أًصدر ثلة من النقاد والباحثين مجلة فصلية نقدية متخصصة في النقد الادبي والبلاغة "البلاغة والنقد الأدبي"، وقد رأت الجريدة أن تحاور مديرها الأستاذ محمد العدناني لتبين هوية هذه المجلة وآفاقها ورهاناتها، في سياق أدبي يفتقد إلى مثل هذه المجلات المتخصصة. ما هي دواعي تأسيس مجلة في النقد الأدبي والبلاغة؟ هل هي استجابة للجامعة والطلبة والبحث النقدي، أم خصاص في المجلات المتخصصة؟ لا يجد المرء انسجامه وتوازنه إلا في المجال الذي يشتغل به وفيه. ومن حسنات الانشغال بالبحث العلمي أنه يَدُلُّكَ باستمرار على مَلاذات تحس فيها بنوع من الانسجام العاطفي والنفسي والفكري، حتى وإن لم يكن الكثيرون يؤمنون بجدوى هذه الملاذات. دعني أُذَكِّر أن هذه المجلة هي الثانية التي أُصْدِرها بمعية مَنْ معي من الأصدقاء الباحثين المتحررين من كل القيود، إلا من قيد البحث العلمي. إذ أسست وأصدرت مجلة أولى بعنوان "البلاغة وتحليل الخطاب" مع أصدقاء آخرين باقتراح من أستاذنا محمد العمري، وتسيير الصديق العزيز إدريس جبري. لكني قدمت استقالتي منها ابتداء من العدد الثاني لأسباب تتعلق بمنهجية العمل، ولاختلاف في هيكلة الجهاز الإداري للمجلة، ولأسباب أخرى أحتفظ بها لنفسي حتى يحين موعد الإفصاح عنها. ولأني لا أحب أن أظل بعيدا عن الهم الثقافي المرتبط أساسا بتحليل الخطاب، فكرت، مع زملائي الحاليين في هيئة التحرير، في إنشاء مجلة "البلاغة والنقد الأدبي" التي لا تختلف في أُسسها ومنطلقاتها، عن مجلة "البلاغة وتحليل الخطاب". هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لاحظت فراغا مهولا في الساحة الثقافية المغربية من المجلات المتخصصة في الشأن الأدبي عموما، والبلاغي خصوصا. مع ما لهذا المجال من أهمية قصوى في مقاربة خطاب السياسيين، ورجال الدين، والأدباء، وعامة الشعب. وأرجو أن نوفق في إيجاد مَعْلَم ثقافي/ بلاغي- نقدي يستوعب هذا النقاش بضوابط تحليل الخطاب المتحلل من الأهواء. والأمل أكبر في أن نمتلك القدر الكافي من الصبر والاصْطبار ليظل هذا المَعْلم بارزا لأطول مدة ممكنة. إن أحد الهواجس الأساسية التي تحكمت في تأسيس المجلة، هو تحقيق توازن ذاتي شخصي. فأنا ومن معي من الزملاء باحثون ومُدَرِّسون للأدب واللغة ببعض الجامعات والمراكز المغربية، وبذلك فتأسيس مجلة بهذا التوجه احترام للتخصص والانتماء للمجال. إننا مهتمون بتحليل الخطاب بمختلف تجلياته، وإذا نظرتَ إلى تخصصاتنا، ستجد بعضنا مهتما بالأدب القديم، والبعض بالأدب الحديث، والبعض الآخر باللسانيات. وهذا التنوع يشمل أيضا الهيئة الاستشارية التي تتشكل من أبرز أعلام الثقافة المغربية والعربية، بتخصصات ومرجعيات مختلفة. كل ذلك جاء نتيجة استحضارنا لتنوع الملقي واختلاف تكوينه ومستوياته. فالمجلة موجهة إلى الطالب، ثم الطالب الباحث، فالأستاذ الباحث... لماذا البلاغة والنقد الأدبي عنوانا للمجلة. ألا يكفي أحدهما، أم ثمة تمايز بينهما؟ عُرفت البلاغة العربية بتنوع منابتها ومصادرها، وتعدد الخلفيات المعرفية للمتدخلين في مجالها. وقد انعكس هذا على فهم الناس لها وتصنيفها، فمنهم من اعتبرها علما لتحليل الخطاب، ومنهم من رآها علما لإنتاجه أيضا. إنها في جميع الأحول: "العلم الذي يتناول الخطاب الاحتمالي المؤثر"، إن تتبع مسار البلاغة العربية من النشأة إلى الاستواء، يبرز - بوضوح- شدة ارتباطها بحقول معرفية أخرى تقاسمت معها دائرة الاهتمام نفسه، بل إن هذا الارتباط صار التباسا لا سبيل إلى فك شفرته. ونقصد بذلك النقد الأدبي الذي كان أصلا من أصولها الأولى حين كان مجرد ملاحظات تتتبع النص الشعري القديم تتبعا بسيطا، وحين تحول إلى بحث مُمَنْهَج للكشف عن الخصوصية الأدبية، فصار مستثِمرا لمكونات البلاغة لتمييز الجيد من الرديء، والوقوف على ما يميز خطابا عن آخر. لقد تقاسمت البلاغة والنقد الأدبي مواضيع البحث والدراسة، فاقتطع أحدهما من أرض الآخر في مختلف الأزمنة، لكن في إطار التداخل والتكامل، لا التخارج والتنافر. ولذلك، لا سبيل للفصل بينهما إن على مستوى موضوعات الاشتغال أو الآليات، أو حتى صفات وألقاب المشتغلين في هذا المجال، إذ غالبا ما يقوم لَقَبُ البلاغي مقام لقب الناقد، فنقول: البلاغي أو الناقد أو كلاهما. وهو أمر حاصل قديما وحديثا، ومستمر في الحقل الأدبي. ينضاف إلى تداخل الحقلين، تداخل الخطابات وتَشَعُّبها وتكاملها أيضا، ولذلك لم يعد مقبولا الاكتفاء بما ترسخ في الأذهان من تصورات مبتورة حول طبيعة ووظائف البلاغة والنقد الأدبي، والاكتفاء بذلك في ظل انفتاح المعارف التي تقاسمت الساحة الثقافية، وإنما صارت المعرفة بآليات الربط بين علوم اللسان والمنطق والإنسان مُلحة وضرورية. ولن يكون ذلك إلا باستيعاب تصورات القدماء من البلاغيين والنقاد، ودراسة اجتهادات المحدثين منهم، لمعرفة مختلف التصورات والنظريات، والإحاطة بخلفياتهم النظرية، ومرجعياتهم المعرفية. البلاغة والنقد، كلاهما علم لدراسة الخطابات، يلتقيان في الكشف عن مكونات النص، وإن توسل أحدهما الآخر. ومن الصعب جدا الاكتفاء بمفهوم دون آخر. فلا أحد يقوم مقام الثاني أو يعوضه، ولا يستطيع هذا السير دون الاتكاء على ذاك. من هنا جاءت التسمية جامعة للمفهومين القائمين على التساند. البلاغة والنقد الأدبي تكريس للبحث في المجال الأدبي بمختلف تلويناته. ألا زلتم تؤمنون بجدوى الأدب في ظل دعوات التشكيك في أهميته؟ من المؤلم حقا أن نسمع مثل هذه الدعوات التي هي أحد مظاهر الخلل في البنية الذهنية لمجتمع لا يقدر المعرفة، ولا يميز بين مستوياتها، ولا يفهم الحاجة إلى التنوع في هذه المعرفة، لأنه نمطي الرؤية والتفكير، يرفض التنوع والتعدد. وقد تصدى المثقفون بمختلف أطيافهم إلى مثل هذه الدعوات التي تأتي نشازا أحيانا. منهم من رد بفُيوض عاطفية، ومنهم من رد ردا علميا رصينا عَرَّى بُطلان هذا الخطاب الظالم. وأكبر رد مني، ومن أمثالي، أننا نُصِرُّ على الأدب لإيماننا بأن الحاجة الأولى للإنسان تتمثل فيه. فهو فقه الإنسان، به تُطَهَّرُ الأرْواح والنفوس. وبدون فقه، لا علم يُطْمَأَنُّ إليه. إننا مؤمنون بالأدب، والمؤمن لا يُسأل في عقيدته إلا وتَشَبَّثَ بها. تُذكِّرني مثل هذه الدعوات/ الفُقاعات، بالتصور الذي يؤمن به كثير من الناس: أن تطورنا رهين بإتقان اللغات الأخرى (سمعنا مناديا ينادي بذلك فآمنا: أتقنا كل اللغات التي تقدم بها أصحابها... وظللنا على رأس المتخلفين. فماذا يعني هذا؟ إنه بطلان الدعوى. فكذلك يُبْطِل التاريخ دعوى المشككين في الأدب وأناسه). إنه انفصام نعيشه باستمرار، يتبدى بكل وضوح في خطابنا مرة أخرى، وفي كل المجالات. كيف تمولون المجلة؟ ببساطة شديدة، تمويل ذاتي يعتمد على مساهمات أعضاء هيئة التحرير في انتظار دعم الجهات المتخصصة في هذا الباب. وأعتقد أننا عازمون على السير بمشروعنا إلى حيث نهدف (ترسيخ قيم البحث والمعرفة) بوسائلنا الخاصة، بما في ذلك من تضحيات جسيمة تعرفونها. وننتظر دعم الوزارة لمشروعنا إن رأت أنه يستحق ذلك. ما هي حصيلة التوزيع والإقبال على المجلة لحد الآن؟ لا نملك أي إحصاءات دقيقة لأننا لم نتوصل بعد من الموزع بحجم المبيعات، إذ لم يتم جمع نسخ العدد الأول من السوق بعد. لكن الذي أستطيع تأكيده هو أن المجلة لقيت ترحيبا كبيرا من قِبل القراء، ومساندة وتشجيعا من لدن أصدقائنا وأساتذتنا (ليس الكل طبعا)، ولكن أغلبهم. وهذا هو رصيدنا الذي نستثمره لإنجاح المشروع الذي أؤكد أني -ومعي أغلب أعضاء هيئة التحرير مشكورين- عازمون كل العزم على الاستثمار في البحث العلمي على الرغم من وعينا الكامل أنه يدفع إلى الإفلاس المادي. سننحت من أنفسنا إلى حد التلاشي، لأجل البحث العلمي. هل تتوقعون انتشارا عربيا للمجلة على غرار دراسات لسانية وعلامات؟ لا شك أننا ونحن نضع اللبنات الأساسية للمجلة فكرنا في قارئ عربي كَوني، أي أينما كان. وتركيزنا على العالم العربي بدا واضحا من خلال أمرين؛ أما الأول فيتمثل في وجود اسمين عربيين كبيرين في مجال النقد والترجمة، ضمن الهيئة العلمية للمجلة، هما الأستاذان عبد الله الغذامي من السعودية، ومنذر العياشي من سوريا، إضافة إلى أعلامنا المغاربة الكبار الموجودة ضمن الهيئة نفسها. والأمر الثاني يظهر من طبيعة المساهمين في العدد الأول، والذين سيساهمون في العدد الثاني أيضا، إذ يوجد دارسون وباحثون من مختلف الدول العربية: المملكة العربية السعودية، سوريا، الأردن، العراق، مصر، الجزائر.. هذا ونحن في البداية. وأتوقع أن تصل الأصداء بشكل أوسع إلى كل الأقطار. ليكون ذلك تمهيدا لتسويق صورة المجلة هنالك. وسنشتغل على هذا الجانب بكل تأكيد. الأهم الآن أن نقدم مادة معرفية بضوابط علمية تصنع باحثا وقارئا على مستوى كبير من الدقة والرصانة.