إبداعها، وحتى لا يسقط في التقريرية والمباشرة عمد إلى توظيف آليات فنية وإبداعيةارتكز فيها بالأساس على السخرية. 1 – التصورات النقدية في الإبداع القصصي: تتمحور هذه التصورات حول جنس قصصي ناشئ وهو القصة القصيرة جدا، هذا الجنس الذي عرف إقبالا واسعا من قبل عدد من الكتاب، وبدأ يحقق تراكمه ويلفت إليه الأنظار، وأصبحت تقام له المهرجانات والملتقيات داخل المغرب وخارجه، وكثر مريدوه ومناصروه في الوطن العربي الكبير. هذا الاقبال الذي لم ينطلق في جانب منه من وعي فني وجمالي بطبيعة الكتابة السردية وخصوصياتها، ولم يتأسس على رصيد معرفي ورؤية إبداعية، وإنما انطلق عند الكثيرين من فهم خاطئ لهذا اللون من الكتابة، انحصر في اليسر والسهولة، فكان أن انتسبوا إليها مباشرة دون أن يجربوا القصة بقواعدها المعروفة، ولا حتى أن يرتووا منها وينهلوا من معائن روادها في الشرق والغرب، كما هو مفروض في كل أشكال الكتابة الإبداعية، ودون أن يعوا من جانب آخر أن هذا اللون الجديد هو ذلك السهل الممتنع الذي لا يقوى عليه إلا من جرب الكتابة وخبِر مجاهلها، الشيء الذي أثار حفيظة كاتبنا ودفعه إلى أن يتخذ منهم مادة للحكي، تنطوي على العديد من التصورات النقدية. ففي قصة «سروال من حلفاء» ص: 11 يضعنا الكاتب أمام صورة كاتب سولت له نفسه كتابة رواية طلبا للشهرة، وتلميعا لاسمه، غير أن بياض الصفحة خذله وخيب أمله، فاستعصى عليه الأمر. وليجد لنفسه مخرجا من هذه الورطة وسوست له نفسه بكتابة قصة قصيرة جدا، ففعل. وهي قصة تتضمن تصورين نقديين: يتعلق الأول بدوافع الكتابة الإبداعية ومحفزاتها وأهدافها التي قد تنحصر في الجوانب الموضوعية والذاتية التي تدفع الكاتب إلى التعبير بهذا الجنس أو ذاك لخدمة موضوع محدد ورسالة معينة، وليس من أجل الشهرة كما جاء على لسان بطل القصة، فليست القصة القصيرة جدا ذلك السبيل اليسير ليبلغ الكاتب مأربه كما في هذا التوصيف «يا له من جهبذ صنديد، اختار أيسر وأقصر السبل لبلوغ الهدف، اختار أن يكتب القصة القصيرة جدا..جدا..جدا…!"ص: 31. ويرتبط التصور الثاني بالتمثلات الخاطئة الخاصة بهذا الجنس الإبداعي، فلا يجب أن يكون اختيار القصة القصيرة جدا واللجوء إليها عجزا من الكاتب، فهي ليست مطية ذلولا للعاجزين والمخفقين في عالم الكتابة والإبداع، وإنما هي اختار فني وجمالي. وفي قصة "قصص تحت الطلب وخدمة ما بعد البيع" ص:17، يؤكد الكاتب ضرورة توافر شرط الإبداع في كل عمل إبداعي، يضمن للمبدع تميزه وللإبداع جماليته، وهو شرط افتقدته كثير من الكتابات المجنسة تحت مسمى قصص قصيرة جدا، فإما أن يتعسف عليها صاحبها ويلوي عنقها من أجل ضمان مشاركة في مهرجان، أو يلجأ إلى تجميع كلمات متنافرة يقرصنها من هنا وهناك، فلا حدث يلحم سداها ولا حبكة تقيم بنيتها، فيؤلف منها قصته القصيرة جدا، وقد عبر الكاتب عن هذه السلوكات ب"قصص تحت الطلب" يطلبها "كويتب" القصة القصيرة جدا من كاتب آخر فتأتيه مسواة. وقد شدد الكاتب على شرط الإبداع، وأكد تلك السلوكات التي تسيء إلى العملية الإبداعية مرة ثانية في قصة "شاطر" وهو يسرد اختيارات أصدقاء في حياتهم الخاصة، فكان أن بلغ التفكير بالشاطر والحاذق منهم أن "اشترى رواية صنع بها ألف قصة وقصة قصيرة جدا" ص: 37. ولم يقف الكاتب عند حدود الدعوة إلى التزود بالمعرفة العلمية والأدبية وتحقيق شرط الإبداع والغائية باعتبارها مقومات أساسية في كتابة القصة القصيرة جدا، فقد استرسل في إظهار الهنات وترصد العثرات التي تعكس في المقابل مقولات نقدية، بلغ به المدى أحيانا إلى إعلانها صراحة داخل سياق سردي كما في قوله: "الاستسهال يسبب الاسهال للقصة القصيرة جدا […] لا تبخسوا ال ق ق ج حقها […] أعطوا ال ق ق ج أجرها قبل أن يجف حبرها" ص: 48، 49. وهي مقولات شاملة لقضايا الإبداع تختصر مقوماته الأساسية بشكل عام، وتدعو إلى استيفاء هذا الجنس حقه من ناحية اللغة والخلق الأدبي الذي يراد به ذلك "الجهد البالغ الذي يقف وراء ظاهرة الانثيال أو عفو القول"بعيدا عن التصنع والتعسف، ومن ناحية القيمة الأدبية للمادة التي ينسج القاص منها نصه والتي تنتج من تعمق الكاتب للحادثة والنظر إليها من جوانبها المتعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة بالإضافة إلى العناصر البنائية الأخرى من فضاء وزمان وأحداث وشخوص وسرد، هذه العناصر التي حتى وإن جاز لها أن تختفي داخل النص القصصي أو تعوم فيه، فإنها تعوض بانبثاقات عاطفية نابعة من مواقف شعورية أو باستغلال الرموز والأساطير التي يجعل منها الكاتب إطارا عاما لفكرته ووجهة نظره الخاصة. هذا ما لم يعه كتاب القصة القصيرة جدا، وما لم يلمسه الكاتب في إنتاجاتهم. وبهذه التصورات النقدية يكون أحمد بلكاسم قد مارس النقد من داخل الإبداع، ولعل انصرافه إلى هذه الوجهة هو في الحقيقة غمز للنقد الأكاديمي الجاد ولمز له، هذا النقد الذي لم يستطع بما أوتي من صرامة علمية وسلطة منهجية أن يوقف هذا الزحف السرطاني لهذا النوع من الكتابة التي حازت صفة الإبداعية وسحبت بطاقتها من نقد صحفي لا يقل سخافة عن هذه النصوص المنقودة. فلا بد للنقد والنقاد أن يتحملوا مسؤولياتهم في ما آلت إليه الكتابة الإبداعية ومنها القصة القصيرة جدا، مسؤولية لا تتحدد في وجوب مواكبتهم لما يصدر في هذا الباب، وإنما في مباركتهم له، وهذا هو الأخطر، من خلال ما يحبرونه من تقديمات لهذه الأعمال أو ما يقدمونه من أوراق نقدية تقريظية في مناسبات مختلفة، تذر الرماد في العيون وتحور الحقائق، فتجعل من صاحب الإصدار هرا يحكي قصة الأسد، قد يدفعه الغرور إلى مضاعفة رصيده من الإصدارات، ومن ثم تعميق أزمة الإبداع وتعقيدها. لقد أشار الكاتب إلى هذه الظاهرة وعبر عن امتعاضه منها في قصة «غيْرة» ص: 51 التي تحكي عن كاتب قصص قصيرة جدا سعى إلى المشاركة في مهرجان، فلم يرقه ما كتب، فما كان عليه إلا أن يحمل بنات أفكاره إلى صالون تجميل تديره خليلة ناقد كبير، فإذا بالقصص تتأنق وتتجمل، بل الأكثر من ذلك تصبح متعددة الاستعمالات يمكن قراءتها شعرا كما يمكن قراءتها قصصا، وفي ذلك إشارة عميقة إلى الصورة التي أصبح عليها النقد، فقد تخلى عن دوره، وعن تحكيم المعايير العلمية في قراءة النصوص، وتحكمت فيه القرابات والولاءات والإخوانيات، فأصبح نقدا تحت الطلب، الأمر الذي أساء إلى الإبداع كثيرا وفتح الطريق أمام الغث والهجين. وقد كان لهذا النقد نصيب من لذع قلم أحمد بلكاسم في قصة «حوار وراء الأسوار» أيضا وهو يستفسر أحد أصحابه عن جديد مهرجان القصة القصيرة جدا، وفي ما قدمه النقاد من أوراق نقدية فأجابه قائلا: «لم يأت بنظرية جديدة، وإنما جاء بقلم وردي يسيل عطرا فواحا ودلالا خص به الراغبات في سجله العائلي من القوقجيات» ص: 75. ولعل القلم الوردي استعارة للدلالة على نقد المجاملات الذي يهدف إلى حشد الولاءات لأنه يخص «الراغبات في سجله العائلي» أي المنضمات إلى صفه، نقد لا يتجاوز كونه كلاما معسولا لا يقترب من النص بتاتا، ولا ينظر إليه، وإنما ينصب على النفس فيوسعها ثناء ومدحا، وبخاصة إن كانت نفسا مؤنثة، ومن «الراغبات» كما أشار إلى ذلك الكاتب. إن هذه التصورات النقدية التي صاغها المبدع، لا تعبر عن موقفه من القصة القصيرة جدا باعتبارها جنسا إبداعيا- وإلا لما كان الكاتب يقدم عليها هو الآخر، وفي هذه المجموعة قيد الدراسة- وإنما هي موقف من الفاعلين فيه، ودعوة إليهم لكي يراجعوا ذواتهم دون أن تأخذهم العزة بالإثم. فجميل أن تمارس الكتابة الإبداعية فوضاها من منظور مضاد لنظام التكريس والتعليل والأمثلة، وجميل أن تستشرف أشكالا وتقنيات جديدة، ولكن بالقدر الذي يضمن لها أصالتها وإبداعيتها، ومن ثم فاعليتها في التعبير والتغيير. 2 – الآليات الفنية في صياغة مقولات الإبداع: عمد الكاتب في صياغته لمقولات الإبداع القصصي وتصوراته النقدية إلى توظيف السخرية باعتبارها الأسلوب الأكثر ملاءمة للكشف عن الأمراض والعلل التي تنخر جسد الإبداع، وباعتبارها الأداة الأصلح لتحديد المرجعية الفكرية والأدبية التي يجب أن يستند إليها كاتب القصة القصيرة جدا والصورة التي من المفروض أن تكون عليها كتابته حتى تستوي نصاكامل الأهلية، وذلك بطريقة فنية تخدم مضمون النص الذي لا يخلو من موقف فكري يعكس رؤية الكاتب إلى عالم الكتابة والإبداع. فقد شكلت السخرية أحد العناصر الأساسية في النص القصصي إلى جانب السرد والحوار والوصف أو هي مندغمة في هذه الجوانب، لا تتبدى إلا بتحليلها جميعها، وتبيان دلالاتها، فهي أحيانا ناتجة عن الوصف والمبالغة فيه، وأحيانا ناتجة عن الحوار بين الشخصيات، وأحيانا من خلال مقاطع سردية وتوظيفات معجمية ولغوية، مما يجعل منها بنية فنية أو خطابا يؤلف بين أجزاء النص القصصي ويرتاد به عوالم التجريب. ففي المقطع السردي التالي: «فمنذ أن من الله عليه بحفظ بيت شهير من الشعر لصاحبته تماضر بنت عمرو، إبان مسيرته التعليمية المظفرة في أحد فصول المرحلة الثانوية والذي قضى فيه ثلاث سنوات حسوما» ص: 11. نقف عند وضعية ساخرة تقوم من الناحية المعجمية على المفارقة اللغوية، ذلك بأن المسيرة التعليمية المظفرة لا تقتضي من صاحبها أن يقضي ثلاث سنوات من الشؤم في فصل واحد، وقد أفادت هذه المفارقة في توليد الدلالة التي ليست إلا التنقيص من شأن هذا الرجل والتهكم من مستواه الثقافي الهزيل، مستوى يتأكد من خلال مخزونه المعرفي ورصيده القرائي الذي لم يتجاوز حفظ بيت من الشعر لصاحبته الخنساء، ومع ذلك أراد أن يصبح مبدعا. وإذا كان في الوضعية السابقة يسخر ممن يقتحم مجال الإبداع وهو صفر الذهن والذوق، ففي وضعية أخرى ومن خلال المفارقة اللغوية كذلك يسخر ممن اغترف من معائن مختلفة لكنه في النهاية لم يقو على الابداع في أي من الأجناس الابداعية المعروفة، فاختار أن يصب عجزه وإخفاقه في هذا الجنس المدعو قصة قصيرة جدا كما في هذا المقطع: «لقد قرأ ما فيه الكفاية من كتب القصص والروايات والأشعار والمسرحيات والدراسات أيضا، الآن هو على يقين تام أن ما زرعه من كلام أنيق وبذيء وأحداث وكوارث وخرافات وتخاريف وسباب وغرام وخيال وجد وهزل، ضمته بين سطورها تلك الرزمة من القراطيس قد نبت نباتا وأزهر ثم أثمر ثمارا طيبة لابد وأن يجود بشيء منها على الغير» ص: 29- 30. وهذه المفارقة بين النهل من مضان الإبداع، وزرع الكوارث والخرافات والتخاريف تفيد الاستهزاء حتى من الطبقة التي أوتيت نصيبا من العلم، والتي يعول عليها في بناء صرح الأدب غير أنها سقطت في الهجنة وساهمت في تعميق أزمة الإبداع. كما يستثمر الكاتب تقنية القلب والتحوير في توظيفه للألفاظ أو العبارات، فعلى مستوى استعمال اللفظ نجد: «كاتب مطمور» ص: 44 بدل أن يقول مغمورا، و»قصيردته» ص: 27، بدل قصيدته، و»البهرجان» ص: 71 بدل المهرجان. وفي توظيفه لهذه التقنية فهو لا يترك الكلمة معراة، وإنما يوردها داخل سياق سردي أو يعمد إلى وصفها مما يسمو بها إلى مقام السخرية كما في تعليقه على كلمة «بهرجان» في قوله:» يريد أن يقول المهرجان لكن أنفه المزكوم أبى إلا إخفاء الميم رغما عن أنفه» ص: 71. وعلى مستوى العبارات نجد : «حقوق الطبخ محفوظة للمؤلف» ص: 27، و»كجلمود صخر حطه السقف من عل» ص: 27، وكذلك «لا تنابزوا بالأقلام» ص: 48، وقوله :»تحية ققجية عطرة» ص: 71 وبالإضافة إلى المقومين السابقين، يستثمر الكاتب الوصف الذي يعتبر سمته المميزة في كل أعماله، فمن خلاله يخلق الكاتب وضعيات ساخرة وخاصة حينما يتعلق الأمر بالسخرية من الشخوص، كما في هذا الوصف الذي خص به ذلك الكاتب الذي تاق إلى الشهرة تماما كما بلغها صخر مرثي الشاعرة الخنساء بعد حفظه لبيت من أبياتها الشهيرة «وإن صخرا لتأتم الهداة به**كأنه علم في رأسه نار» هذا البيت الذي قدح فيه نار الغيرة، يقول: «ومن شدة أوار هذه النار تفحم وجهه، واكفهر دم قلبه، وولاه شيطان إبداعه إسته المشوي» ص: 12، فهذه العبارات الواصفة ليس من هدف وراءها سوى الاستهزاء والسخرية بشخص أراد أن يبلغ الشهرة ويقتحم مجال الابداع برصيد معرفي لا يتعدى بيتا واحدا من الشعر، ولعل في قول الكاتب: «ولاه شيطان إبداعه إسته المشوي» أبلغ تعبير عما يمكن أن يصل إليه هذا المبدع من نتائج. وفي موضع آخر يصف كاتبا معتدا بنفسه مغرورا بما يذيعه في حقه مقربوه من إطراء قائلا: «يصبو أن ينال إحدى الجوائز الأدبية العالمية، أقل ما يطمح الحصول عليه هي الغنكور أو البوكر.. ولم لا الازدواجية.. حلال عليه أن يجمع بين الأختين وحتى الجدة نوبل[…]بما أنه استحلى ارتداء خرقة الكبرياء المرصعة بلآلئ الغرور، فمن المؤكد أنه سيحصد من البطائق الحمراء ما يجعل مؤخرته تتورم في دكة الاحتياط»ص: 44فكان بذلك أسلوب الوصف وسيلة الكاتب في خلق المواقف الساخرة ومن التقنيات المعتمدة أيضا التكرار ولعبة استبدال السياق، فنجد الكاتب ينقل عبارة «القصة القصيرة جدا» إلى سياقات أخرى فتعطيها نفسا ساخرا كما في قوله: «ملاحظاتكما وجيهة جدا جدا جدا» ص: 14، و»بتواطؤ مع النفس الأمارة بالسوء جدا جدا جدا» ص: 14، «موضوع لم تطأه قدم قاص قصير جدا» ص: 17، «الحامل لبطاقة تعريف بيومترية قصيرة الحجم جدا» ص: 18، «شكرا قصيرا جدا» ص: 19، «صوت مبحوح جدا جدا جدا» ص: 80. فأصبحت بذلك لفظة «قصير جدا» وسما لكل عمل يقوم به كاتب هذا الجنس القصصي، كما نجد الكاتب يتعمد تكرار لفظة جدا مرات عدة حتى في حال الحديث عن القصة القصيرة جدا فيسميها القصة القصيرة جدا جدا جدا، وهو تكرار تهكمي يسعى من خلاله إلى المبالغة فيما وصل إليه هذا الجنس من انحطاط. ولم يكتف الكاتب بلمز القصة القصيرة جدا فقط، بل وجه سهامه إلى جنس الشعر أيضا، وإن بشكل عابر، نظرا لما تعرفه القصيدة هي الأخرى من فوضى ومن اختزال شديد يكاد يذهب بمقوماتها الفنية، ففي قصة «ماء مثلج» ص: 77 يظهر موقفه الرافض لهذه الكتابات التي جنست نفسها شعرا، ولكي يظهر ضعفها جعل صوت القصيدة يبح وهي تعتلي المنصة لتشنيف أسماء الحضور بمجرة شربة ماء بارد فلم يسمع منها سوى «صوت الهواء صوت مبحوح جدا جدا جدا» ص: 80 إن ما يميز السخرية في قصص أحمد بلكاسم كونها تأليفا إبداعيا تندرج ضمن النسق العام للقصة، يقوم ببنائها عن طريق خلق وضعيات ومواقف داخل النسق السردي أو الحواري لقصصه، ففي قصة «ذات جمعة مباركة» يختلق القاص وضعية غياب خطيب الجمعة، وإجماع المصلين على تنصيبه إماما عليهم، فكانت تلك فرصته الذهبية ليصب جام غضبه على القصة القصيرة جدا وأشباه المبدعين فيها، ويسخر من سعيهم، ومما جاء في الخطبة التي ألقاها في حضرة المصلين قوله: «أيها القوقجيون اسمعوا وعوا، وليبلغ الحاضر منكم الغائب» ص: 48، وقوله وقد فرغ من الصلاة مستثمرا في ذلك حواره مع أحد المصلين: «أستاذ من فضلك ما معنى ال ق ق ج؟/ تعني القصص القصيرة جدا/ في أي التفاسير أجدها؟/ عليك بالقوقجيين» ص: 50. خاتمة: إن المبدع أحمد بلكاسم وهو ينحو بقلمه هذا المنحى، ويجعل من النص القصصي موضوعا للكتابة، إنما ينطلق في ذلك بدافع الغيْرة عن هذا الجنس الأدبي، ويسعى إلى صياغة أسئلته الحقيقية المتعلقة بلحظة التكون والتخلق التي تعتبر اسئلة جوهرية لا يمكن الانطلاق إلى غيرها إلا بعد توضيحها واستيفائها حقها، مؤمنا في ذلك بأن النص العليل لا يمكنه أن يعالج واقعا أشد منه علة.